صحيفة المثقف

دفاتر دون ريغوبيرتو

rahman khodairabasرغم أنّ هذه الرواية تشكل إمتداداً لرواية (إمتداح الخالة)، التي كتبها كتمهيد لهذا العمل المتميز (دفاتر دون ريغو بيرتو). الروايتان من إبداع الكاتب البيروفي المتألق ماريو بارغاس يوسا. الذي يُعَد أحد أهم الكتاب في أمريكا اللاتينية . فقد ولد عام ١٩٣٦ واستطاع من خلال عمله كصحفي ان يمتلك تجربة ثرية،أهّلتْه لخوض فضاءات إنسانية فسيحة، بتنوعها وبعمقها . وقد كتب سلسلة مقالات عن العراق بعد سقوط الدكتاتورية مباشرة. جمعها في كتاب تحت عنوان (يوميات في العراق). والكتاب يعبر عن رؤية صحفية محايدة عن الاثار الاولى لانهيار النظام واستبداله بالفوضى .

في مسيرته الروائية حصل الكاتب على كثير من الجوائز العالمية. ومن أبرزها جائزة جائزة ثيرفانتيس التي تُمنح للأدب المكتوب باللغة الاسبانية. ولكنّ جهوده الإبداعية لم تتوقف، ففي عام ٢٠١٠ تُوِّج بإحراز جائزة نوبل للآداب.

هذا الكاتب الذي صهرته الحياة والتجارب، حاول ان يحارب طواحين السياسة أيضا من أجل حلمه في تحقيق اليوتوبيا في العالم، والتي سَخَّر كتاباته من أجلها، من خلال ترشيح نفسه لمنصب رئاسة جمهورية البيرو، ولكنه فشل لصالح منافسه اليساري. لذلك كان من أكثر أدباء العالم إثارة للجدل. ففي الوقت الذي يصفه صاحب دور نشر أمريكية بأنه واحد من أفضل روائيي العالم. يعتبره البعض مشاغبا . وقد استطاع ان يعقد علاقات وطيدة بكبار مبدعي عصره في مجالات السياسة والادب كهمنغواي الذي فسر انتحاره بأنه " إنتحر لانه لم يجد القوة لمواصلة إختراع نفسه"

كما كان صديقا لسارتر وكامو وكثير من أدباء فرنسا . أمّا علاقته بماركيز فقد إعتراها الكثير من الغموض حتى وصلا الى القطيعة الكاملة . وقد ساءه منح جائزة نوبل للمغني ديلون ورأى في ذلك تعبيرا عن تزايد الاستخفاف بالثقافة في هذا العصر . كما كان وطيد الصِّلة بكتاب لاتينين أمثال بورخس وأكتافيو .

تتكون الروية بجزأيها (إمتداح الخالة) و (دفاتر دون ريغوبيرتو) من ثلاثة شخوص رئيسيين، يشكلون عمودها وثقل تفاصيلها وتشعباتها. وهم دونيا لوكريثيا . سيدة أربعينية جميلة تتزوج من دون ريغوبيرتو، وهو مدير شركة تأمين . كان متزوجا وله ابن وحيد من مطلقته. والشخصية الثالثة هو الصبي الفونسو فونتشيتو إبن ريغوبيرتو.وهو صبي مابين الطفولة والمراهقة. والذي يتأرجح بين بغضه لزوجة أبيه وإعجابه بها. إضافة الى الخادمة خوستنيانا والذي يصفها بالخلاسية . ومن البداية يتضح بان الكاتب لايحفل بتسلسل الاحداث ونموها. فهو يقدم لنا نسيجا فكريا متكاملا، وكأنه يُخضع التفاصيل الى فحوصات مختبرية، مع الاحتفاظ بنتائج البحث الى القاريء. الذي عليه مهمة تفسير الأحداث والتفاعل معها، قبولا اورفضا . والعمل برمته، يمثل مجموعة من الأفكار الجوهرية الأكثر عمقا في النفس البشرية. وذلك من خلال تشريح ومعاينة وتدقيق الجسد الأنساني من الناحية الجمالية .

ذلك الجسد الذي أجرى الكاتب عليه حفرياته، في أدق تفاصيله المنسية والمغلقة . البدائية بتوحشها ونعومتها وحدّتِها . تفاصيل القبح والجمال، اللذة والالم، الشهوة والوهم . في مزيج هائل من الأضداد والرغبات والكوابح والمخاوف والاستجابات. استطاع أن يقدمها لنا وهو يغوص في عوالم الجسد الأنثوي لابراز ألق مفاتنه أو عتمات قبحه. انه غوص حقيقي في أسئلة لاتبحث عن الاجوبة . لأن الأجوبة المفترضة تتناص مع الغرائز والمحضورات. انه بحث عن يوتوبيا الجسد في عمل روائي ممتع . فيه مقاربة فكرية وفلسفية للحياة، اكثر من كونه تشخيصا لحالة الشبق والايروتيكا الذي يبحث عنه الانسان وهو في إطار تلبية رغباته الغريزية.

يصنع الكاتب خميرة سرده المُبهر والذي ينهمر بكثافة، من خلال التجول في منعطفات غير مرئيّة للجسد، يعيد صياغتها بشكل آخر. حتى مواطن القبح الجلية لدى الانسان، تتحول الى عناصر مثيرة وفاتنة. فقد كان لريغوبيترو أنف كبير وإذنان مشوهتان. ومع ذلك فان أحد المومسات لم تقاوم رغبتها في عظهما في لحظة حميمية! أمّا زوجته فكانت تداعب أذنيه القبيحتين بمتعة .

في روايته الاولى (إمتداح الخالة) التي أُعتُبرت الجزء الاول، تبدأ علاقة غير طبيعية بين الصبي فونتشيتو وبين زوجة أبيه. فحالما تذهب الى فراشه لتنويمه، حتى يتعلق بها ويبدأ بتقبيل عنقها وشفتيها مع ملامسة مترددة لنهديها. وكانت غير متأكدة من دوافعه، وحائرة في تفسير ذلك، بين الشبق المبكر والبراءة، وبين التعويض عن الام أو الانتقام من شخص يقاسمه الارتباط بالأب. ولكن الامر يتفاقم بمرور الوقت وذلك حينما أخبرتها الخادمة خوستنيانا. في ان الصبي يتلصص على لوكريثيا وهي تغتسل عارية في الحمام. وحينما أنبته لوكريثيا دافع عن موقفه بعناد مهددا بالانتحار . وكأن التقبيل قد أصبح طقسا يوميا كل ليلة. مما جعل لوكريثيا زوجة الأب تنهزم أمام هاجس رغبات جسدها ايضا، فتسقط في موقف مباغت وماجن. وتنساق في سقوط جسدي، حيث تنهمك في سلوك حميمي متكامل لإشباع رغبات جنسية دفينة وصعبة التفسير. ينغمران معا في ممارسة للجنس. ولكنها تبقى حائرة في تفسيرسلوكها وفي إدانة نفسها على فعل أخرق . ولكنها تتكتم على الامر رغم فداحته. وتمارسه مرات أخرى ! ولكن الصبي فونتشيتو - ببراءة أو شيطنة - يكتبُ موضوعا إنشائيا بعنوان (إمتداح الخالة ) ويعرضه على ابيه ريغو بيرتو فيكتشف الأب فداحة علاقة غير طبيعية بين إبنه وزوجته لوكريثيا. فيقرر الانفصال عنها. وهكذا ينتهي الجزء الاول من الرواية.

في الجزء الثاني من الرواية المسمى (دفاتر دون ريغوبيرتو) . يعود الصبي فونتشيتو لمصالحة خالته لوكريثيا. ومع رفضها له، لكنها تنصاع امام توسلاته ووعوده ان يكون افضل من قبل. ويحاول ان يُذيب جليد العلاقة بين ابيه وزوجته من خلال كتابة رسائل متبادلة بينهما. بافتراض بان الزوج يكتب لها وهي ترد عليه في رسائل مُغْفَلة من الإمضاء. وتنجح خطة الصبي لتعود لوكريثيا لزوجها ويبدآن من جديد.

ولكن الرواية تتخذ منحى فكريا صرفا، حيث يلجأ الكاتب الى تداعي الأفكار من خلال التناغم مابين الحلم والواقع والخيال والحقيقة، ومن خلال التيارات المتداخلة على صعيد الوعي وهذا ليس غريبا من هذا المبدع الذي كان متأثرا ومعجبا بألاسلوب الروائي للكاتب الامريكي وليام فولكنر، الذي أسس هذا الأسلوب ولاسيما في روايته الشهيرة الصخب والعنف . لقد أخضع الكاتب بطلته لوكريثيا لأكثر من موقف ايروتيكي، مفعم بشراسته وشبقه ففي لوحة فنية يصورها بانها تمارس الحب مع شخص يطلي جسدها العاري بالعسل ويقوم بلحسه ولعقه مع مجموعة من قططه الصغيرة المحبة للعسل . ومن ثم يلتحم وإياها في مشهد تخيلي وحميمي .

وفي مشهد آخر توافق لوكريثيا على العرض الذي قدمه لها المهندس الذي كان مغرما بها، قبيل زواجها. للسفر معه الى باريس وفينيسيا ويعيشان تجربة. هي أقرب الى الحب العذري. من خلال تخيلات الجسد وجمالياته.وكانت تحكي لزوجها كل تفاصيل رحلتهما.

وفي موقف آخر . كانت مع خادمتها في مطعم لأحد الفنادق الفارهة. تلتقي برجل ثمل يحاول ان يغتصب خادمتها خوستنيانا.وقد دافعت عنها لوكريثيا بشراسة، وأثناء مواساتها وتكفيف دموعها وجدت نفسها في إلتحام جسدي أقرب الى السحاق الأنثوي المتبادل. وتتكرر ذات الرغبات والشبق المثـلي مع زوجة السفير حيث الاتنتان يستحمان في حمام بخاري . كما يقدم لنا تجربة أخرى حينما حاولت أخفاء وجهها، وإرتداء ملابس العاهرات والذهاب الى احد بارات الفنادق وهناك تتعرض الى محاولة إغتصاب من تاجر خيول كبير السن ولكنها تنجو من المحاولة لتجد نفسها امام شخص يمتلك نفس ملامح الفنان النمساوي إيغون شيلي التي كانت تحلم بان تكون موديلا للوحاته!

ولكن هذه المشاهد وغيرها قد تكون شكلا من أشكال الوهم الذي يتسلق الزوج ريغو بيرتو . او هو جزء من مخيلة لوكريثيا. التي اعترفت له " مرة واحدة خدعك فيها جسدي.أما مخيلتي فمرات كثيرة". وهذا يعني ان المشاهد قد تكون ضمن دائرة التخيل التي كتبها في دفاتره. وكأن الكاتب ينظر الى الخيانة ليست بالفعل وحده. وانما بالتخيّل. ولكنه لايشجب المعنى الاخر للخيانة.

اما الصبي فونتشيتو. فهو يمتلك حواس تدميرية بملامح ملائكية. فهذا الصبي الاشقر الشعر، والازرق العيون. والذي يمتلك ملكات ومواهب ومشاعر تتخطى عمره. فهو يدرس في مدرسة للفنون التشكيلية . جعلته معجبا الى حد الجنون بالرسام النمساوي إيغون شيلي والذي توفى عن سن لايتجاوز الثمانية والعشرين من عمره. أغلب لوحاته تدور حول الجسد. وقد إتخذ موضوعا للوحاته الكثير من النساء. حتى البنات القاصرات. وحينما أتهم بالاغتصاب لطفلة قاصر. ورغم ان المحكمة برأته من التهمة. ولكنه سُجن حينما وجدوا أنّ بعض لوحاته لقاصرات عاريات . هذا مايقصّه الصبي فونتشيتو على مسامع خالته حتى أدركت بانه يتقمص شخصية الفنان ويذوب فيها الى حد الجنون. بحيث جعل الخالة تحلم بان يكون جسدها موديلا لذلك الفنان. لذلك تتخيل ان تلتقي به . وقد كان وصف الكاتب جميلا حتى جعلنا نتوهم ماحدث بين لوكريثيا وبين الفنان حقيقة وليس وهما . مع ان الفنان شيلي قد توفي في مطلع القرن العشرين ولكنا استطعنا ان نتعرف على حياته المتوهجة والمبدعة والمتحركة والتي أراد فونتشيتو أنْ يتقمصها.

ولم تنته حكايات فونتشيتو عند هذا الحد. فقد كان يحلم ان يتحول الى طير جارح، وان يرسم العالم من أعلى، معتمدا على أوهام الابحار في مجاهيل الجسد الذي أدركه من خلال لوحات شيلي التي يحفظها عن ظهر قلب.

لقد كانت الرواية ذات إيقاع تأملي فكري. تحاول ان تتناول الكثير من الاشكالات الانسانية من خلال انعكاساتها على الجسد، متناولة أدق الخصوصيات الخفية لتجعلها على الواجهة. فقد تناول المؤرخ الإسباني الذي يعاني من إمساك مزمن والذي يجعله يلازم المرحاض طويلا. مما جعل الاخير يقوم بنقل مكتب أبحاثه الى المرحاض . وفي الوقت الذي يتغوط كان يبحث عن تأريخ اسبانيا وما فيه من هرطقة وكفر وشذوذ مذهبي. وكأنه يؤمن بأنّ" تنظيف البطن هو أقلّ إلتباسا من تنظيف الروح" .

ورغم ان هذه الأماكن تنأى عن جمالية الفن ورهافته . ولكن كاتبنا يرى العكس مُستشهِدا بأبيات للشاعر الكبير بابلو نيرودا. والذي يقول:

" ورأيتك تَبولِينَ في العتمة في أقصى البيت، كأنك تسكبين عسلا"

كما أنّ الافتتان بأدوات الجسد من أحذية وحمالات صدر او ألبسة داخلية او مايسمى في علم النفس (الفتشية) أكثر من موضع في الرواية . فحذاء سندريلا الصغير يرمز الى التعلق والرغبة العارمة بالقدم. واللباس الداخلي له علاقة برغبة الجسد . وفي لقاء البروفيسور العجوز بزميلته أستاذة القانون (لوكريثيا) مشهد يعبر عن الهوس بالملابس الداخلية . فحينما ينتهي المؤتمر. تذهب الى مخدعها للنوم، وقد تركت لباسها الداخلي معلقا على الدرج المؤدي الى غرفته . وحينما يتعثر البروفيسور بهذا اللباس، يمسكه مترددا ويتصل بزوجها ريغوبيرتو الذي ينصحه بالولوج الى غرفتها! وكانت الدكتورة متعرية وهي تغطُّ في النوم ويصف هذا المشهد.

" إنّ جبلي اللحم الساكنين دون مبالاة بوجودهِ قد أفلتا ريحاً، شعرَ برغبة هائلة بالجمال وهويتلقى ضرطة الدكتورة"

لقد كانت الرواية تبحث عن الجمال حتى فيما يُعتقد أنها مفردات منفلتة عن مجال الذوق السائد. ولكن الكاتب يسفح الجسد، وكل إفرازاته وإيقاعاته وحاجاته الفسلجية والروحية، تحت مجهر تأملي،يجعله مختلفا ومنفصلا مما يسمى بالقواعد الصارمة،التي تهتم بالأشكال المألوفة فقط . فليس بالضرورة أنْ تكون القواعد المألوفة في الفن هي التي تحتكر الجمال . فحتى الشاذ من المفردات لها قدر من الإعجاب والافتتان عند البعض .

ومن خلال الرواية نجد أنّ الكاتب يوسا مهتما بشأن الايروتكية بوصفها مسألة جمالية . وفي نفس الوقت ينظر باشمئزاز الى البورنوغرافيا التي يعتبرها إهانة للجسد الانساني، وتقرّب الانسان من الحيوان. فيقول :

" الايروتكية هي الأنسنة الذكية للحب الجسدي والبورنوغرافيا تجعله رخيصا مُهاناً".

السرد عند ماريو فارغاس يوسا ليس مجرد احداث لها بدايات ونهايات. بل هو فيض من الأفكار والتداعيات والاستشهادات بتجارب شعراء وفلاسفة، وتأمل في الظواهر والمعطيات. إنه طرح حاد للأفكار حتى وان كانت شاذة. فقد كان له رأي مختلف عن الاغتصاب ولاسيما اذا كان من قِبَل إمرأة ناضجة مع صبي قاصر. فقد إحتج على المحكمة التي حكمت على المعلمة التي مارست الحب مع تلميذها . واعتبر القرار متعسفا.ولكنه لاينطلق من قاعدة تربوية أخلاقية وانما ينطلق من منطلق رغبات الجسد.  كما استهزأ بمقولة ( العقل السليم في الجسم السليم) وقال انها كذبة لا أساس لها مستشهدا بمصارع السومو الياباني الذي ( يعلف) منذ طفولته لكي يفوز بدفع مصارع آخر، خارج الحلبة. ولكن هذا المصارع القوي محكوم بتمزق القلب قبل الأربعين !

يتناول في الرواية مسألة الاديان ككابح أخلاقي. وعن الوطنية التي يعتبرها الدكتور جونسون بأنها

" ملاذ الاوغاد الأخير" كما يتحدث عن الخصاء عبر التأريخ وأسبابه الدينية والاقتصادية لانه يرتبط بمرحلة العبودية. ويتحدث عن الخصاء الذي يأتي لتناغم أصوات الذكور مع الأصوات الأنثوية. كما يتحدث عن تشبيه الانسان لنفسه بالحيوان في القوة الجنسية واستخدام المقويات ويستشهد ببعض الأمراء العرب. كما يتناول شذوذ العلاقات غير السوية بين الانسان والحيوان ويوعزها الى خلل في النبل الانساني. وهو يرى أن الجنس غاية إنسانية حميمة وتامة الخصوصية ويستشهد بقول الشاعر فيليب لاركين " الجنس ألذ من أنْ يتقاسمه المرء"

وهكذا نجد ان المبدع روميو بارغاس يوسا قد قدّم رواية ذات إيقاع خاص. حمّلها بكثير من المفاهيم وشحنها بالكثير من المقولات والتجارب مع المحافظة على جمالية السرد وثرائه. وقد كان المترجم الاستاذ صالح علماني موفقا في منح اللغة دلالاتها الجمالية ،التي تجعل القارئ مستغرقا في هذا الفيض الفني الجميل .

رحمن خضير عباس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم