صحيفة المثقف

العذرية البيولوجية والعذرية السلوكية؟

hamid taoulostتتبعت مند أيام برنامجا في إحدى الفضائيات الألمانية  يناقش العذرية، الموضوع الذي لا يزال يُشكل هاجسا مؤرقا للكثير من مجتمعات العالم العربي والإسلامي، وتحتل جرائمه أرقاما عالية فيها، بصراحة لم أكن أنوي الكتابة عن هذا الموضوع المستهلك كثيرا، لكن المنحى الذي أخذه النقاش المتلفز، أثار حماستي للكتابة، خاصة بعد انقسام المتدخلين إلى فريقين، ربط أحدهما محافظ مفهوم العذرية البيولوجية بعفة الفتاة واختزلها في غشاء البكرة الذي يرى في سلامته كل شرفها ويرفض أن يسبقه إليه غيره، ويأبى،حد الهوس المرضي،إلا أن يكون الفارس الأول والأوحد في الوصول إلى إفتضاضه، وتنتابه مشاعر القهر، وتسيطر عليه أحاسيس الذل والمهانة التامة عند تخيله أن زوجته كانت يوما ما بين ذراعي رجل آخر تمارس الجنس بسعادة ورغبة، ويعتبر ذلك مسا برجولته وانتهاكا لكرامته ولكل حرماته، من رجل "غريب"، وما زاد من حماستي للكتابة في هذا الموضوع الحساس، هو دعوة الفريق الثاني من المتدخلين، الفتاة إلى  التطويح بعذريتها كيفما اتفق، للتخلص من قيود التحكم الذكوري المتوارث، لانتفاء وجود مرجعية دينية أو علمية تربط الشرف بغشاء البكارة، الذي تبقى وظيفته الطبيعية في الجسم –حسب رأيهم- هي الحماية من العدوى الجرثومية فقط، و لأن شرف المرأة الحقيقي هو الصدق والنزاهة، ما جعل مفهوم العذرية يختلف باختلاف ثقافات والآراء التي حصره جزء منها في غشاء البكارة، وتوسع الجزء الآخر في مفهوم العذرية لتشمل السلوك والروح والجسد، الأمر الذي جعلني أقف حائرا، لا أدري من أية الزوايا أبدأ الموضوع بشكل موضوعي ؟ أأبدأه من الطرح الذي يعتبر أن ذاك حق مُكتسب للرجل، رغم أنه يطيح، وإلى حد بعيد، بقيمة العذرية والعفة والفضيلة والشرف بمعناها والروحي والسلوكي، لتتعداه إلى مفاهيم راسخة تتعلق بإشكالية التحكم في النظام الجسدي وضبطه، ويجعل المرأة "المستعملة "من قبل رجل آخر، غير صالحة للحب والزواج في صوره النموذجية المحترمة، حتى وإن كانت قد "استعملت" في نطاق المؤسسة الشرعية التي يقرها الدين والمجتمع والقانون أي مؤسسة الزوجية ؟! أم اعتبر ذلك جريمة إنسانية بكل المقاييس، وأضع نفسي محل تلك الأنثى التي تساق للذبح مثلما تُساق الشاة، لتتكبد أنواع الإيذاء النفسي وهوانه، في ظل ازدواجية حكم مقيتة يعتبر المرأة عاهرة إن هي مارست مع أكثر من رجل، ويعتبر الرجل فحلا، إن هو مارسه مع أكثر من إمرأة، وغير ذلك من التصورات والاتجاهات الظالمة التي يزخر بها التراث الثقافي الشعبي، والتي صاغها الإنسان العربي عامة والمغربي خاصة انطلاقاً من الخطاب المعرفي والديني وباقي التقاليد والمعتقدات المتعلقة بإشكاليات العفة والفضيلة والشرف، والتي أدت إلى وجود الكثير من نماذج السلوك والتفاعلات والممارسات التي أرخت وما زالت ترخي بظلالها على التفكير الجمعي الشعبي كقيمة استراتيجية في مواجهة الشهوة المحرّمة، والتي من بينها مفهوم العذرية الذي ينطوي على أبعاد تطهرية، قائمة على كبت  الرغبة الجنسية للمرأة، وفرض قيود على جسدها، وتحديد أساليب ضبط حركته بما يتسق والتصورات التي يكتظ بها الترات الثقافي للمجتمع - رغم تباينه وفقاً لتباين طبقاته الاجتماعية -من عناصر تعمل على تدعيم قيمة تلك العذرية البيولوجية، والحفاظ عليها، وربط زوالها بالدنس، في العديد من القيم الوثيقة الصلة بها و المترسخة في عقلية الذكورية في الكثير من المجتمعات ، مثل الزواج والتنشئة الاجتماعية والختان والحجاب، بوصفها آلية من آليات الضبط والرقابة، التي تمارس على جسد الأنثى لكبح رغباتها الجنسية، من أجل الابقاء على غشاء البكارة التي يتضح بشكل جلي من خلال البناء الاجتماعي والتراث الثقافي للعديد من دول الشرق الأوسط وجنوب إفريقيا وبلدان أخرى، أن كل الممارسات العنيفة والمُهينة التي مورست على المرأة عبر العصور ولازالت تمارس عليها إلى اليوم، إنما حدثت وتحدث بسبب قضية العذرية التي اختزلت إنسانية الأنثى وكيانها في مجرد غشاء بكارة عليها أن تجتهد للحفاظ عليه كدليل شرف لابد أن تقدمه لزوجها يوماً ما، لأن مستقبل الأنثى في عالمنا العربي والإسلامي هو الزواج، وأهم مقوّمات الزواج ومفهوم شرف العروس هو عذريتها، وفي حال ما إذا فقدت تلك العذرية قبل الزواج -طوعا أو كرها – فقد أضاعت معها شرفها ومستقبلها، والذي ستواجهها العقلية الذكورية بسببه،  بأشدّ أشكال العقاب التي تصل إلى حد القتل الذي لا يمحي عار التفريط في ذلك الغشاء الذي تسكن خلفه عفة وشرف المرأة،غيره من انواع العقاب، الأمر الذي من شأنه أن يبث الخوف في صدور الفتيات من ممارسة الجنس لأول مرة، و يعمل على تشكيل رقابة ذاتية، يرتاح لها المحافظون من الأهالي، أو يولد  –وهو الأخطر – عند الكثيرات منهن مشاعر عدائية تجاه المجتمع وتجاه الرجل، ويعمل على الدفع بالعديد منهن -كما يشهد الواقع- إلى تعهير أجسادهن وممارسة الجنس بشتى الطرق حتى الشاذ منها، للحفاظ على عذريتهن، وما الارتفاع المُهول في عمليات ترقيع غشاء البكارة، والإقبال المدهل على اقتناء "البكرة الاصطناعية الصينية " إلا دليل على أن  العديد من أخلاقنا السطحية، هي تحريض خفي على تعهير جسد الكثير من الفتيات اللواتي  يشعرن باحتقار شخصيتهن وامتهان كيانهن وثقافهن إن لم يكنن عذراوات، والذي يعتبرنه طعنة لمفهوم الكرامة والصدق والحبّ الذي يجب أن يجمع المرأة بالرجل، الذي تريد من الفتاة أن يحترمها كإنسانة لا تكذب ولا تغش بإجراء عملية إعادة العذرية ..

 

حميد طولست

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم