صحيفة المثقف

آلة الطابعة

almothaqafnewspaperنسي اسم الطابعة القديمة، والحقيقة هي ليست طابعة تليق باسمها قادرة على انتاج عالم متناقض يضحك ويبكي او نسخة من الجنون الذي بحيط به يسمونه السياسة ومنتجها المسجل : السلطة ولكل سلطة كما تأكد من ذلك معارضة،طابعة تنتج عالما من الحقيقة ونصفها ومن الوهم كذلك اشبه بجرعات مخدرة او دواء له مفعول مختلف ومتناقض مرة يأتي بالسرور والامل وسرعان ما يعقبه توتر غامض او يأتي بالخوف والشعور بالعجز واللامبالاة،

كل ما تنتجه الطابعة له مميزات خاصة به، حمل بيان المعارضة من شارع الرشيد الى كسرة وعطش، ارتاب بتلك البيوت القديمة، ولكن موقف سيارات كلية التربية الرياضية ومبناها الفخم قبل ان يدخل حواري الكسرة هدئته

تذكر ان له اصدفاء من الرياضيين المعروفين بهذه الكلية، وصديقة تعرف عليها قرب فرن قريب من الكلية وعرف بانها من اعضاء المنتخب الفني لكرة الطائرة لم يرها من قبل يا لها من مفاجئة ، فزاد اطمئنانه، هذه الرياضية وحدها يمكن ان تنقذه من شبهة التحقيق او السجن او اي كارثة يمكن ان يتسبب بها مثل هذا البيان السخيف الذي يكرر ما سبقه ويتوعد وينذر بدون سلطة للتنفيذ .

اسم الطابعة .. نسيت، رول....ري ل ..

لكنني اعلم طريقة عملها، الية تضع المنشور كما في الطابعة اليدوية القديمة لها يد خارجية مجرد ان تدورها يبدأ الورق المطبوع بالخروج من اسفلها يصل عدد النسخ المطبوعة الى خمسين او مئة قبل ان تملئها بالحبر والورق مرة ثانية وتستأنف الطباعة مرة ثانية وتصل الى عدد النسخ التي تود طباعتها من المنشور , اشبه بالة الكوبي ولكنها اصغر حجما، واكثر فعالية وسرعة منها .

وقبل ان اخرج بالبيان رن التلفون فجاءني صوتها ناعما : اين انت؟ .. قبل ان تسلم، ترددت قبل ان اسألها بدوري وانت اين؟ قالت في الكلية، فخف ارتباكي من المفاجئة، قلت لها بعد نصف ساعة أمر عليك قالت انتظرك امام الكلية قرب موقف السيارات .

كنت خلال دقائق اكون بموقف سيارات الكلية، مجرد ان اخرج من حواري الكسرة الى الشارع العام ساصل الى موقف السيارات بدقائق قليلة , كان مطعم الشام بباب محلة الوزيرية، في ركنها العالي، فكرت ان نجلس به قليلا اذا قبلت او نذهب الى مكان اخر بعيدا عن الكسرة وعطش وحواريها المتداخلة والغامضة .

وانتبهت فجأة  لماذا طلب مني مسؤول الطلاب طباعة البيان لدرجة التوسل، ليس لي علاقة بهم او تنظيمات غبرهم، وهي   سرية تتم على انفراد وتنشط باصدار المنشورات والبيانات بمناسبة الانقلابات والثورات الفاشلة او الناجحة والفاشلة .. وهلم .. وكيف وثق بي؟

قال علمت ان لك اصدقاء يعملون في الطباعة، بهذه المعلومة جاء وطلب مني بتوسل ان اطبع لهم البيان ، كأنه يعلم بانني ساوافق،بدا كانه لا يدرك حجم الخطر بطباعة بيان تافه ومكرر سيعلم القاريء محتوياته المكررة بعد ان ينتهي من قراءة السطر الاول فيه..ولكنه ممكن ان يتسبب بالسجن والتعذيب او حتى الموت .

كيف وافقت على مساعدته بطباعة البيان لا اعلم كنت مطمئنا باني بعيد عن الشكوك وليست لدي علاقات بهذه التنظيمات رغم انني اقرأ  منشوراتهم احيانا واتعاطف  معهم بشكل او باخر بسبب القمع والسجون والتعذيب باتجاه تأييد السلطة بكل شيء بدون رأي او تساؤلات او موقف .

يا لها من شابة رشيقة لا اعلم ما الذي جذبها في، بدت من تلك المسافة اطول مني لرشاقتها وتناسق جسدها رغم انني اطول منها بقليل، تنتظر بالقرب من باب الكلية الرئيسي المطل على موقف السيارات .وفجأة سألتني : انت اكبر مني ام انا اكبر منك وهي تحدق بي وتبتسم فضحكت لا اعرف بماذا اجيبها فقالت هيا جاوبني قلت لها انني في البكلوريا وسادخل الجامعة السنة القادمة وانت في السنة الثالثة بالكلية واشرت الى كليتها اي انت اكبر مني بثلات او اربع سنوات .. فزادت قربا مني وجذبتني من يدي اليها فاحسست بصدرها النافر وليونته لدرجة اوشكت ان اقبلها .. فسألتني هل تريد ان تحضر تدريبات المنتخب فقلت اذا حضرت، فقالت بالطبع ستراني من المدرج وبعد انتهاء التدريب سنذهب الى مكان اخر .

ادخلتني من باب بنهاية مطعم الكلية الى ممر طويل ينتهي بباب ثانية عريضة ومنها الى ساحة التدريب، كان المدرج فارغا وبعض المتدربين من الجنسين في الملعب وحالما جلست في المدرج ظهر المدرب ومساعده وخلفهما طابور طويل سرعان ما انهكهم بصفارته كانوا يستجيبون لصفارته ويفهموا منها ما يريد قفزا او هرولة او ركضا .. الى ان بدأ الاعياء يبدو على بعضهم، ثم انفسموا الى فريقين .. لمحتها في طابور قرب شبكة الطائرة فهالني جسدها ورشاقتها وهي تمسك الشبكة باصابعها من الاعلى وتسحبها الى الاسفل فانتبه المدرب ورفع كرة الطائرة الى مسافة قريبة جدا فوق الشبكة لم ار يدها لسرعتها حين كبستها الى الجهة الثانية من الشبكة ..كنت انتظر دورها مجددا لاركز على حركة يدها، ولكن المدرب اعاد انتشارهم، وبدأوا ارسال كرة الطائرة من وسط الملعب وزواياه .. بعدها لم استطع التركيز على شيء الى ان اختفوا مع المدرب ومساعده من باب عريض في الجهة المقابلة من المدرج .

انستني كل شيء، كنت مطرقا قرب الباب الرئيسي للكلية انتظرها، ينتابني القلق والخوف من مجهول ما لا اعرف ما هو، كيف ساوصل له خبر المنشور؟!

نظرت اليها بدت كحورية خرجت توا من البحر فذهبت بكل ما كان يجول في خاطري من خوف وقلق،قلت لها اريد ان اتصل، فقالت : "الان" ونحن خارجون، وعادت بي الى الكلية .

 تذهب الى الكسرة قلت له في المساء على هذا العنوان، وهي بالقرب مني تستمع، ادفع الباب ستجد الكرتون خلف الباب، لست متأكدا مما قال، ولكن تناهى الى سمعي وانا اغلق التلفون شكرا سنتلتقي في المدرسة ربما سنجد فيه بعض المصادر المفيدة لامتحانات البكلوريا .. شكرا .  

كنت اسكن وسط حواري الثلاث الجميلة : الوزيرية وراغبة خاتون والاعظمية .. تحررت من خوف مباغت اوترقب بعد ان خرجنا من الكلية، فسألتها ما رأيك نذهب لمطعم الشام قالت لا هذا قريب جدا نذهب الى الكورنيش، تقصد كورنيش الاعظمية، قلت لها اتدرين انه مكاني المفضل، مطاعمه ومقاهيه تكاد تلامس ماء دجلة كانها عرائش خضراء بنسماتها المنعشة شتاءا وصيفا .  

اذهلتني تحررها وتلقائيتها فقد طلبت بيرة باردة وانا غير مصدق، فسألتها هل انت متأكدة مما طلبتي، قالت "نعم" في بريطانية جميع الرياضيين يشربون البيرة في الويك اند،عطلة نهاية الاسبوع، فقلت لها وما دخل هذا بهذا، فقالت .. اه .. لم اخبرك بعد في السنة الثانية في الكلية ذهبنا في معسكر تدريبي في بريطانية، وبعد انقضاء مدة المعسكر التدريبي عصيت في بريطانية ولم ارجع معهم، بقيت اكثر من سنة في بريطانية قبل ان ارجع الى العراق،ولكنني حافظت على لياقتي البدنية .. كنت غير مصدق تماما لما تقول او متأكدا من صدق ما تقول، فسألتها كيف اعادوك الى الكلية، قالت بوساطة مدرب المنتخب، وانا الان في السنة الثالثة كما تعلم .

فضحكت من كل قلبي وقلت لها اذن انني الان اجلس مع جنية،، فضحكت هي الاخرى، ورفعت شعرها المنسدل على نصف وجهها وكتفيها بحركة اثارتني، فسألتها هل تذهبين معي اليوم، فردت بتلقائية .. سأذهب معك اينما تريد . 

صباح اليوم التالي اوصلتها الى الكلية على ان نلتقي بعد انتهاء دوام المدرسة، كانت تنتظرني قرب ثانوية الكاظمية عند الساعة الواحدة مع انتهاء دوام المدرسة، قالت اريد ان نتجول في الكاظمية، اخذتها الى قيصرية الذهب، كانت مأخوذة بهذا السوق لا تتذكر عدد المرات التي اتت بها الى الكاظمية،فاخبرتها بما دار اليوم في المدرسة .. فقالت كيف درجة النجاح 50 بالمئة فما فوق، قلت لها ليس في ثانوية الكاظمية او كلية بغداد، فقالت كيف؟ استدعاني مدير الثانوية السيد صابر العذاري، كما يسمونه الطلاب في الثانوية اوخارجها،، شعرت برهبة وانا ادخل مكتبه فقد كان منكبا على فايل او اضبارة امامه على الطاولة ويغلي غضبا، كان طويلا ومهابا، فقال معدلاتك ضعيفة بين 54 و60 درجة لا تؤهلك لدخول جامعات علمية، فقلت بارتباك لا افكر بالدراسة في الجامعات العلمية، فقال بحدة لماذا اذن اخترت الدراسة في الفرع العلمي وليس الادبي؟

لا اعرف بماذا اجيبه، ولكن هذه الدرجات ناجحة ومقبولة، فقال ليس في ثانوية الكاظمية، درجة النجاح هنا 65 بالمئة وهدنني باعادة سنة دراسية كاملة . كنت مرتبكا لا اعرف ماذا اقول وسرعان ما تحول الى كائن اخر حين لاحظ ارتباكي، فسألني عن اخي واهلي فقلت له جميعهم بخير، وقال قبل ان اخرج : سارسل لهم معدلاتك  بنوع من التهديد المبطن، ولكنني كنت مطمئنا لان هذه الدرجات تؤهلني لدخول الجامعة وهذا ما حدث فعلا .

خرجنا من قيصرية الذهب الى مقهى الطلبة، كانت بين حين واخر تتحدث عن شيء ما، لم انتبه لكل احاديثها وثرثرتها، كان صاحب المقهى على نفس جلسته يمسك بمبسم الاركيلة التي لا تفارقه سوى لتغيير الماء والتبغ، ويبدو من خلال زجاج المقهى الطلاب حول طاولات المقهى بعضهم يقرأ واخرون يتناقشون او يتعاونون لحل مسألة ما، فقلت لها اي طالب تستعصي عليه حل مسألة ما يأتي لهذا المقهى فيجد حلها .. واخبرتها باحد اسرار وظرائف المقهى، حين يمر احد الطلاب بالقرب من ابي قاسم  وهو خارج من المقهى بدون ان يدفع ينادي عليه لماذا لا تدفع؟ يقول له غدا سأدفع ، فيرد عليه ابو قاسم تدفع غدا، ان غدا لناظره قريب !! وضحكنا .

نزلنا من الباص عند نهاية الجسر بين الكاطمية والاعظمية مقابل نعوش، حين لمحت الحلويات قالت عرفت لماذا، ومسكتني من يدي، لا احد يأكل من السما او بقلاوة نعوش دون ان يعود اليه فكيف اذا مررت به في طريقك ..الخليجيون لا يعودون من سياحتهم في بغداد قبل المرور على نعوش لشراء الهدايا وفي اي وقت تذهب لنعوش تجدهم هناك ..

جلسنا بمطعم الكلية، وبعد جلوسنا بقليل، فوجئت، حين سقطت قطرات دموع صغيرة من عينيها وهي مطرقة، تأثرت لها كثيرا، لم انتبه لها، عكرت كل تسليتنا ونشاطنا وفرحنا، فسألتها ما هذاا؟

فقالت بشرود : كل يوم امزق عشرات الرسائل من المعجبين بغضب تمتليء بالمغريات وعروض الزواج الكاذب .. وو، لان هذا سيذهب حالما اتوقف عن اللعب وسينسوني سريعا، تذكرت ونحن جالسين في مطعم الكورنيش حين فاجئها احد الشباب من الرياضيين بالمجيء للسلام عليها بحرارة، ردت سلامه وحفاوته البالغة بها ببرود ولا مبالاة، ففكرت بانه غرور الرياضيين البارزين، لا يبالون بمحبيهم او المعجبين بهم .. ولم اعلق على ما حدث .

قلت لها كنت اظن ان الرياضيين المعروفين اسعد الناس لما يحيط بهم من حب واعجاب وحفاوة،وفوجئت بردها حين قالت : العكس هو الصحيح تماما!!

 لاول مرة اتعرف وألمس معاناة الرياضيين وما يفقدوه اذا توقفوا يوما ما عن نشاطاتهم، وينفض من حولهم المعجبون ويذهبوا الى النسيان .. انها معاناة حقيقية لا تطاق،مؤرقة،تسلبهم كل فرح .

 واضافت، وسافقدك انت كذلك .. انت الذي احببتك بدون ان تعرفني او ان تكون من المعجبين بي بكل قلبي!! فاحتججت على ما قالته وقلت لها: لا يمكن ان تكوني متشائمة لهذة الدرجة!!

مسحت دموعها وسط ذهولي، كنت افكر قبل قليل بانني ممكن ان افقدها لا محال قريبا او يوما ما لكثرة المعجبين بها وعلي ان اتصرف قبل ان اغرق بحبها، فقد بدأت تشغل كل وقتي واكاد ان انسى كل شيء من حولي ولا اعرف ماذا افعل حين لا تكون معي ..ترددت ان اخبرها بكل ذلك لكي لا تجد سببا اخر للشكوى والتذمر .

ونسيت مسؤول الطلاب والمنشور او البيان السخبف .. والة الطابعة.

كانت تعاني بشدة لانها لا تريد حب المعجبين بها، تريد هي ان تختار وتحب ..

استجمعت ارادتي وقواي كانني اكتشفت شيئا جديد وقلت لها : لماذا لا نعيش اللحظة الان؟

ولكي ابعد عنها هواجسها وقلقها اضفت: نعيش اللحظة فقط ... لم يحرك كل ما قلته فيها اي شيء كأنها متأكدة باننا سنفترق قريبا .. قريبا جدا، ولكن لا احد يعرف متى وكيف؟

 

 قيس العذاري

..............

- هذه الحكاية او القصة حقيقية بكل احداثها وليست من الخيال سوى تغيرات بسيطة لا تؤثر على احداثها الحقيقية لاسباب فنية اقتضتها الحكاية او القصة . 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم