صحيفة المثقف

خمسون ...

ali salihjekorقبل نصف قرن تماماً، وبعد أن سلّمت الشمس بقليل*، صاحت القابلة أم نجم:

وَلد .. وَلد .. البشارة، إلي بالبشارة يا أبا مهدي .. البشارة ..

وقبل أن يدس أبوك الربع دينار في يدها، إستل مسدسه القديم من جرابه، ثم راح يطلق النار نحو السماء، وقبل أن يرتد رجع الصدى، إنهمرت الهلاهل كالمطر، وأختلطت برائحة البارود ...

فَرِحَ، جُنَّ من الفرحِ، وكأنك أول ولد له، هكذا قالت لي أمي ..

قالت في شهرك التاسع ركضت وراء الدجاج مثل دبدوب صغير، تسقط وتقوم، تقوم وتسقط، مثل دبدوب صغير كنت، فأصابتك عين جارتنا، عينها لاتخطيء يابُني، حملتك وركضت بك الى المُنجمين والمُنجمات، الأولياء، السادة، كدت تموت ياقرة عيني ..

لو تركتني أموت يا أمي !!

قُلتها يوم فُصلت في السادس الأدبي، ويوم حملت أوراقي صوب مركز التدريب، قلتها يوم حُبست في معسكر الرشيد، ويوم عبرت شط العرب في ذلك الشتاء القارس هارباً من وطني، قُلتها ألف ألف مرة في خضم هذه الحياة القاسية..

بين برج العذراء والميزان أتأرجح، هوائي، مائي ترابي، ناري، أنا خليط من كل هذه العناصر، أثور، أسكن، أنفجر،أهدأ ..

أحب اللون الأبيض للزهور، والوردي للشفاه،، والأحمر الناري للغسق ...

الخريف اقرب الفصول الى قلبي، فيه دفء الصيف وأرتعاشة الشتاء، فيه لذة الحزن الأزلي الكامن في صدورنا .. فيه حزن الشجر يذوي ويتعرى، حزن الحمائم عندما تفارق صغارها الأعشاش ..

ورثتُ عن أبي المغامرة واللامبلاة، وضّخ مافي القلب على اللسان ..

قالت لي حليمة زوجة خليل أبو كرش، الذي كان يكبرها بثلاثين عاماً، والذي مات بحادث سيارة بعد زواجه منها بأسابيع، وهي تشعل سيكارة، لي ولها أمام عتبة دكانهم و تتفرس بتدويرة وجهي وعينيَّ :

هل فلان أبوك؟؟؟

قلتُ بلا ..

أتعرفينه؟؟

قالت لا، أمي تعرفه ..

ضحكتُ بخبث، لطمتني بدلالٍ على وجهي : إذاً أنت إبن ذاك العفريت؟؟

قلتُ وأنتِ إبنة تلك القحبة؟؟

غضبت، جذبتني، دفعتني، ثم جذبتني ودفعتني، قالت كُف عن هذه الوقاحة ..

بالعكس ياحليمة قلت، إنها الصراحة ..

لكنها مؤلمة ..

الحياة مؤلمة ياحليمة ..

مضت تتبسم بحزن، وتنفث الدخان بوجهي، قالت : إما أن تُقتل أنت، أو تهرب بعيداً عن هذا المكان !!

صدقت نبؤتها، لقد نفذتُ من الموت بأعجوبة، بل أعاجيب، وهربت بعيداً، بعيداً، عن ذاك المكان الذي أحبه، والذي إسمه وطني .. ..

لم نكن فقراء جداً، كان بيتنا مشيدا بالطوب، في زقاق نصف بيوته من الطين، باب دارنا معدنية صدئة، بأمكانك إقتحامها وفتحها بإسناد كفك في أعلاها ورفسها من الاسفل، دون الحاجة الى مفتاح، كل الأبواب في حينا مثل بابنا يعلوها الصدأ ودونما أقفال، لكننا كنا نغفوا ملء جفوننا

لم نكن فقراء جداً، كنا فرحين، في باحة دارنا سدرة فتية، وحِب ماء، ودجاج يسرح، ومعزة، كنا نمتلك مروحة منضدية تتنقل بين الغرفتين الوحيدتين، ونضدة فرش ولحافات ملونة، وبسط تغزلها جارتنا العجوز..

كانت أمي تصطحبني الى سوق (إعريبة) القريب من قطاعنا، تحملني على كتفها النحيل، وسلة الخوص تتدلى من يدها، ذات مرة وأنا أتشبث بعباءتها، سحرتني اللُعب البلاستيكية الملونة، مددت يدي في الفراغ لأقبض على سيارة صغيرة، تشبثت بعباءة أخرى غير عباءة أمي، سرت خلفها مسافة بعيدة، لم تلتفت المرأة إلي، كانت منشغلة بنقل سلة خضارها الثقيلة من كتف الى كتف ..

توقفت أمام باب صدئة غير بابنا، دفعتها برجلها، ناديتها يا أمي، التفتت نحوي، ذُعِرت المرأة لمرآي، وذُعرت لمرآها، صرخت، بكيت، ركضت الى كل الاتجاهات، حضنتني وربتت على ظهري، ناولتني حبة مشمش، ثم حملتني وهرعت بي نحو السوق، حشد من الناس تحلقوا حول أمي التي إفترشت الارض، كانت تلطم خديها وتنفش شعرها وتصرخ.

كانت تلك النواة الاولى لخوفي من الفقد والضياع ..

حنين جارف يشدني الى ذلك البيت الذي ولدت فيه بمدينة الثورة، قطاع سبعة وأربعين، هذه المدينة العجائبية الدافئة، بيني وبين بيتنا حمى عشق، علاقة على نحو غامض، تمتد حتى هذه اللحظة ..

الصور التي برعمت خيالي وذاكرتي أستمدها من نسغ ذلك المكان، تلك الباحة المطرزة أرضها بظلال شجرة السدر، السطح المغمور بالشمس الذهبية في الضحى، والنسائم الباردة في الليل

السماء هناك مرصعة بنجوم، كثيرة كثيرة، لم أر أكثر منها في أي مكان آخر، نجوم تلتمع في السديم الرحب كاللأليء، أعدُّ منها حفنة، حفنتين، حتى يغشاني الوسن ..

لم يدلني أحد على القراءة، اهتديت الى ينبوعها السحري لوحدي، إرتشفت رحيق اوراق صفراء في كتبٍ قديمة لم أفهم جُلّها، لكني كنت مدركاً أن سراً يكمن بين تلك الطيات والسطور، سرٌ الى الآن لم أعرف كنهه، سأظل أبحث عنه بلهفة، وربما لن اعرفه حتى سقوط آخر ورقة من دوحة العمر..

خمسون مرة سقطت أوراق الخريف، لم احسبها يوماً من عمري، ولم أدري أنها مني، ولم أتنبه الى شيب المفرق، كنت أنظر إلي بمرآة شوشتها بعض ذنوبي، كل المرايا في بيتي تحمل آثار بصاقي، عدا مرآة واحدة إشترتها لي زوجتي، بعد توبتي ..

لي محطات في العمر، لاتنسى، تستيقظ كل يوم في ذاكرتي : في السادسة من عمري ركضت بأقصى سرعة صوب الصف الآول ب في مدرسة الحمدانية للبنين، وسط دهشة أمهات الأولاد الذين تعلقوا بأذيال عباءاتهن خوفاً من المعلم البدين الذي كان يلوح بعصاه من بعيد ...

في التاسعة إشترى لنا أبي دراجة هوائية زرقاء، حلقت بها مثل طائرة شراعية، في الازقة التي لم أكن سأكتشفها لولاها..

في السابعة عشر شربت أول كأسٍ في حياتي، حلمت يومها بالساحرة التي تمتطي المكنسة الخشبية، وهي تحلق على إرتفاع منخفض، وتلاحقني في أزقة أبي سيفين وقمبر علي، كنت ألهث مرعوباً، دنت مني الى الحد الذي صرتُ أسمع فيه صفير شهيقها وزفيرها، المنبعثين من أنفها الصقري المخيف، قهقهت بتلك الضحكة المجلجلة المخيفة، إنقطعت إنفاسي عندما لامست مخالبها وجهي، صدرت مني أنّة مخنوقة، رفس كابوسي البطانية، هرعت أمي إلي، حدثتها عن الكابوس، قالت : هذا إنذار من الله، لانك شربت الزفت، ستظل الساحرة تطاردك إذا لم تتب الى الله ..

لكن رأس البغل الذي أحمله، دفعني الى شرب الكأس مرة ثانية، رأيت هذه المرة في منامي، أن نجلاء فتحي طبعت قبلة طويلة من شفاهها الكرزية المعسولة فوق شفاهي

ومن يومها أصبحت الكوابيس والأحلام تتهافت بلاإنقطاع، بين مكانس خشبية، وشفاه عسلية، وبيريات حمر للإنضباط العسكري، وخوذ وبساطيل وجثث، وآخر الكوابيس لحى داعشية ورؤوس مقطوعة، ووطن ممزق يحترق أمام عيون أهله ..

في الثامنة عشر، فُصلت من الصف السادس الأدبي، بقرارات قرقوشية آنية، ابان الحرب اللعينة، في ليلة وضحاها، أصبح الطالب المتفوق جداً، متخلف عن الخدمة العسكرية، هارب، خائف، ذليل ..

في العشرين، إلتحقت بالخدمة الإلزامية، بكيت عندما نظرت الى رأسي الحليق ووجهي المغبر، تلبسني إنسان غريب لا أعرفه، هاجت شحنات كبيرة من الكره والتمرد في نفسي، هربت أكثر من مرة، حُبست مرات عديدة، شهدت مرغماً إعدام زميل لي، مازال وجهه الأسمر النحيل يؤرقني في كوابيسي ..

في الرابعة والعشرين، وفي يوم 7يناير 1991 عبرت وأخي شط العرب بأتجاه إيران، صارعنا الأمواج الباردة، رافقنا الموت الى الضفة الاخرى.. ومنها بدات رحلة عذاب من نوع آخر.

في السادسة والعشرين، وُلدتُ من جديد، تلقفتني أيادي رحيمة، إنتشلتني من رِحم الشرق القاسي، عيون ملونة، شعور شقراء، قلوب كبيرة إستوعبت تفاهاتي وماعلق بي من نفاق وكذب وأزدواجية، حملتها معي من موطني الذي ترتفع فيه أصوات المآذن خمس مرات في اليوم، لم أتخلص الى اليوم من بعض تلك التفاهات .

في الرابعة والثلاثين، دخلت الى فردوسي، جنتي، الدفء الذي غلف أضلاعي في البلاد الباردة، النبع الصافي، القلب الرؤوم، النصف الثاني !! لم تكن آلاء نصفي، إنها كلي، وأنا بعض منها، حبيبتي وزوجتي وأمي، غفوت على ذراعها في سوريا، مسحت عن وجهي غبار السنين، نمت طويلا، ربما سنين، لم ترفع يدها التي تنملت تحت رأسي، خشية ان أفيق من حلم أنا فيه، فارقتني الكوابيس يومها، حلمت بالفردوس، وبباحة دارنا في مدينة الثورة الدافئة .

بين الخامسة والثلاثين، والسابعة والثلاثين، صرت أسمع زقزقة عصفورين، حطا على أغصان دوحتي، التي ذبلها يباس رحلة شقاء طويلة، أورقت من جديد وزهت، تفجرت العيون من تحتها، فأصبح لعمري وحياتي معنيين آخرين ..

لهذين العصفورين وحمامتي الجميلة أهدي باقة حياتي ...

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم