صحيفة المثقف

البحث عن الطاقة (1)

haidar alhadrawi2خلق الانسان من جزئين، جسد وروح، الجسد يدفعه الى عالم المادة، والروح يدفعه الى عالم الروحانيات، فهو بين رغبات هذا ومتطلبات ذاك يعيش التناقضات، الا من حكّم عقله، وتمكن من مجاراتهما، فيكون مرتاح البال.

الجسد والروح، كالمطية وراكبها، الجسد مطية، والروح راكبها، فينبغي للمطية ان تسير وفقا الى اوامر الراكب، في نفس الوقت، يجب على الراكب ان لا يغفل متطلبات ورغبات المطية، فيوفر لها الماء والكلأ، وان لا ينسى حظها في طلب الراحة، وان يجد في بحث الدواء لها في حالة اعتلالها.

للروح ثلاثة حالات حولها تتمحور فعالياتها:

1- ان ترتقي وتتسامى وتتعالى في طلب الروحانيات، عالمها واسراره، تعمل على ذلك وتجد في عملها، مترفعة عن رغبات الجسد المادية، مقاطعة بذلك إلحاح الجسد (مطيتها) في التسافل والركون الى المادة، فتكون بذلك كراكب المطية، يوجهها في جهة ما، الا ان المطية تريد السير في جهة اخرى، الامر الذي يدعوه الى زجرها وربما ضربها كي تسير في الاتجاه الذي يريده هو .

مثل هذا الحال، يكون ذلك المرء في حالة قلق وعدم استقرار، طاقاته متذبذبة بين الايجاب والسلب، فروحه تطلب عالم الطاقة الايجابية، وجسده يطلب مكامن الطاقة السلبية، فيقوم بزجر وكبت رغبات الجسد، والجسد يعلن تمرده بين الفينة والاخرى، نتائج هذا الصراع تكون متفاوتة، فتارة تكتب للجسد وتحسم للروح تارة اخرة .  

2- اتفاق الروح مع الجسد في الانطلاق الى عالم الروحانيات العليا: تتمكن الروح من السيطرة على الجسد بطرق ودية، لا زجرية، تحسن اليه وتتفق معه، فتراعي حقوقه ويراعي حقوقها، لكن يجب يسلمها زمام السيطرة .

تكون كالقائد الذي يحبه ويعشقه الجنود، فهم في أتم الاستعداد لتنفيذ اوامره، حتى وان أدى ذلك الى التضحية بحياتهم، او كالمطية الطيعة لراكبها، تسير في الجهة التي يرغب دونما اثارة أي مشاكل بكل ود وترحاب .

في مثل هذا الحال، تكون الطاقة الايجابية على أوجها، انبعاثا من هذا الاتحاد بين الروح والجسد، واكتسابا من مصادرها في الطبيعة والكون.

3- ركون الروح الى رغبات الجسد: في هذا الحالة، يفرض الجسد سيطرته على الروح، بل وتساعده في تقصّي الملذات المادية، وتكون له خير معلم ومرشد اليها، فينغمس كلاهما في المادة من الاخمص الى الرأس، تاركان خلفهما العالم المثالي الاسمى .

في هذه الحال، يترك الراكب لمطيته حرية اختيار الطريق، يوافقها في أي اتجاه تختاره دونما اعتراض، فهو يبحث عن تلبية الرغبات، وهي تشاركه فيها بكل سرور وحبور.

ذلك الحين، وعند الركون الى الماديات، تكون الطاقة السلبية في أوجها، انبعاثا من هذا الاتحاد البيني، واكتسابا من مصادرها في الطبيعة.

اما حالات الجسد فلا تختلف عن حالات الروح، لكنه مجبول على حب المادة، طلبا للذة والمتعة، فيندفع لها، مجدا في طلبها، محاولا اكتساب واستحصال ما أمكنه منها، لكنه ونظرا لانغماسه في ملذاته وطلب مواردها، أكتشف أمرين:

1- ان هناك متعة لا تضاهيها متعة، متعة خفيت عنه، لا يمكنه استحصالها بالوسائل التقليدية، أكتشف انها كامنة في المادة ذاتها، حيث الطاقة المخفية في الموجودات، فأخذ يتقصى اخبارها في كل ما حوله، بحث فيها وجرّب، درسها وتعمق بدراستها، وهضم محتوياتها بأروع صورة، فتوصل الى انها قد تكمن في:

1-1- الاتحاد مع الطبيعة: المادة تحن الى المادة، كل شيء ينجذب الى مثيله، لذا ركن الجسد الى الطبيعة التي جاء منها، فمنها ولد، وبها يقوّم بنيته اكلا وشربا، فعشق المياه والخضرة، والفضاء الفسيح، وتلك النجوم التي تتلألأ في الليالي، الشمس والقمر، تعلق بتلك الطبيعة الخلابة واستأنس بها كاستئناس  الطفل بمحالب امه .

عكف على دراسة خواص المواد والاشياء، مستهلا دراسته بما هو اقرب اليه واكثر تماسا به، فشرع بدراسة:

1-1-1-  الاطعمة والاشربة: لا خلاف ولا شبه فيما يوفره الطعام والشراب من متعة حقيقية، بدءا من رفع وازالة ألم الجوع البغيض وحتى ما يؤكل من أجل التسلية كالمكسرات مثلا، لكنه أكتشف خفايا ليست واضحة تكمن خلف اطعمته وأشربته، طاقات كامنة، ايجابية وسلبية، فبعضها:

1-1-1-1- منها ما يساعد في اكتساب الشحنات الموجبة: كالملح والخل، لذا عمدت بعض الاقوام على ان يستهلوا تناول الطعام بتناول الملح وان يختموا الطعام بتناول الخل، غير انهم أغفلوا ان من خواص الخل انه لا يدفع الطاقة السلبية، بل يجمعها مثل المغناطيس لكنه لا يحررها الا عندما يتم تحليله بالماء، بذا يقوم الملح بدفع الطاقة السلبية قبل تناول الطعام، لكن الخل الذي يكون قد جمع الطاقة السلبية سوف يحررها بعد تحلله في عملية الهضم، لذا كان الافضل الابتداء بالملح والختام به ايضا، كما جاء عن النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله وسلم" في جملة من وصاياه لعلي "عليه السلام" نكتفي بذكر وصيتين منهما الاولى (يا علي افتتح بالملح في طعامك واختم بالملح فإنه من افتتح طعامه بالملح وختمه بالملح دفع الله عنه سبعين نوعا من أنواع البلاء أيسرها الجذام) "1"، (وَإِذَا أَكَلْتَ فَابْدَأْ بِالْمِلْحِ، وَاخْتِمْ بِالْمِلْحِ، فَإِنَّ بِالْمِلْحَ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعِينَ دَاءً أَوَّلُهَا الْجُذَامُ، وَالْجُنُونُ، وَالْبَرَصُ، وَوَجَعُ الأَضْرَاسِ، وَوَجَعُ الْحَلْقِ، وَوَجَعُ الْبَصَرِ) "2"، فأن الملح يدفع الطاقة السلبية قبل الطعام، كما ويدفعها بعده ايضا، ما يجنب المرء مخاطر الطاقات السلبية التي قد تكون متواجدة في المكان، او تلك الصادرة ممن هم بجواره او ممن ينظر اليه، وايضا تلك التي قد تكون صادرة من حيوانات ذات نفس (شحنة سالبة) كالقطط والكلاب، من جراء نظرها اليه وهو يأكل .    

1-1-1-2- ومنها ما يساعد على اكتساب الشحنات السالبة:  كالخمر.

1-1-1-3- ومنه ما يساعد في توليد الشحنات الموجبة: كالحلويات والمعجنات، شريطة ان تكون خالية من المواد الحامضية، وكذلك يفعل الفلفل الحار.

1-1-1-4- ومنها ما يساعد في توليد الشحنات السالبة: كالصبار.

1-1-1-5- وبعضها يقوم بعمل اضطراب في الشحنات: كالثوم والبصل، ما لم يكن لديه عزيمة قوية وتدريب عال من اجل التحكم والسيطرة .

1-1-2- الماء: أكتشف بطريقة او بأخرى ان للماء خاصية غريبة في جلب الطاقة الايجابية ودفع الطاقة السلبية، شربا وغسلا، فالبلل والرطوبة يجلبان الطاقة الايجابية، كما ان الجفاف واليباس يجلبان الطاقة السلبية، وهذا مما اشار اليه القرآن الكريم (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ{41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ{42}) "3"، فالنصب والعذاب من جراء الطاقات السلبية، وعلاجها بدفعها بالماء في مثل هذا الحال، وقوله عز من قائل (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) يشير الى العجلة بالاغتسال .       

1-1-3- الحيوانات اللصيقة به (الاليفة): من خلال تجاربه وخبراته المكتسبة أكتشف وجود الطاقة في بعض الحيوانات، وهي على نوعين:

1-1-3-1- حيوانات ذات طاقة سلبية: كالقطط والكلاب، لكنها ضرورية في حياته، فالقطط تساعده على التخلص من القوارض وبعض الزواحف الخطرة، والكلاب تخدمه في الحراسة والرعي والصيد وكذلك التسلية في حالة الوحدة وغير ذلك .

لكنه يدرك مدى عمق وخطورة طاقتها السلبية، فسعى الى التخلص من تلك الطاقة بطريقين:

أ‌) الاحسان اليها: الذي قد يصل حد السماح لها بمشاركته في طعامه.

ب‌) عبادتها: ظنا منه ان عبادتها هي الطريق الامثل للخلاص من طاقاتها السلبية، فظهرت عبادة القطط في مصر القديمة وفي مناطق اخرى من العالم.

لا يقتصر الامر على القطط والكلاب فقط، بل يتعدى الى كثير من الحيوانات ذوات الطاقة السلبية الاخرى كالقوارض وغيرها، فلا عجب ان يظهر لها عباد وكهنة. 

1-1-3-2- حيوانات ذوات طاقة ايجابية: وكان مما اكتشفه ان لبعض الحيوانات طاقات ايجابية، كالمواشي والدواجن، فعكف على تربيتها والاستفادة منها . 

كما وحثت الديانات السماوية اتباعها الى تدجين وتربية الدواجن والمواشي ذوات الطاقة الايجابية أخذةً بنظر الاعتبار فوائدها المادية والروحية "اللامادية"

كما واستخلص من تجاربه ان الكائنات الحية على ثلاثة اقسام:

أ‌) ايجابية: كالمواشي والدواجن، فسارع الى تدجينها وتربيتها وتكاثرها والاستفادة من كل ما تقدمه له .

ب‌) سلبية: كالحشرات والقوارض وغيرها الكثير، فسعى للتخلص منها وابعادها عن اماكن سكنه ومقار عمله، خصوصا، تلك الاقرب منه والاكثر التصاقا به كالعناكب مثلا، حيث اعتادت العناكب ان تنسج بيوتها في نقاط الطاقة السلبية في البيوت والغرف، لذا ادرك ضرورة رفع بيوتها "اعشاشها" وطرد تلك العناكب .

ت‌) سلبية وايجابية: في نفس الوقت، كالقطط والكلاب، حيث تشترك بين السلب والايجاب، فهو بحاجة ماسة الى ايجابيتها، رغم خطر سلبياتها، لذا أوجد سبلا كثيرة للتخلص من طاقتها السلبية .  

كلما تعمق اكثر في انسجامه واندماجه واتحاده مع الطبيعة، أكتشف وجود مشاكل اكثر، والغازا لم يستطع حلها او تفسيرها، بحثا عن الحلول والتفاسير عاد الى نفسه .. خلقته.

1-2-  النرجسية الخلقية: ليست هي النرجسية الفردية المعروفة، بل تشابهها، لكنها اعم واشمل، نرجسية امتدت لتشمل كافة الجنس البشري، دونما استثناء لعرق او لون او طائفة، تحت عنوان "الانسانية" .

أعجب كثيرا بخلقته الادمية، وتكامل صورته، الامر الذي انعدم في الطبيعة ووجد  فيه وحده، ولا تشاركه الطبيعة به .

لكنه أكتشف ان هناك حدودا لكل شيء، ومشاكلا والغازا تعترض طريقه كلما تعمق اكثر في نرجسيته الخلقية، فأيقن بالفناء، واستسلم له صاغرا، طالما لا توجد بالجوار وسائل او بدائل .    

*** يتبع ان شاء الله

 

حيدر الحدراوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم