صحيفة المثقف

ما بعد الأستفتاء: العائلة الحاكمة ولعبة الولد الضال

ذهب التفاؤل بالبعض حدّ تمني، ولا اقول توقع، ان تكون خطوة مسعود البارزاني العالقه في الهواء، بأعلانه الاستفتاء وتنفيذه ما اعلن، رغم كل التهديدات، هي القادح لا لمراجعة دستوريه واجرائيه لكل المخالفات والخروقات في العلاقة بين الاقليم والمركز منذ 2003 حتى اليوم واعادة تأسيسها على نحو سليم، بل وامكانية تحريكها لسلسلة تداعيات قد تتدحرج معها، وتلف بكرة الثلج التي ستتعاظم، الكثير من الرؤوس والمصالح، في طول البلاد وعرضها و التي تأسست على ذات ما تأسست عليه تجاوزات القيادة الكرديه وسلوكها من اسس !

كان الحافز لهذا التمني، رغم ما احاط به  من شك عميق، هو وحدة الاساس والمصالح والممارسه التي تمتد خيوطها الرابطه بين  اعضاء العائلة ذاتها، رؤوس العملية السياسيه البريمريه، جميعا . وما بنته ُ، خلال اربعة عشر عاما من شبكة  التخادم والمصالح المتبادله، واقتسام مصادر الثروة والتأثير والقرار، عبر التحكم بالمال العام ومصادره بما يجعل من هذه الطبقة ورؤوسها مصباته الاكيدة،  بحيث ان مراجعة الخروقات الدستوريه والماليه  لقيادة اقليم كردستان، مثلا،  واتخاذ قرار برلماني او قرارت قضائيه بصددها، سيجعل  شبيهاتها، او شريكاتها او اخواتها الصغيرات،  في الوسط والجنوب عرضة للمسائلة او على الاقل يحّد من غلواء استهتارها بكل شيء ويعيد للدولة العراقية شيئا من الفاعليه والتأثير والمهابه قد يُمكّن من تطويرها لاحقا او دفعها باتجاهات اكثر راديكالية .  فالزام او انصياع  سلطة الأقليم، وهي اكبر قوّة نافذه، مسلحه ومستقله، في العراق، لقرار للمحكمة العليا، مثلا، قد يجعل من قرارات هذه المحكمة  جاده وملزمه، اكثر بكثير، لمن هم دون ذلك، ويوفر الامكانية لتحريك الدعاوى ضد جهات اخرى وكسبها . واستعادة السيطره على مطاري اربيل والسليمانيه وهما رمزا، بل واقعتا انفصال ملموستان  يحس فيهما المواطن العراقي القادم من الجنوب او الوسط ذات احساسه في مطارات دولة اخرى (كل الاجراءات المألوفة في اي مطار لدولة اجنبيه، من تأشيره، واقامه محدده، وتصريح بالمال ....الخ) ناهيك عما يصطدم به النظر من طائرات عسكريه اجنبيه جاثمه، هناك، اغلب الظن دون موافقة او حتى علم سلطات المركز، يمكن ان يؤسس لأحساس حقيقي بان  المواطن في ارض عراقيه، وقد يطمح، من جهة اخرى، الى ان يرى مطارات البصره والناصريه بل وبغداد، تتمتع بذات المستوى من الخدمة والنظافة  ويخلّص او يعيد بعضها، (وهذا امر مخل بآليات الضبط المعتمده مع المواطن العراقي والمختلفه في كردستان، عنها في الوسط والجنوب!) كمطار النجف من براثن بعض القوى المسيطره عليه وعلى خدماته وموارده كما يقال!. واستعادة سيطرة وزارة النفط على نفط كركوك وكردستان  و تصديره عبر مؤسسة سومو،  قد يعزز من دور الحسابات والرقابه على هذه المؤسسات الاتحاديه ذاتها ويجعل من عقودها وحساباتها ومواردها اكثر عرضة للتدقيق والمحاسبه  ... الخ.  واخضاع قوات البيش مركة الى القيادة العامة من ناحية الاوامر والتوجيهات وليس التسليح والتجهيز والرواتب فقط، سيعظم امكانية حصر السلاح بيد الدولة وانهاء مراكز القوى خارج سلطتها وسلطة القانون بما يعزز من وجودها ودورها ويرفع بالتالي من مناسيب سيادة القانون وضمان انفاذه واستتباب الشعور بالامن والحماية وضمان الحقوق في ظله وهكذا  .....

لكن مثل هذه الافاق، والتي استطالت حدّ اثارة التساؤل، على المدى الشعبي، بشأن  دستور 2005 النافذ، نفسه . جدارته ومضامينه وآلياته، وهو اساس الوضع والعمليه السياسيه القائمه، كانت  كما هو واضح، نوعا من احلام اليقظه . فلا يمكن للمصالح  والمفاسد التي توسعت وتعمّقت بل وتجذرت خلال كل تلك السنوات ومنذ 2003 حتى اليوم ان تكون عرضة للتهديد بسبب ترك الحبل على الغارب لتداعيات خطيرة من هذا النوع ولا بد من اللجوء الى تسوية ما، او ترتيب معين يحفظ ماء الوجه للجميع، ويعيد الابن الضال الى حضيرة العائله الغاضبه بأقل قدر ممكن من الخسائر او الفضائح، ولا بد من التراجع قبل الوصول الى عتبة كسر العظم التي ستضر بالجميع ويمكن لها ان تطلق شرورا ما، داخليه او شعبيه، ماكانت في الحسبان . ولذلك لا بد من رمي اطواق النجاة لمن تورط وخرج، بعيدا، عن الجوق، وهكذا فان وساطات ودعوات داخليه واقليميه وعالميه، لابد ان تحصر الامر اولا في اطار محدد، ثم تطويقه واخماده، وصولا الى تجاوزه وتناسيه  !

ان كل ما اعلن من تجاوزات دستوريه ومالية وادارية،  لقيادة وسلطات الاقليم هو اقل بكثير مما هو معلوم لدى كل مواطن، ولا اقول رأس من رؤوس العمليه السياسيه . وهي امورٌ متفقٌ عليها ومتواطؤٌ فيها، بالنسبة لهؤلاء .  غير ان البارزاني وتحت ثقل الاستحقاقات الكردية ذاتها وتهديدها لحكم العائله البارزانيه او امكانية تحديدها له وتعبئة الجماهير  الكردية بالضد منه، عاد الى لعبة الطغاة القديمة : تصدير الأزمة وتحويل الانظار وحشد العواطف باتجاه آخر . لقد اعلن،ومنذ مطلع العام2017 بأن هذا العام سيكون عام الحسم، كما رفع، قبله، شعار، بان الامور ما بعد الموصل او داعش لن تكون كما قبلها، او ان المادة 140 قد طبقت وانتهت ...الخ، ولم يعبأ بوفود وشخصيات العملية السياسية او المركز التي كانت تزور اربيل متوسلة اليه ان يبقى ركنا اساسيا بل وفوق العادة في مجلس ادارة الشركة العراقية المساهمه، ذات الموارد العامة والعوائد الخاصة، والتي ورثت سابقتها الشركة العراقية الخاصة والفردية  قبل 2003. لقد توّهم او أوهمَ بامكانية الابحار وحيدا، لحسابه الخاص، ومغادرة سفينة كان يراها مثقلة وربما غارقة في المدى القريب  !

لقد كانت شراكة الاخوة الاعداء، طوال اربعة عشر عاما، اشبه بحلبة ملاكمة، او ساحة قتال يباح فيها كل نوع من العراك للصغار والاتباع، فيما يجلس الرؤوس، مساءا، يتقاسمون العوائد ويتسلون بالحكايات . ساحة قتال، استهلكت الدماء والاموال والزمن، دون ان تقدم للعراق وشعب العراق سوى الخوف والموت والخسران  . ساحة قتال، تدخل فيها العديد من العناصر الطارئة والمحسوبة فتغير احيانا من اصطفافاتها، وتبدل من بعض قواعدها، وتحد من خلافاتها، لكنها سرعان ما تعود الى مجراها القديم الضامن لمصالح الجميع وادوارهم بالضد من شعب يعاني  ووطن يستنزف ويتقوض .  لقد كان لهذه العملية ايضا، قوة طردها المركزي التي كانت تُقصي، بلا رحمة، كل  فاشل او تلميذ مبتديء لا يعرف الدرس جيدا، فتساقط عنها العديدون ممن هم مدينون بقوتهم لها ولم يكونوا قد اسسوا شيئا مهّما قبلها او خلالها، كالهاشمي او الدليمي  او غيرهم الكثير . لكن هؤلاء شيء والبارزاني شيئا آخر، بل ان هذه العمليه يمكنها ان تقصي المالكي، مثلا وتجعله، وفقا لتحرك دولي معين عرضة لمخاطر لم يحسب لها حساب . فالمالكي، بعد كل شيء، سياسي اسلامي، متوسط الحال وعادي و كان قد  كسب حظوته ونفوذه من  خلال العملية السياسيه ذاتها، شيء وعميد الاسره البارزانيه الضالعه في وقائع وخفايا واحابيل العراق والشرق الاوسط على مدى ما يقرب من قرن، شيئا آخر . ولذلك فليس من السهل ولا الصحيح توقع ان يطرد البارزاني خارج الحلبه ويوصد دونه الباب .

ان هذه الطبقه بشقيها القديم االمتجذر والجديد المتشبث . الكردي والعربي . القومي والاسلامي ومن يدعى بالعلماني، لا تفكر، اصلا، بالذهاب الى مواجهة من اجل مصالح وطنية حقيقية او قوميه . ولن تخوض حربا  سوى حرب  تحمي مصالحها وتعزز سيطرتها  وتزيد من مستوى استغلالها للموارد وتؤجل الاستحقاقات الوطنيه والاجتماعيه والاقتصاديه المترتبه عليها،  وتمد في عمرها . حرب من نوع حربها الحاليه مع عدو مثل داعش .او حرب تكون فيها، هي،  وسيلة لخدمة مصالح كبرى . لكنها لن تخوض حربا اهليه بين العرب والاكراد ولا تقتضي مصالحها، الان، ذلك . انها تشعر بالسيطرة والتمكن بصدد الداخل العراقي، سواء في كردستان او الوسط والجنوب،الذي تمتلك ازاءه اليات مجربه وناجحه  تتلاعب بالوعي السياسي والاجتماعي وتبلبل سلّم الاولويات والاهداف لدى الناس  . آليات اثبتت، حتى الان، قدرتها على التأثير والاستمرار وضمنت لها بحبوحة من العيش الرغيد والزعامة ....فلم الاندفاع، وعلام المغامره؟

لقد كانت حركة الاستفتاء وما سيعقبها من خطوات،عرساً كسب فيه الجميع : البارزاني الذي  اضاف الى زعامته الكرديه حجرا صلدا آخر، واظهر نفسه بطلا قوميا  . والعبادي الذي كسب تعاطف العراقيين العرب باعتباره منافحا عن الدستور وحقوق الدولة الاتحاديه، والجبوري باعتباره رأس السلطه التشريعيه التي اصدرت سلسلة قرارات تدعم الشرعيه الدستوريه، والسلطه القضائيه التي استعرضت قوتها عبر قرار ضد الاستفتاء . بل وشمل ذلك اطراف اقليميه ودوليه . فقد ابدت تركيا اوردغان رفضها المطلق لفكرة دولة كرديه وعبرت ايران عن  رفضها كذلك واستعرضت كل منهما امكانياتها في هذا المجال، فيما كسبت امريكا  والغرب كله، ود العراقيين باعتبارها حامي وحدة وسيادة العراق ..... اما الخاسرين فهم الاطراف الداخليه ممن لم يفهم قواعد اللعبه فاندفع بعيدا في تأييد هذا او ذاك  . وكذلك الخاسر الاكبر، دائما وابدا، الناس . العراقيون العرب الذين ستحبط آمالهم في استعادة وضع سياسي واجتماعي سليم، والعراقيون الكرد الذين نسوا معاناتهم ومطالبهم الحقيقيه في حياة افضل لحظة غرر بهم فابتهجوا لسراب رأوه قاب قوسين او ادنى. حيث سييتيّقن الجميع، بعد اليوم، ان ليس بالامكان، أبدعَ مما كان!

 

عارف معروف

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم