صحيفة المثقف

كتاب (الأمير) لماكيافيلي: انتهازية أم واقعية سياسية؟

kamal alhardiما يربو عن 500 عام مذ رحل عن عالمنا (ماكيافيلي) صاحب أشهر مقولة نفعية على الإطلاق (الغاية تبرر الوسيلة). تلك المقولة العابقة بالانتهازية ارتبطت باسمه ارتباطا وثيقا ليصبح اسمه - فيما بعد ولمئات السنين - سيء السمعة ومثير للاشمئزاز لدى أصحاب الفضائل الداعين إلى كرائم الأخلاق وجواهر الإنسانية.

في كتابه (الأمير) ذكرت تلك العبارة وغيرها من العبارات التي ارتبطت لدى شريحة واسعة من القراء بمعاني الخسة والدناءة والمبادئ الرخيصة. والمثير لشيء من العجب أن تلك العبارات ذكرت صراحة دون تورية أو تغطية، وأنه ساقها للأمير في قوالب النصح والإرشاد لدرجة أنه أباح دماء المعارضين والذي كان منهم من احتضنه ورباه حتى صار فتيا! يقول المدافعون عن المنطق الماكيافيلي أن كتابه يتناول الأشخاص كما هم لا كما يجب أن يكونوا، بيد أن ذلك لم يجد نفعا في تحسين اسمه الذي صار مرادفا للشر.

يقول ماكيافيلي أنه وضع في كتابه (الأمير) خلاصة فكره وتجاربه في مضمار السياسة، ثم أهداه للأمير ليسترشد بأفكارة الذي ظل مشغولا بتحصيلها لسنوات عديدة. وفي مقدمته استهل حديثه بمدح المنبت الشريف للأمير والصفات الشخصية التي يتحلى بها، ثم أردف ذلك قائلا: الناس يهدون الحكام جياد أصيلة أو أسلحة ثمينة أو ثياب موشاة بالذهب أو الأحجار الكريمة، أو ما شابه ذلك مما يليق بمكانتهم العظيمة، وأنا لا أجد أثمن من كتابي هذا لأهديك إياه. وفي حقيقة الأمر أنه كتب الكتاب وأهداه إلى الأمير عله يحظى مجددا بالمنصب الذي فقده إبان الحكم السابق، وبذلك فإن ماكيافيلي هو أول من مارس النفعية السياسية بعد تأليفه للكتاب ليثبت قناعاته بأن القوى المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية، وأن ما هو مفيد فهو ضروري حتى لو تطلب الوصول إلى الغايات تجاوز الاعتبارات الدينية والأخلاقية.

ومن تلك الارشادات التي أوصى بها الأمير في كتابه بأن لا له رذائل مفضوحة أمام الناس، فالناس يودون أن يروا حاكمهم في صورة حامي حمى الفضيلة، وإن كان خلف الأستار عاشق لمستنقعات الرذيلة. إذن فما يضر الحاكم - وفقا لماكيافيلي - هو أن يظهر الرذيلة، أما إذا أبطنها فلا ضير ولا بأس. كما يوصي أيضا في كتابه بضرورة أن يكون الأمير محبوبا ومرهوبا أو مرهوبا فقط، وأن من الضار للأمير أن يكون محبوبا فقط؛ لين الأمير المحبوب يغري خصومه به بطريق الاستخفاف بنظامه أولا، ثم تحريض العامة ضده، ثم الانقضاض عليه. أما الأمير المحبوب والمرهوب ففي يده سيف لمن عارضه وفي الأخرى مال لمن آزره. ويرى ماكيافيلي أن الأمير القاسي أكثر رحمة من الأمير اللين، لأنه بقسوته أكثر رحمة من أولئك الذين يسمحون بظهور الفوضى بسبب لينهم، لكن بامكانه كذلك المضي قدمًا بكثير من الحكمة والإنسانية؛ فالثقة المفرطة ستكسب الأمير سمعة المغفل، وعدم الثقة ستظهره بمظهر الغير متسامح. وفي كتابه يشير على الأمير أن يظل

 معترفا بجميل أولئك الذين ساعدوه للوصول إلى السلطة ؛إذ يتعين عليه أن يمنحهم ميزات تلبي طموحاتهم، و تحميهم من عقوبات قد يوجبها عليهم القانون.

ومن نصائحه للأمير الجديد أن يقضي قضاء مبرما على الأسر المالكة في الأرض التي دانت له بالخضوع، وألا يغير قوانينهم وأعرافهم ونظام الضرائب كيلا يكسب سخط الناس وعداوتهم؛ الشعب سيدين لك بالولاء إذا لم تغير ظروف حياتهم أو عاداتهم ومعتقداتهم. هذا بالإضافة إلى أن الأمير يتحتم عليه أن يقيم بالأرض التي استعمرها كي لا ينهب رجاله خيرات تلك الأرض ومقدراتها، وكذلك ليتمكن من معالجة الاضطرابات وهي لا تزال في المهد قبل أن تتفاقم وتغدو مستعصية العلاج. أما بالنسبة للفكر الاستعماري فيقول عنه: الرغبة في تملك الأشياء أمر طبيعي وعادي جدا، ومن يستطيع ذلك فسيمدحه الناس ولا يلومونه، أما من يريد التملك ولا يستطيع تحقيقه فسيقع في سلسلة من الأخطاء ينجم عنها لوم كثير.

أما عن أنظمة الحكم فقد تحدث عن نظامين. الأول يكون فيه الأمير ذا سلطة مطلقة، ويخول وزراءه أو معاونيه ما يرتئه من سلطات. وهذا النوع من الأنظمة يصعب إسقاطه باستمالة معاوني الأمير لأنهم لا يملكون سلطة مطلقة، ولذلك فمواجهة جيش السلطان هو السبيل إلى السيطرة. أما نظام الحكم الثاني فهو أن تكون السلطة مقسمة بين الأمير وبارونات حكم أخرى من أسر عريقة لهم امتيازات خاصة لو فكر الأمير بتجريدهم منها لعرض نفسه للخطر. وهذا النوع من الأنظمة يمكن إسقاطه بسهوله بشراء ولاءات أولئك البارونات أو بعض منهم، إلا أن الإمساك بزمام الحكم سيكون فيه الكثير من الصعوبات بسبب تعدد مصادر السلطة. أما عن القواعد العامة للسياسة التي لا تخيب إلا فيما ندر  فقد كتب ناصحا للأمير : كل من يتسبب في أن يقوى غيره يهلك نفسه لأنه يفعل ذلك إما بالحيلة أو بالقوة، وهاتان الصفتان موضع شك ممن يصل إلى السلطة .. وللحديث بقية.

 

كمال الهردي: كاتب وروائي يمني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم