صحيفة المثقف

الدخول في دين الله وضرورة التحصين والترشيد

mohamad saedsamadiتقديم: جاءت الشرائع السماوية لتحقق الأمن في الأرض وتُشعر الإنسان بدور الاستخلاف وأمانة التعمير على هُدًى من الله، تبيانا لوحدانية العقيدة؛ وإعلانا لعدالة الشريعة؛ وتكريسا لتحالف قيم الخير بين الأمم. قال تعالى:"فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْض"(1) . فأولو بقية من الناس هم حفظة القيم الكونية التي تضبط إيقاع التوازن والاعتدال والسلم والأمان في الأرض. والأرض بطبيعتها الكَسْبِــية في حاجة لرسالة السماء حتى لو كان ملائكة الله يدِبُّون عليها ويَحيون، قال تعالى مُبطلا مقالة مشركي قريش أن يُرسل لهم رسولا بشرا من جنسهم:"قُلْ لَوْ كانَ فِي اُلْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْناَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولَا"(2) .

ويُعتبر الاستقرارُ الأسريُّ والأمنُ المجتمعيُّ ومن ضمنه الأمنُ الروحي من أسمى الغايات التي هَدَفَ إليها الوحيُ الإلهيُّ. فبدون منظومة الأمن الاجتماعي ومن ضمنها سكينة النفس لا يتأتى للناس عبودية خالصة تستحضر معاني الاستخلاف والتزكية والكَسب المُفضي لثمرات النجاة والفلاح في الدارين. ولعل جانبَ الأمن الروحي من أدقِّ وأكثرِ العوامل التي أجابت عن تساؤلات غير المسلمين وساهمت في الإقبال المتزايد على اعتناق الحنيفية السمحاء، خاصة مع تقدم مجتمع المعرفة وذيوع اقتصاد المعرفة وتطور تكنولوجيا المعلوميات. لقد بلغ الإنسان في الغرب أوج مظاهر التحضر والمدنية، ولُبيت له كل الحقوق والمتطلبات التي تكفل له الكرامة والرفاهية والعيش الرغيد؛ إلا أن الثغرة الكبرى التي ظلت وستظل تعيبُ المشهدَ وتشينُ الجمالَ؛ هي تلك اللبنة المفقودة التي تُفسد الكمالَ وتعطِّل تتمة التمام،" فأنا اللبنة وأنا آخر النبيئين".(3)

الدخول في دين الله، خلود الظاهرة:

شاءت إرادة الله تعالى ألا يُخلف الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرا من صلبه، وخففت قريش على نفسها من صعود نجم دعوة التوحيد الجديدة بأن الأمر عائدٌ إليها وأن دعوةَ هذا "الأبتر" بزعمهم قريبةُ الانتهاءِ والطيِّ، فرد عليهم القرآن الكريم" إِنَّ شانئكَ هوَ الأَبْتَرُ"(4) . وأضحى اسمه الشريف "محمدٌ" عليه الصلاة والسلام من أكثر أسماء الأعلام في الأرض؛ ودعوتُه سَرَتْ كنسيمٍ عليلٍ في صبحٍ قد تنفسَ، استمرارا وخلُودا ما بقيت السماوات والأرض. ويكفي هذه الشريعة فخرا ومجدا بهذه الآية المذكورة وحدها التي أرخت بآية قطعية الدلالة على خلود رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض. ومنذئذ وحركية الدخول في دين الله والرضى بحكم شريعته في ارتفاع وتزايد منقطع النظير.

لقد كان الرجل من وَضِيعهم أو أشرفهم يقول مقالة عشيرته وقومه في النبي محمد ودعوته، لكن ما أن يُرْسَلَ، مفاوضا أو مهددا أو مستمعا محايدا، إلا ويعود بغير الوجه الذي ابتُعِثَ به؛ بفعل سحر بيان القرآن وشدة الوَقْعِ الذي يُحدثه في النفوس وفي العقول على السواء. كيف لا يحدث ذلك وهو الذي بعثه الله تعالى من بني قومه يعرف قيمَهم وأحوالهم وكل طبائعهم ويحرص على خيرهم ونجاتهم،" لقَدْ جاءكُمْ رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عزيزٌ عليهِ مَا عَنِتـُّمْ حريصٌ عليكمْ بالمؤمنينَ رءوفٌ رحيمٌ"(5) . ويقول تعالى:" الله أَعْلَمُ حيثُ يجعلُ رسالَته"(6) . حكمته عز وجل اختارت المكانَ أمَّ القرى، والأمةَ العربَ، والقبيلةَ قريشاً، والبيتَ بيتَ عبد المطلب، والأمَّ آمنةَ بنت وهب، ليخرج هذا النور سراجا منيرا، "وَما أَرْسَلْناكَ إلاَّ كافةً للناسِ بشيرا ونذيرا، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون"(7) .

إن هذا الدينَ الخاتَمَ نزل وقد سبَق في علمه تعالى أنه سيمثل منظومة الإجابات عن جملة من الأسئلة الوجودية والمصيرية المحيرة لطبيعة البنية العقلية البشرية المتسمة بمحدودية الفهم مهما اتسع وحلق الفكر الإنساني، خاصة أن بني البشر شغَـل َ ه منذ كان عالمُ الغيب كما شغَلَه عالمُ الشهادة؛ وكان لابد أن يفكَّ الوحيُ الإلهيُّ جزءا من هذه الألغاز التي لم يكن لها سبيل لولا الآيات البينات من لدن حكيم خبير سبحانه. لقد حضر العالم والأديب المغربي الأستاذ عبد الله كنون(توفي 1989م بطنجة) مؤتمرا حول الدراسات الأندلسية الإسلامية بمدينة مالقة سنة 1966، وسجَّلَ في كتابٍ له خطابَ محافظِ المدينة (مسيحي الديانة) نوَّه فيه بفضلِ شمس الإسلام الساطعة على الغرب المتحضر وأثرِ نورِها على الانبعاث الغربي، يقول:"...إن الإسلام الذي كان دينَ أجدادنا في هذه الفترة الطويلة من الزمن، هو باعثُ تلك النهضة ونافخ روح الجد والعمل في بلادنا التي كانت قبل دخوله إليها تغط في نوم عميق. ولا عليَّ إذا قلتُ كلمة إنصافٍ في الدين الإسلامي وأنا المسيحيُّ المخلصُ لدينه، فلن يتهمني أحد في عقيدتي وإيماني. إنني بحبي للاطلاع، وحرصي على المعرفة قرأت القرآن كتاب الإسلام المقدس، ودرستُ سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ويمكنني أن أقول: إن الإسلام كدين كبير أتى بكل العناصر التي لا يكون الدين كاملا بدونها؛ إنه يحتوي على عقيدة سامية في الإله العلي القدير، تتمثلُ في شعاره القائل لا إله إلا الله، ولا غالب إلا الله، وهي أساسُ التدينِ في الإسلام، ويأتي بعدها الأمر بالصلاة التي هي في نظر الإسلام الصلة الروحية بين الإنسان والخالق عز وجل، وبعد الصلاةِ الزكاةُ وهي صدقة واجبة على المسلم الغني لأخيه الفقير. ومع الصلاةِ والزكاةِ الصيامُ. وهو عبادة يُرادُ منها التحكمُ في مجموع النفس وتحقيق الصفاء الروحي، والقاعدة الخامسة في الإسلام هي الحج، والأديان كلها لها مكان مقدس يقصده المؤمنون للتطهر من الرجس والآثام...وأيُّ سمو كهذا. وهل كان التدين في وقت من الأوقات خاليا من هذه الشعائر كلها."(8)

إنها شهادة ألقيت في منتدى كبير لم يحضره من المسلمين سوى ثلاثة(9) ، بين جمع غفير، وصادرة عن شاب أجنبي أربعيني مثقف ومن رجال السلطة كما وصفه عبد الله كنون، وعلَّق على ذلك بقوله : "ولأن صاحبنا إنما اقتصر في التنويه بالإسلام على قواعده الخمس(10) ، تأثرا بمفهوم الدين عند المسيحيين الذين يُقصرونه على العقيدة والطقوس التعبدية"(11) ، وإلا فإن الإسلامَ منظومةٌ من المعاني السامية التي تحفظ للمتدين قوامَ الاعتدالِ والاستواءِ والاهتداء والتعايش وحقوق الأفراد والجماعات والأقليات وتلبيةِ الحاجات المادية(12) والروحية للنفس البشرية. بل إن جملةً من تجليات الحضارة الإسلامية زمن الوجود الإسلامي بالغرب(إسبانيا المسلمة) واكتساحَ وذيوعَ مظاهر التمدن والتحضر والتفنن المخضرم بقيم الإسلام، أثَّـر حتى في الفكر اليهودي والمسيحي على أصعدة مختلفة من مناحي الحياة، ومن بينها مثلا يذكرُ المستشرق الإسباني Angel Gonzalez Palencia التأثيرَ الأدبيَّ الذي كان له باعٌ وحضورٌ كبيران، فيقول:" وكان للأدب العربي الأندلسي في النصارى نفسُ الأثر الذي كان له في اليهود، إذ كان أولئك النصارى جيرانا للمسلمين الأندلسيين ربطتهم بهم الأسباب المتصلة زمانا بعد زمان، ولم تقتصر علاقاتهما على الحرب بل قامت بينهما صلات سلمية أيضا، وعن طريق هذه العلاقات عرف نصارى الشمال ما كان للمسلمين في الجنوب من نُظُم سياسية وإدارية ودينية وتجارية، وتنبهوا إلى قدرها، وكان من الطبيعي أن يميلوا إلى النسج على منوالها... وأخذ ملوك قشتالة يعملون على رفع مستوى الثقافة بين شعبهم، بنقل كنوز الثقافة الإسلامية إلى لغاتهم."(13) إن التأثير الذي أحدثه الإسلام في الغير كانت له تمظهرات وتجليات اختلفت وتنوعت من منطقة إلى أخرى حسب الخصوصيات الجغرافية وطبيعة التواصل الذي نشأ بين المهاجرين الأُوَل، وأثمرَ حضورا وتفاعلا وتصاهرا حقق مصالح مشتركة .

لقد شكلت مرجعيةُ الإسلام الخلفيةَ الفكرية والسلوكية والقيمية لجملة من الأسئلة المحيرة التي شغلت بال الإنسانية، وقدمت لها إجابات استطاعت أن تتموقع في الزمن حسب فهوماتِ الناسِ وحدودِ مداركِهم وحاجاتهم. ومنذ أن نزل الوحيُ واكتملَ الدينُ الخاتمُ على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحركة الدخول في الإسلام تعرف بداية لا نهاية لها إلى يوم القيامة؛ لهذا جاء التعبير القرآني بصيغة المضارعة المفيدة للاستمرارية في فعل "يدخلون" من قوله تعالى" ورأيتَ الناسَ يدخلون في دينِ اللهِ أفواجاً(14) ". وتشهد هذه الآية الكريمة على خلود ظاهرة الدخول في دين الحنيفية السمحاء" إن الدين عند الله الإسلام"(15) . بل إن محللي الإحصائيات لاحظوا أن مُشيرَ المِبيان المتعلق بإحصاء عدد معتنقي الإسلام يعرف حركةَ صعود وتزايد غير مألوفة في تحليل باقي الظواهر و الأقضية، وليس فقط في القارة الأوربية بل في عدة قاراتِ هذا الكون؛ وبين مختلف الأعمار والأجناس والنوع. إنها فعلا ظاهرة لافتة للنظر جديرة بالمقاربة قمينة بالتحليل واستشفاف العِبر والدروس؛ وأيضا جديرة بالتتبع والتصويب والدعم ومزيدِ تأهيلٍ راشدٍ وتكوينٍ منظمٍ.

وبواعثُ هذه الظاهرة وأسبابُها متعددةُ المداخلِ والحيثياتِ، لهذا يصعب على المترصدين والمنزعجين ضبطُ مصدرها والتحكمُ في إيقاعها، خاصة أنها لم تعد حالات فردية بل ومنذ أمد بعيد كان اعتناق الإسلام أفواجا وجماعات، فكانت القبيلة تُسْلم برمتها وتأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم معلنة ولاءَها وبَيْعـتها. واستمر الحال وتطور، وصارت الفتوحات وما صاحبها من تزاوجٍ وتعايشِ الأعراق ومن ثمرات ومكتسبات، تفتح على دين ِالإسلام منافذَ وأبوابَ تُجاه الأمم والأغيار، ناشرةً قيمَ التعايش والتواصل والحقوق ومبادئ السماء، أثمرت حضارةً تنويرية متميزة غيَّرَتْ مسلكياتِ أممٍ موغلة في التناحر والتوتر والتأخر. تقول الكاتبة الكوبية الأصل الأمريكية النشأة والموطن" Maria Rosa Menocal ":" خلال بضعة أجيال، دخلتْ جماعات إثنية قديمة الإسلام بصورة كثيفة، شأنها شأن المسيحيين والوثنيين، مما سمح لهذه العشيرة المسلمة بالأندلس بأن تزداد بصورة ملحوظة، وبأن تصير لها أصول ثقافية متعددة الإثنيات، وذلك عن طريق الاختلاط بين القبائل والزيجات المختلطة، وخلافا للقوط، الذين تميزهم إثنيتهم قبل كل شيء، ولبثوا أقلية على مدى السبعمائة سنة التي هيمنوا فيها على إسبانيا، كان المسلمون ينحدرون من جماعات إثنية متنوعة، وكانت قوة المسلمين تكمن شأن المسيحيين قبلهم، في اقتناعهم بأن الحوار لم يكن ممكنا فحسب، بل إنه كان مرجوا ومأمولا، وينبغي تشجيعه ودعمه، وإذا دعا الأمر، بالضغط البرغماتي الذي تمثله المزايا المدنية التي تتيحها منزلة المسلم، لا فرق بين مسلم أسلم منذ يومين ومسلم ينحدر من قريش، وقد جعل هذا الأمرُ الناسَ يُـقبِلون بكثافة على اعتناق الإسلام."(16)

وتغيرت الظروف وتطورت المدنية، وازداد الناس تعلقا وإقبالا على هذا الدين؛ فمنهم من جاءَه مدخلُ فهمِ العقيدةِ من بابِ الدرس والبحثِ، ومنهم من باب المعاشرة والجوار والمصاهرة، ومنهم من باب التجارة والمعاملة، ومنهم من باب السفر والتعلق بالآثار والهدايا، ومنهم من باب اللقاءات المنظمة والمتَتَابِعة التي تبحث قضيةً بعد قضية، ومسألة بعد مسألة، وحيرةً بعد حيرة، تنتقل بصاحبها من منطقة الاضطراب واللَّبس إلى منطقة الفهم والتثبيت إلى مدارك التشرب والتشبع المفضي إلى اليقين والإيمان. ويقتضي هذا الأمرُ، أمرُ الإقناعِ والدعوة إلى الحنيفية السمحاء، كفاءةً وجدارة تستحضر أجوبةً تصمد أمام الشك والريبة، ويتمثًّلُ صاحبُها قيمَ دينِه حقيقةً ومسلكيةً سلوكيةً صادقة، تُـغذي حُجج الإقناع وتُزكيها بأثرٍ وجداني عميقٍ، يهزُّ النفسَ ويرتقي بالأحاسيس الفياضة بنبضات الحق والإيمان إلى موازين الأدلة العقلية والمنطقية التي تؤسس لإيمان واثقٍ وعقيدةٍ راسخةٍ، تُؤَمِّن لصاحبها قوةَ الثبات و دوامَ السكينة وسُبُلَ الارتقاءِ واكتناهِ الأذواقِ والمعارفِ الربانيةِ...

يقول الدكتور عماد محمد بابكر حسن(17) حاكيا تجربة حديثة: "منذ أن سكنتُ بريطانيا منذ سنة 1991م، اشتغلت ــ بحمد الله وتوفيقه ــ في الدعوة لغير المسلمين، وهذا ليس فخرا وإنما هو واجب شرعي، ويكون فرض عين على من اختار طواعية مجاورة غير المسلمين في ديارهم. والدخول في حواراتٍ مستمرةٍ مع أهل الديانات الأخرى يكشف للمسلم جوانب جهله ونقاط ضعفهِ، ويفتح له آفاقا جديدة من التدبر والبحثِ؛ لأن ما نظن أنه من المسلَّماتِ عندنا يخضع للسؤال من أهل الديانات الأخرى، ولابد للإسلام أن تكون عنده الإجابة المقنِعَةُ..."(18) . وتَمَلُّكُ الإجابات المقنعة من الوظائف الأساسية لمسلمي المهجر وخاصة الدعاة منهم، لأن المدعُوَّ تسكنُهُ حيرةٌ وشكوكٌ ولَـبْسٌ كبير في عدد من مسلمات دينه تمثلُ متناقضاتٍ لا يفقهها ولا يفهمها، ومن ثمة يجب ألا يجد لها صدًى وترديداً في دين الإسلام؛ و يَا مَا أصعبها من مهمة ودور. ولقد نجح الكثير، ولله الحمد، من المتمرسين بآليات الفهم وتدقيق النظر، وجمال البسط ومنهجية التحليل مع رحابةِ الصدر وحسنِ الخلق ، من إقناع غير المسلين وإماطة لثام التيه والحيرة عن فطرتهم الأصلية.

انتصار الفطرة قبيل الالتحاق بالرفيق الأعلى:

سنورد هنا مثالا وحيدا فريدا معاصرا، من بريطانيا، ستتداركُهُ الفطرة السوية قبيل وفاته بشهرين وقد بلغ الكِبَرَ، وقبل اقتراب أجله وبعدما قضى عمره قسيسا يُدرِّسُ في كنائس متعددة غير مطمئن لعقيدة التثليث؛ سيزُور" القس طيري" الدكتورَ عماد محمد بابكر حسن بعيادته لتنشأ بينهم علاقة مباحثة ومذاكرة أثمرت، بعد ظهور الورم الخبيث في بلعومه لم يُمهله طويلا، إيمانا صادقا بحثَ عنه طويلا جدا، حتى جاءَهُ وهو مُقبِل على الرفيق الأعلى، قال الدكتور عماد بابكر حسن من جملة ما قال من كلام واصف مؤثر تقشعر منه الأبدان:"... وكان اليومُ الحاسم في حياته وحياتي يوم اجتمعنا لتبادل الآراء حول كتابي، وحول الكتاب المقدس الذي أهداه إليَّ، وكان مما عرضتُ عليه من التحريفات التي وقفت عليها هو تغيير اسم (وادي بكة) الذي ورد هكذا في زبور داود باللغة الإنجليزية، إلى (وادي البكاء) في الترجمة العربية. وكان الشيخ قد قرأ معظم كتابي عن نبوءات محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والزبور والإنجيل، فسألته عن رأيه في محمد؛ فصمت حينا من الوقت ظننته دهرا، خاصة وأنني أعلمُ أنَّ السرطان قد انتشر في جسده النحيف، وما تبقى له من أيام في الدنيا قليل جدا، ثم قال لي حرفياًّ:" أصدقك القول ــ يا أخي في العقيدة ــ أنني قد ظللتُ أبحثُ طوال عمري عن النبيء الخاتم، وها أنا ذا أصلُ إليه وأنا على فراش الموت" فقرأت عليه آيات سورة المائدة التي تَعِدُ القسيسين والرهبان الذين يقبلون محمدا نبياًّ بجنات تجري من تحتها الأنهار. والذي لا إله إلا هو، لقد فاضت عينه من الدمع مما عرف من الحق، وقال لي:" وما لي لا أومن بالله وما جاءني من الحق، وأطمع أن يُدخلني ربي مع القوم الصالحين"، ولم تمض أسابيعُ قليلة حتى فاضت روحه إلى بارئها، ثمَّ فاضت عينايَ من الدمع وأنا أشهد يوم تشييعه الذي فُتِحتْ وصيته، وفاجأ قومه بأنه ماتَ على الدين الحق الذي اكتشفه في آخر أيام حياته، وأشار إلى شخصي الضعيف في وصيته من غير أن يجرح شعور قومه، ففهم الجميعُ أن القسيسَ "تيري" قد مات مسلما على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وطلب مني أهلهُ ــ بكل تواضع ــ أن أصلي عليه صلاة الجنازة ، فصليتُ عليهِ وحيدا يوم 25 ـ 8 ـ 2005، في قريته النائية في أقصى غرب بريطانيا على مشهد من أكثر من ثلاثمائة من قومه. مضى "تيري" إلى ربه مسلما ـ عليه رحمة الله وعليناــ فلا صام ولا صلى ولكنه صدَّق وما تولى..."(19) . إنها حالة لا شك لها نظائر كثيرة جدا تتكرر في كل وقت وآن وعلى اختلاف الأمصار؛ وهي تؤشر لتنوع وتعدد مداخل الفتح الرباني على عبيده الذين لا يُقفلون عقولهم وقلوبهم، ويسعون بحثا عن الحقيقة سعيا.

التحول إلى العقيدة الإسلامية وسُبُلُ التحصين والترشيد:

أ ــ مسيرة التحول إلى الإسلام وأهم خصائصها:

إن الغرب أصبح يعيش ظاهرة لافتة تجد لها صدى و تجليات مختلفة في مناحٍ عدة تجلت في التحول إلى الإسلام عند الكثيرين، وذلك بسبب ارتكازه المفرط على ثقافة العقلانية وتقديس العقل وربط الغيب بمنطق الخرافات والاضطراب القصصي والأسطوري الذي يختل معه ميزان الاستواء والتوازن، يقول المفكر المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي:" صحيح أن الغرب يتحكم بعقله في أدق تفاصيل الاستنساخ، ويطور القنابل الذرية ويتحرك بالأنترنيت، وهو يعيش ذروة عقلانيته بغزو الفضاء. ولكنه يعتمد في الجانب الآخر على خرافية مغرقة في الظلام. وإن المؤشر الأقوى على ذلك هو أن رقم معاملات المجلات والمنشورات والأفلام التي تتعلقُ بالعَرَافة والخرافة وقراءة الأبراج والسحر والشعوذة، قد انتقلت في العشر السنوات الأخيرة إلى الرقم الأول، في حين هبطت مبيعات الجنس والرياضة والفن في هذه المنتوجات...إن عقلانية الغرب اليوم بموجب هذا الواقع التناقضي، عقلانية مهزومة ومكسورة الجناح. فهي وإن كانت تحلق بجناحها الأيمن شامخة بالعقل، فإن جناحَها الأيسرَ مكسورٌ وغارقٌ في أوحال الخرافية المخجلة القادمة من أدغال إفريقيا ومن بلاد الهند، وقبل ذلك من أعماق النصوص الدينية المسيحية المحرفة."(20)

مع هذا الواقع الغربي المختل ستتحرك بدءاً من الشرق يقظة إسلامية عمت العالمَ الحديثَ والمعاصرَ، صحوةً وتجديدا وتدقيقا في المفاهيم والقيم، وانطلقت من جديد حركية التواصل الديني التي جعلت الكثيرَ من الغربيين يُقبلون على دين الله؛ بشكل لافت كما أشرنا آنفا.

لقد أصبحتِ القاراتُ الأوربيةُ والأمريكيةُ والأسترالية بعامة وبعض الدول منها بخاصة، تعرفُ واقعا معيشيا طبيعيا وعاديا يتعايشُ فيه أهلُ الدار المقبلون على الإسلام مع مواطني بلدهم وهم يتَمَثَّلون نكهة التحولِ إلى العقيدة الجديدة والتجملِ بأخلاقياتها وبعض تجلياتها الخارجية، دون أن يَنْقُصَ ذلك من درجة مواطنتهم وحقوقهم، اللهم ما قد يُستثنى من حالات عنصرية منعزلة ذات بعد طائفي ديني. لكن الغالب الأعم هو أن المسلم الجديد يحظى بكامل حقوقه ورفاهيته، بل إنه محظوظ دون غيره بالسكينة التي أصبحت تتربع على عرش قلبه الذي كان يعيش التوترَ الدائمَ والحيرة المُؤَرِّقَة.

إن المتحولَ إلى دينِ الإسلام في ديار الغرب يُصبح بين عشية وضحاها في موقع غير الموقع الذي كان فيه من حيثُ الرؤيةُ للكون والوجود، ومن حيثُ العبادةُ وممارسةُ الشعائر، وأخيرا من حيثُ القيمُ والسلوكُ، ومن حيثُ النظرةُ لأبناء بلدِه ووطنه . وهنا يُطرحُ إشكال عويص لدى هذه الفئة يتعلق بتضخم الاعتزاز وفرط الانتماء المفضيين إلى الحماس الزائذِ وتَـقَصُّدِ التَّمَيُّـزِ وإبرازِ مظاهر المخالفة في الصغيرة والكبيرة. وهذه طبيعةٌ في النفس مع كل جديد، وقد تُقْبَلُ في حدودٍ وفي أمدٍ لا يطولُ، وإلا غدا ذلك مدعاةً وإرهاصا للإرباك والاضطراب وجلب المضار التي قد تعصف بالإيمان برمته وقد حصل بعضٌ من ذلك أو كثيرٌ عندَ مَنْ لم يجد من يُصوبُ له بَوْصَلة التدين بالدين الحق وابتغاءِ الوسطيةِ والاعتدال فيهِ.

وهذا يدفعُ بنا إلى القول بضرورة بذل مجهود كبير لدى الفئة المؤمنة الجديدة على مستوى حُسن "تبيئة" المفاهيم الإسلامية الجديدة وتنزيلها في وسط غربي ذي خصوصيات وتقاليد وأعراف عريقة.

ليس من مقاصد الإسلام السامية ولا من توجيهاته السمحة أن يُصبح المؤمن الجديد غريبا في وطنه الذي هو بالطبع ليس دار إسلام، يعيش حَرَجا أو نشازا بين أدبيات قومه، وقد كان قبل إسلامه فاعلا ومنخرطا ومتماهيا ومساهما في الإنتاج وطرفا أساسا في التواصل اليومي ودينامية جماعة وطنه.

إن أهم خصيصة يتميز بها المسلم الجديد عن المسلم التقليدي الذي يكثر مثيلُه في دروب عالمنا العربي والإسلامي، هي أنه يدخل دين الله بعدما محَّص المفاهيم وصحَّح التصورات وفهم الأحكام في حدود مداركه فارتضاها لنفسه دينا وشريعة، فانتعش قلبه وطربت جوارحه، "فالشخص المؤمن ــ يقول المرحوم محمد قطب ــ المهتدي بهدي الله، والمهتدي من ثمَّ إلى ناموس الكون وناموس الحياة، هو فعلا شخص (أعلى) من بقية المخلوقات.(أعلى) لأنه يشرف على الكون من أفق أكبر وأضخم من آفاق البشر الذين لم يفتح الله عليهم بنعمة الإيمان. وفكرتُه عن الله والكون والحياة أكبرُ وأضخمُ من فكرتهم. وفكرته عن الإنسان خاصة، وعن الحياة الإنسانية، هي أوسع وأشملُ فكرة يمكن أن تخطر على قلب إنسان... وقد أدرك المسلمون الأوائلُ هذه الحقيقةَ على أوسع مجالاتها وأعمقها. فقد كان كل فرد منهم يدخلُ الإيمان قلبَه يحس من فوره أنه إنسان جديد"(21) . لا أحد من المسلمين الجدد دخل الإسلام مكرها دونما اقتناع ووعي وفهم، وإلا كان إيمانه على شفا جُرُف يهوي في أول ابتلاء أو محنة؛ وبسبب هذا المدخل الإيماني المؤَسَّس على الفهم والاقتناع يستقر الإيمان في القلب طمأنينةً وسكينةً وعبادةً وتخَلُّقا، ويصبحُ المسلمُ (الجديد والأصلي) على هذا النحو من الإيمان والتدين بالفعلِ جديداً و"أعلى" تزكيةً وترقيةً وتقرُّباً وتجَمُّلاً وإحسانا وفكرةً ونفعاً.

وبهذا الاهتداء المتزايد إلى النور المحمدي توسعت الخريطة الإسلامية في صفوف العجم وتنوعت مكوناتُها، وأثمرتْ في حالاتٍ كثيرةٍ أسرا إسلامية مُكتملة الأطراف من الأجداد إلى الحفدة. وهذا المشهد الإسلامي الجديد الذي تعددت أطرافه، نساءً ورجالا وناشئة ومراهقين، فرادى أو أُسَراً، أمسى من الضروري الاعتناءُ بسُبُل تحصينه وترشيده والإجابات عن مستجداته وتساؤلاته وتلبية حاجاته.

ومن خصائص هذه المسيرةِ أيضا، مسيرةِ الدخول في دين الله، أنها حركة مجتمعية غير منظمة، وغير مخطط لها تخطيطا رسميا يستطيع أن يتحكم في مخرجاتها وعددها، بل هي حركة تاريخية اجتماعية وصيرورة ثقافية ودعوية، تتفاعل خيوطها بين مكونات المجتمع وما يُنسج بواسطته من علاقات خاصة وعامة. فمهما وُضِعت العراقيل التي تحُدُّ من النشاط الدعوي المنظم والمسموح به، فإن هذه الخصيصة تجعلُ أمرَ ضبطِ حركةِ الإقبال على الإسلام وتحجيم عددهِ وحصارِه أمرٌ مستحيلٌ، لم تستطع أعتى الدول وضعَ هندسة وخطة استراتيجية على المدى المتوسط أو البعيد تجعلهم يطمئنون إلى جدواها ونجاعتها صدًّا وإطفاءً لنور الله ورسالتِه في الأرض. جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله غليه وسلم:"لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ، عِزٌّ يُعِزُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الإِسْلامَ ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ."(22)

لقد تذكرتُ هذا الحديثَ الشريفَ لما وصلتُ سنة 2001 إلى مناطق شبه قروية نائية بالصين الشعبية بشانغهاي ونواحيها، فوجدت أسرا صينية مسلمة بالأصول ومسلمين جدداً كالقابضين على الجمر، يتحدَّوْنَ الحَرَّ والتضييق، إيمانُهم يحارُ المرءُ أن يجد له وصفا، وتقديرُهم للعربي المسلم يكاد يصلُ حدَّ التقديس لنسبه العربي ويُسر قراءة وفهم القرآن الكريم.

ب ــ سُبُل التحصين والترشيد :

تنوعَ الحضور الإسلامي في الغرب بالنسبة للمسلمين الجدد؛ وأصبحنا نجد المسلم الجديد في المرافق العمومية موظفا وإطارا ساميا وعاملا بسيطا، وفي صفوف النخبِ والمشاهير، كما نجده في جنس الرجال والنساء على حد سواء، وأصبح منهم دعاة متخصصون، وتكونت أسرٌ كاملةٌ تنوعت طرق إسلامها فأصبح الجميعُ بفضل الله مُوَحِّداً يدينُ بدين الله، وأيضا نجد حالاتٍ إسلاميةً منفردةً لم تستطع الأسرة الواحدة أن تتناغم مع عقيدة المسلم الجديد وتتَـفَـهَّمَ تعاليمِ دينهِ أبا كان أو أما أو أخا أو أختا أو غير ذلك، فيمارسُ المسلمُ وحده شعائرَه داخل أسرةٍ بغير دينه في جو نفسي غير مشجع، مما يدعوه إلى تواصل مرن وتعايش ذي خصوصية ...

وأمام هذا التنوع في الحضور الإسلامي للمسلمين الجدد، أصبح الإسلامُ يتواجد ببعض شعائره وآثاره وأخلاقياته وبعض مظاهره الشكلية داخل الأوساط الغربية المختلفة، واستأنس بها الناسُ أهلُ الدار ومواطنوها، واعتادوها وقَبِلوها من باب واقع الحرية الشخصية للفرد كما تنادي بذلك الحضارة الغربية. وقد يحصلُ أن نلحظ استثناءاتٍ سلوكيةً عنصريةً بغيضةً تجاه المرأة المسلمة الجديدة أو المسلم الجديد، فيعاني ألمَ التضييق أو الكيد أومحاصرته في فرص الترقي ونيل المناصب السامية...

والسؤال الكبير الذي أرى أن هذا المنتدى العلمي المبارك يُقاربُ ويلامس بعضَ جوانبه، هو كيف نُحصن ونُرشد سبلَ التدين عند هذه الفئة المؤمنة؟ كيف نطور فقه الجاليات المسلمة والمسلمين الجدد؟

- ضرورة التحصين: لقد أمسى موضوعُ التحصين الآن أُولى أوليات المسلمين الجددِ أكثرَ من أي وقتٍ مضى، وما يُعطيه هذه المكانة والأولوية حرصُ الإسلام على احتضان الداخلين فيه وتأمين عقيدتهم من شر الردة والنكوص. يَعتبرُ الإسلامُ موضوعَ الرعاية والقيام بشؤون الرعية من المهام الأساسية لكل راع ومسؤول؛ ونحن المسلمين ــ كنخب ومؤسسات جامعية وجمعيات دعوية ومنتديات علمية وأكاديمية ودول إسلامية ــ نتحمل مسؤولية كبيرة تجاه هذه الفئة المؤمنة، من حيثُ تعديلُ بعض السلوكات وتصحيحُ الفهومات الخاطئة أو غير الدقيقة للمقاصد والأحكام الشرعية وترتيبُ الأولويات في بيئة غير مسلمة. فالمسلم الجديد مثل تلك النبتة الفتية الطرية التي يجب الاعتناءُ بها ورعايتُها بالسقي والتشذيب والحرص اليومي على جماليتها وأناقتها، فلو تُرِك هذا المؤمن أو المؤمنة وحيدا أو وحيدة، لاختلط بهما العلل التي تصيبُ الذوات فتنخرُ البناءَ من أصله لا قدر الله، ومتى ما كانت الرعايةُ والتتبعُ وتجديدُ الإيمان والتواصلُ مع الأخيار أثمرَ ذلك تنورا في الفكرِ وصفاءً في العقيدة واعتدالا في السلوك ووسطية في التدين، فلا إفراط ولا تفريط. وهذه حصانة ومناعة تقطع الطريقَ أمام أصحاب التيارات الضالة التي تتمسح بلبوس التدين والتسنن فتستقطبُ بعضَهم للإيقاع به في أتون معارك ومهاويَ تهدم بيضةَ الدين من حيثُ تدعي أنها تسترجعُ خلافتَه ودولتَه وسنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وكلُّ ذلك منهم براءٌ.

ولهذا وجب تثمينُ وتقدير النماذج الرائدة من المسلمين الجدد وتقديمهم كأعلام متميزة للجمع بين التدين على منهاج النبوة والمواطنة والإيجابية وخدمة الصالح العام، بدل الانزواء والانطواء والتخلي عن الأدوار والوظائف والمهن، والتخلقِ بزيف الدروشة والتمسكن وغطاء الصوفية.

- دور السابقين الأولين من المسلمين الجدد: إن أول تحصين نراه مناسبا هو أن تتضافر جهود السابقين الأولين من المسلمين الجدد والمترسخين منهم في العلم والفهم، كلٌّ في بيئته ووطنه، لكي يؤطروا حركة الدخول في الإسلام ويرعوها بالتتبع والمناقشات الهادئة واستثمار تجاربهم الخاصة على مستوى التحول والتغير الذي يطرأ على الحديثِ عهدٍ بالإسلام، وما قد توسوس به نفسه، مما يجعل المتحدثَ معه عارفا بمثل هذه الخبايا بل ومستبقا للأحداث ليعالجها برؤية استباقية متأنية. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال في هذا السياق تجربة المسلم النمساوي محمد أسد(ليوبولد فايس سابقا) المتوفى رحه الله سنة 1992م؛ و البطل الأمريكي المسلم محمد علي الذي غادرنا شهر يونيو 2016، ومواطنه (القس السابق) يوسف إستس (ولد 1944) والأكاديمي الأمريكي حمزة يوسف (ولد 1958) والموسيقار اللندني يوسف إسلام (ولد 1948) بارك الله في عمر الجميع، وغيرُهم كُثُر ممن يصلح نماذج للاهتداء وصيانة التدين وحسن التعبد. بل يمكن اعتبارها مدارس مختلفة في صيانة وتحصين إيمان المسلمين الجدد يراعي خصوصيات المناطق وثقافة التعايش والتسامح.

إن التحصين بالقرين من أهم سُبُل التحصين وصيانة التدين الراشد، والقرينُ يُقصَدُ به المماثل والشبيه الذي تتقاطع فيه عدة تقاسماتٍ ومشتَرَكاتٍ، تًشكل الجماعةَ النفسيةَ الواحدةَ التي تتفاعل داخلها الأطرافُ المؤمنة بطريقة مندمجة سلسة لا تتصارعُ فيها القيم ولا العادات ولا أسلوب التخاطب والتواصل مع الجماعة الكبرى التي تٌشكل البلدَ والوطنَ الأمَّ والمصالح الذاتية والجماعية. لذا يُطلَبُ من إخواننا المؤمنين الجدد (السابقون الأولون) أن يبذلوا جهودا مضاعفة في الاهتمام بالمقبلين الجدد على الإسلام، لكي يُصوبوا لهم بوصلة التدين الراشد الذي لا يعني القطيعة َالتي تولد الانفصام والانفصال، وتجلبُ المشاكلَ التي يكون فيها المسلم الجديد في غنى عنها لو أنه دقق الفهم وأحسنَ التصرف باليُسر والحكمة اللذين يُبعدان الحرجَ والعنتَ" يريدُ اللهُ بكم اليسرَ ولا يريد بكم العسر"(23) . اليُسر في الآية يقصد شعيرةَ الصيامِ كما هو يُسْر منه تعالى ورحمة في باقي الأحكام.

وحينما نتحدثُ عن دورِ القرناء من أهل الدار المؤمنين في وظيفة التحصين، وضرورةِ الاحتكاك المباشر والتواصل المستمر بنفس لغة الوطن أو اللهجة ومنهجية التفكير وطرق الشرح والتوضيح والسكن النفسي والاجتماعي؛ فإنه لا يجب أن يُفهم أنها دعوة لصناعة جماعة التميز وادعاء المخالفة والتعالي على العباد مهما كانت ديانتهم ومعتقداتهم داخل البلدة الواحدة، بل الإيمانُ يُعلِّمُ صاحبَه الرحمة في النظر إلى خلق الله، وأن تُخالط الناسَ وتصبرَ على أذاهم خيرٌ وأحبُّ عند الله من ألا تُخالط الناس ولا تصبر على أذاهم كما جاء في الحديث الشريف . لقد كان يظن "محمد أسد" قبل إسلامه أنه سيفاصل مجتمعه وأبناء بلده وقومه، ويعترف بذلك قائلا:"...كنت أعي تماما أنني لو اعتنقتُ الإسلامَ لاضطررتُ إلى خلع نفسي نهائيا من العالم الذي وُلدتُ ونشأت فيه. لم يكن من الممكن لامرئ مثلي أن يتبعَ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويظلَّ بعدها محتفظا بروابطه الداخلية مع مجتمع يتصفُ بثنائية المفاهيم المتعارضة.(24) إن هذا الإحساس يخالطُ الكثيرين قبل إسلامهم ويزيد في توترهم وترددهم، لكن الأمرَ يتغير رويدا رويدا بعد الدخولِ في الإسلام وحصولِ السَّنكن النفسي والطمأنينة الروحيةِ، إذ ينخرطُ المرءُ في دواليب حياة مجتمعه ويحرص على تحقيق مصالحه الذاتية ومنافعه الخاصة التي يحفظ بها لنفسه الرقيَّ الاجتماعي والكسب الحلال، وتسمح له بالعفوية المطلوبة والتعايش المشترك بتمرير قيم دينه وسمو أخلاقه وتعاليمه.

- رعايةُ أبناء الأسرة المسلمة الجديدة: تتكونُ هذه الأسرُ بأسبابٍ مختلفةٍ وحيثياتٍ متدرجةٍ وتمهيداتٍ متعددةٍ يُيسرُ اللهَ فيها إشراقةَ نوره في هذه البيوتات التي تتحول من الضلالة إلى الهدى، ويُصبح البيتُ بفضلٍ منه تعالى مؤمنا موحدا. ويهمنا هنا أن نلتفتَ كمربين وآباء ودعاةٍ، إلى الإشكال التربويِّ الذي يطرأ على تنشئة الأبناء وتربيتهم، نظرا لخصوصية التحول إلى الدين الجديد والتشبع بتعاليمه وأوامره وصعوبة التأقلم وحسن تدبير الأوامر الشرعية بنوعٍ يراعي خصوصية التنزيل والتطبيق في بيئة غير إسلامية، وخاصة مع الناشئة الذين يجدون أنفسهم بين نوع التربية والتنشئة لأبوين حديثي عهد بالإسلام(خصوصية الظرفية) ونمط المجتمع الغربي المتحرر؛ وهنا تحضرُ أهمية موضوع الرعاية والتحصين لأطفال هذه الأسر حتى لا يُصابوا بنوع من الانفصام والاضطراب والرُّهاب الاجتماعي، بسبب سوءِ تقديرٍ في تصرفٍ أو سلوكِ تشددٍ أو تحميلِـهم أمورا تعبدية صالحة للكبار وليست في مستواهم العمري.

إننا ندعو من خلال هذا المنتدى المبارك إلى تربية إيمانية وسطية معتدلة تراعي خصوصيات النمو عند الطفل المسلم من أبوين مسلمين غربيين ومراعاة منطق التدرج في اكتساب المفاهيم الإسلامية الجديدة على والديه وعلى وَسطِه وعلى ذاته نفسِه، حتى يتشبع بقيم دينه بالتدرج المطلوب والبَيَّنة الواضحة والفهم الراسخ، مع مراعاة إعطاء المعنى والتفسير والمغزى لكل أمرٍ والديٍّ أو حكم شرعي يُولِّدُ الاقتناع والفهم، مما سيشكل لاحقا جدار الصلابة والمناعة أمام تحديات الواقع في مختلف صيروراتِ حياته ومراحل نموه وعمره,

ويُشكل تحفيظُ جزء يسير من القرآن الكريم وبعض الأدعية المأثورة حسب الاستطاعة عاملا مهما جدا في ترسيخ العقيدة وحب اللغة العربية خاصة إذا ارتبط ارتباطا وثيقا عمليا بعملية تعلم اللغة العربية أولا، لأن الطفل في هذه المرحلة يستطيعُ بسهولة ويُسر اكتسابَ لغةٍ ثانيةٍ بعدما تحكم في لغته الأم وأتقنها، فتعلمُ لغةٍ ثانيةٍ وخاصة اللغة العربية يُعَدُّ مكسبا مهما لهذه الفئة من أبناء الأسر المسلمة الجديدة.

وبهذا اللون من التربية والتنشئة يستطيع الطفل المسلم أن يختلط بأقرانه المسلمين كما باقي أقرانه من مختلف الأديان في المدرسة ونوادي الرياضة والرحلات والمنتديات المختارة بدقة دون أن يُحس بمشكلة في التواصل الطبيعي العادي والاحترام المتبادل. كما يجب الاهتمام بالمراهقين أكثر ومصاحبتهم والعمل على تجنيبهم مخالطة والاحتكاك بمجموعة ذات فكر معين تزيغ بهم عن جادة التدين وترمي بهم في أتون الهجرة المزيفة والفيافي التائهة.

- دعم الأحزاب والمنظمات المساندة لحرية التدين: يجب أن يستثمر المسلمون الجدد كامل مواطنتهم في تحصين هويتهم الدينية وتأمينها من خلال دعم الهيئات التي تدافع عن المواطنين دون عصبية أو تفرقة، مما يجعل الشأن الإسلامي حاضرا ومعتبرا في لائحة المطالب الخاصة بالمواطنين المسلمين على مختلف الأصعدة الفردية و الجماعية، مع الاحترام والتقيد بعدم الإخلال بالنظام العام للبلد...

- دور الاجتهاد والدعوة: نثمن عاليا جهودَ نُخبةٍ من المسلمين الذين استوطنوا باكرا ديار الغرب لدولعٍ عدة، في تأسيس خطابٍ دعويٍّ جذابٍ استطاع أن ينفتح على الآخر ويحتك به، وأثمرَ ويُثمرُ إقبالا على دين الله تعالى منقطعَ النظير. وكان ــ ولا زال ــ لجهود علماء الإسلام وأهل الإفتاء المتمكنين في ديار الغرب دورا رائدا في تثبيت الهوية وترشيد التدين وإشاعة قيم الاعتدال والوسطية لدى هذه الفئة، ومراعاة خصوصياتها في التدرج والالتزام، وعلى الأئمة الدعاة أن يواصلوا جهودهم الدعوية على مستوى الخطابة أو جلسات الوعظ والإرشاد أو مختلف الأنشطة الأسبوعية وأيام العطل بخطاب يلامس الهموم ويلبي الحاجات اليومية للمسلمين الجدد ولا يُغْرقهم بالتفاصيل الفقهية والاختلافات المذهبية.

- تفعيل خدمات وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي: أصبحت تكنولوجيا الإعلام تفرضُ واقعا حياتيا لا محيد عنه، وأضحت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي تُلبي الحاجات والرغبات في المعلومة والأغراض الشخصية على سرعة البرق، واستثمارُ مثل هذه الآليات في توظيفٍ دعويٍّ مُحيَّنٍ وجذابٍ يُساعدُ على التتبع والمواكبة عن بعد لحاجات المسلمين الجدد وأسئلتهم ومشاكلهم التي قد تتعقد مع الزمن إذا لم يتم التعامل الراشد معها في إبان بداياتها، قبل مزيد تعقيدٍ خاصة حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الزوجية وما يرتبط بذلك من مصالح مالية واستحقاقات أسرية تنعكس على نفسية الأطفال ومستقبلهم وأخلاقهم. لذا وجب الاهتمامُ بتطوير الأداء الدعوي الرقمي ــ شكلا وفنية ً ومضمونا ــ وحسنُ تسويقه وسرعةُ تقريبه وتيسيره، خدمة وتلبية لمختلف الفئات رجالا ونساءً وناشئةً وشباباً مراهقين...

- تنويع وتشجيع العرض التربوي: تعتبر المؤسسات التعليمية إلى جانب الأسرة من المحاضن التربوية الأساسية لتنشئة الطفل المسلم وحسن رعايته وتربيته وإنماء كفاياته ومهاراته، لذا فالجهودُ يجب أن تتضافر أكثر لتشجيع العروض التربوية التي تدعمها ميزانية الدولة بمقتضى القانون لأهل الديانات الأخرى مما يسمح للمسلمين بافتتاح مدارس إسلامية نظامية تراعي المنهاج الإسلامي إلى جانب المنهاج التعليمي الوطني للبلد، على أن تحافظ مثل هذه المؤسسات على بهاء التمدرس وكفاءة المدرسين وقيم الإسلام السمحة وعلى قيمة الشواهد الممنوحة، وأخيرا على حب الوطن الذي ينتمي إليه المتمدرس دونما إغراق وإفراط في صناعة التميز والمخالفة الممجوجة.

ويُعتبرُ مثلُ هذه العروض التربوية من العوامل الفعالة والسُّبُل المباركة في التحصين الإيماني لأولاد الأسرة المسلمة الجديدة وحضنا دافئا للتنشئة السوية وبناء الهوية وتحصينها...

على سبيل الختم:

يقول تعالى:" اليومَ أكملتُ لكم دينكمْ وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا "(25) . إن نزولَ الوحي الخاتَم جاء إيذانا باكتمال البنيان الكوني والنعمة الكبرى التي أتمها الله تعالى على خلقِه، وسيقضي الكون العامرُ ماشاء الله له أن يقضي زمانا حتى تُطوى صفحتُه " كَـطَيِّ السجلِّ للكتب"(26) . فنورُ الله وقيمُ السماء جاءت ــ كما قلنا ابتداءً ومطلعاــ لإخراج الناسِ كل الناس من الضلالة إلى حقيقة الحقائق، ومن ثم فطبيعةُ الرسالة أنها تفتح القلوبَ المُغلقةَ وتُنور العقولَ الحائرة، وتدخلُ البيوتَ والأممَ والشعوبَ، لا فرق عندها بين الناطق بلغة الوحي والعجمي، بين أسود وأبيض، بين غني وفقير، بين ملك وعبد، إلا بالتقوى وفعل الصالحات. إن رسالة التوحيد سجلٌ إيماني مفتوحٌ مُشرع لا يجفُّ حبره ولا تنتهي كلماته، تُدوَّن في سطوره يوميات التائبين والأوابين والفارين إليه من حيرة

" جئت لا أدري من أين ولكني أتيتُ ولقد أبصرتُ قدامي طريقا فمشيتُ"(27)

بستستمرُ حركة التوبة والإنابة والدخول في دين الله تعالى وزرع فسائل الخير والنور ما لم يأذن الله بيوم الحساب، سائلين الله تعالى أن يحفظ إيمان كل مؤمن ويثبت فؤاد كل منيب، ويشرح صدور كل غافل وتائه، إنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.

 

د. محمد سعيد صمدي/ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

...................

قائمة المصادر والمراجع:

- آذان الأنعام، دراسة قرآنية علمية لبحوث داروين في الخلق والتطور/ عماد محمد بابكر حسن وأخوه علاء الدين محمد بابكر حسن/ دار الوطن/ الرباط/ ط5/ المملكة المغربية/2013.

- إسلام رائد/ عبد الله كنون/ ط2 / 1978/ المطبعة الملكية/ الرباط.

- الأندلس العربية إسلام الحضارة وثقافة الحضارة وثقافة التسامح/ ماريا روزا مينوكال/ ترجمة عبد الحميد جحفة ومصطفى جباري/ دار توبقال للنشر/ ط1/ 2006/ مطبعة النجاح الجديدة/ الدار البيضاء.

- الطريق إلى مكة/ محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) / ترجمة رفعت السيد علي/ مكتبة الملك عبد العزيز العامة/1425/الرياض.

- تاريخ الفكر الأندلسي/ آنخل جُنثالث بالنسيا/ ترجمة حسين مؤنس/ مكتبة الثقافة الدينية/ القاهرة/ 1955.

- هل نحن مسلمون/ محمد قطب/ دار الثقافة للنشر والتوزيع/مطبعة النجاح الجديدة/البيضاء/ط1992.

القرآن والعقل مدخل معرفي/ أبو زيد المقرئ الإدريسي/ج1/ مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات/ ط1/2015/ مطبعة النجاح الج

هوامش

(1) ــ سورة هود:116.

(2) ــ سورة الإسراء:95.

(3) ــ جاء في الصحيحين، قوله صلى الله عليه وسلم:" مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله فجعل الناس يطوفون بالبيت ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؛ قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين"

(4) ــ الكوثر :3

(5) ــ التوبة:128

(6) ــ الأنعام : 124

(7) ــ سبأ : 28

(8) ــ إسلام رائد: 35

(9) ــ سماهم كنون وهم الدكتور حسين مؤنس والدكتور محمد عبد الله عنان والأستاذ عبد الله كنون رحمهم الله جميعا.

(10) ــ طبعا في ركن الشهادة لم يشر لرسالة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه مسيحي.

(11) ــ إسلام رائد : 41.

(12) ــ نظام الإرث مثلا وكيفية حماية مال اليتيم الخ...

(13) ــ تاريخ الفكر الأندلسي: 27

(14) ــ الفتح: 2

(15) ــ آل عمران: 19.

(16) ــ how muslims jews and christians created a culture of tolerance in medie-al spain:م بعنوان الأندلس العربية إسلام الحضارة وثقافة الحضارة وثقافة التسامح:29 /

(17) ــ توفي رحمه الله سنة 2016 ببريطانيا حيث كان يقيم.

(18) ــ آذان الأنعام/ دراسة قرآنية علمية لبحوث داروين في الخلق والتطور: 14.

(19) ــ نفسه: 17، وكتب إهداءً ودعاءً مؤثرا للدكتور عماد على غلاف الكتاب الذي أهداه إليه، أثبته في هذه الصفحة.

(20) ــ القرآن والعقل مدخل معرفي:ج1 ص35.

(21) ــ هل نحن مسلمون: 48.

(22) ــ أخرجه الإمام أحمد.

(23) ــ البقرة: 185.

(24) ــ الطريق إلى مكة: 415.

(25) الأعراف: 3

(26) الأنبياء: 104

(27) إيليا أبو ماض.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم