صحيفة المثقف

عبد الهادي التازي باحثا وإنسانا

mohamad saedsamadiغادر عالمَنا المشمولُ برحمة الله الأستاذ البحاثة عبد الهادي التازي (ولد بفاس يوم 7شوال 1939ه/ 15 يونيو 1921، وتوفي بالرباط الخميس12 جمادى الثاني 1436ه/ ثاني أبريل 2015) وتلبية لرغبته تم نقل جثمانه من الرباط إلى فاس حيث دفن بجوار أبي بكر بن العربي المعافري.

ويختزل هذا العمر المديد (94 سنة) حياة حافلة بالعطاء والتأليف والتحقيق وتكنيش المسودات والأوراق والمحاضرات والمراسلات، إنه رجل علم وأدب وبحث وسياسة وقيم قلَّ نظيره في زمانه، حيث أصبحت المعرفة والعلم مما يزهد فيه أبناءُ أمةِ اقرأ.

عبد الهادي التازي ومحراب البحث:

إلى جانب المهام الديبلوماسية التي أسندت إليه في بعض الدول، كان عبد الهادي التازي مهموما شغوفا حدَّ العشق للبحث العلمي والتنقير في أضابير التراث المخطوط وغميس المطبوع؛ وبالمحاضرة والمشاركات التي لا يتخلف عنها مشرقا ومغربا، إذ حباه الله بميزة خُلقية راقية ، جعلت شخصيته العلمية والإنسانية لا تتأثر بحيثيات المناصب السامية والتراتيب الإدارية، بل إنه كان يستغِل مُقامَه الذي يمُر منه أو ينزل به للبحث في حفريات تراث المنطقة علَّه يجد بها ما يخدم مشروعه الفكري الذي نَذَر نفسه للاشتغال به.

هناك رجال يهيؤهم القدَرُ لتحمُّل هذا العلم كابرا عن كابر، والتازي رحمه الله دُرةٌ من هذا العِقد الفريد؛ اجتمع فيه ما تفرق عند الكثير: الثقافة الإسلامية التي متحها من أسرته ومن التعليم العتيق بمعلمة القرويين، واللغات الجنبية التي أتقنها وقرأ بها وانفتح بها على مستجدات العاصر، وخبرَ العملَ الديبلوماسي وتخصص في التأليف فيه(موسوعته من 12 جزءا)(1)، وخدم التراث العلمي المخطوط وحقق جزءا منه، فكان رجل العلم والدولة بامتياز.

انخرط في سلك التأليف ومحراب البحث منذ سن مبكرة مدشنا بذلك مشروعا علميا أصيلا، تشهد آثارُه ومحاضراته على وضوحِ الرؤية وأصالةِ الهدف وعمقِ المنهج وتدقيقِ البحث إلى جانب علو الهمة ورفيعِ الأخلاق والقيم. كتب سنة 1403ه في خطبة كتابه" تفسير سورة النور" قائلا: " وبالرغم من مضي نحو من أربعين سنة على تحرير هذا المخطوط، فضلت أن لا أمسه بأي تغيير ولا تعديل احتراما أولا، لأولئك الذين قرظوه على ما كان، فأحببت أن يبقى كما عهدوه؛ ثانيا أنني وجدت في الاحتفاظ به على ما هو متعة لا تقل عن المتعة التي يشعر بها الكهول وهم يعثرون في خزانتهم على رسم فوتوغرافي لهم قديم يذكرهم في حومة كانوا إليها يأوون، وفي رفقة كانوا إليها يركنون، وفي مناخ كانوا بالعيش فيه يمرحون"(2).

لقد كان هذا التفسير من بواكير تآليفه، ويظهر من التاريخ المشار إليه، أنه كان وقت تصنيفه لا يتجاوز بداية العشرينات من عمره؛ يقول عنه الشيخ محمد بن الطيب الصبيحي:" ولئن دل ذلك التفسير على شيء فهو أولا ذلك التوفيق الإلهي الذي حدا بالمؤلف لإفاضة ذلك النور الساطع تذكيرا وإرشادا خصوصا عندما اقتضتهما الظروف والأحوال، وثانيا الطموح للمعالي والشعور النفسي وقد أطل على العلم عن كثب بقوة الاستعداد للغوص في ذلك البحر الخضم واستخراج جواهره، فما أحقه بقول القائل:

إنَّ الهلالَ إذا رأيت نموَّهُ أيقنتَ أنْ سيصيرُ بدرا كاملا "(3)

ويستحضر أحدُ تلامذته بالقرويين وهو السيد مالكي علوي مولاي الصادق السلوي هِمتَه وجِدَّه وحبَّه للعلم وحرصَه على الأداء الجيد لمهمة التدريس بالقرويين:" ولقد سعدت بتلقي العلم عنه بفاس في أول عهدي بالقرويين طالبا للعلم، فكان جادا في عمله مواظبا على الحضور ومحافظا على الوقت لا يتأخر عنه. لقد قضى حياته ناشرا العلم بجامع القرويين وبمساجد فاس ونواديها وبمدينة الرباط وبمختلف الجامعات المغربية..."(4)

إن هلالَ التازي ونجمَه برز منذ يفاعته، حتى إذا اسْتَدَّ عودُه وتضلع من العلوم وأينعت ثمار يَراعِهِ جادَ وأفاضَ وصار باحثا مدققا عالما مِعطاءً. يرصد الفرائد والنوادر في مَلازم المخطوطات وصفحات المصادر وأضابير الآثار، ليخلص إلى تركيب وترميم معلومات جديدة، لا تتأتى لمن لم يمتلك أولا هذا النَّفَسَ والتهمُّمَ؛ وثانيا آلياتِ البحث ووسائلَه وعُدَّةَ التحقيق والمعرفةَ التراثية إضافة إلى همته التي لم تعرف فتورا وصبره وجَلَده.

1408 tazi

لقد بذل التازي في كل مراحل حياته جهدا كبيرا في إحياء معالم التواصل المغربي المشرقي؛ والتواصل المغربي الأوربي، والأسيوي؛ وذلك من خلال تتبع كتب الرحلات والتراجم وفهارس العلماء ومصادر الأدب والفقه. فقد كان يشتغل بموضوع تراثي محدد حتى إذا جمع أشتاتَه ولمَّ متفرقاته كتب عنه أو خصَّه بمحاضرة علمية عميقة تُدهش الحاضرين والمهتمين بدون مبالغة. ولا بأس أن نشير في هذه العجالة إلى عنايته بشخصية مغربية تردد صداها بالمشرق ؛ شخصيةِ العلامة محمد بن سليمان الروداني المتوفى سنة 1094ه، التي اهتم بالبحث فيها وألقى بخصوصها محاضرة ممتعة قيمة برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير عشية الخميس 20 أكتوبر 2005، ومما ورد في تقرير عن المحاضرة:" وقد أبرز المحاضر في عرضه نبوغَ ابن سليمان الروداني الذي توفي سنة 1094 هجرية، وذاع صيته في الحجاز حيث أسندت له الولاية على الحرمين الشريفين من طرف البلاط العثماني، أن العلامة اضطر إلى مغادرة مسقط الرأس بتارودانت دون رضى والديه بعدما لم يستطع الوسط الذي ترعرع فيه استيعاب نبوغه المتعاظم... وأكد الأستاذ التازي أن ابن سليمان بعد تعيينه واليا على الحرمين قام بإجراء إصلاحات جوهرية وصفها بأنها من الحجم الثقيل ومن ضمنها إصلاح نظام تدبير الأملاك الوقفية قصد توظيفه في المقاصد التي خُصِّصَ لها، كما أحيى" سنة الدشيشة" سيرا على نهج نبي الله إبراهيم الخليل الذي كان مضيافا، وأصبح بموجب هذه السنة جميع فقراء مكة يجدون الطعام. كما قام بإجراء إصلاحات على مقبرة المعلاة. وألغى واحدا من أشهر المواسم التي كانت تقام بمكة لأحد أقطاب المتصوفة الذي يدعى العيدروس..."(5).

شُغِفَ الباحثُ الدكتور عبد الهادي التازي بالبحثِ والغوصِ في الأدوار والجهود والإسهامات التي قام بها علماء المغرب في الديار المشرقية التي استوطنوها أو مَرُّوا بها، وكتب وحرَّرَ وحاضر واسْتُجْوِبَ إلى حدٍّ بلغَ كما أحصى الباحث عبد الفتاح الزين أكثر من 675 مادة إلى تاريخ سنة 1991. ومن هذا التاريخ(1991م) إلى حين وفاته رحمه الله لا يبعد أن يكون العددُ قد ضُعِّفَ، مما يعني أننا أمام تراث زاخر مطبوع ومرقون ومخطوط وصوتي لعل يد التكرم والإنعام تصل أشتاتَ متفرِّقِهِ جمعا وطبعا ونشرا؛ إثراءً للمكتبة العربية والإسلامية وخدمة للبحث العلمي الذي منحه عمره وجهده...

عنايته بالنص الرِّحلي:

لم يترك الأستاذ التازي فريدة علمية وقَفَ عليها أو دُرة أدبية تراثية دقَّقَ فيها إلا وسلَّط عليها ضوء الكشف والإخراج وأسرع إلى المحاضرة فيها والمباحثة في زمن تهافتت فيه طائفة من مثقفي العصر والمتحكمين في المشهد الإعلامي على تغييب ومحاصرة كل نبوغ وجمال متأنق مرسوم في فضاء الأدب العربي القديم؛ مما كان سببا وعاملا في جهل أبناء العربية بجمال تراثهم الأدبي وثرَائِه ونبوغ سَلَفهم و إسهامهم في مختلف ضروب المعرفة. وتأتي كتب الرحلات في مقدمة السرد الأدبي العربي الذي حاز موقعا متميزا بين صنوف فنون الأدب وعلومه...

وكم كان يطرب حينما يتفرد بتحقيق فائدة أو توثيق متن أو استنتاج حكم أو خبر؛ ومن أمثلة ذلك وهو كثير قوله حين حديثه عن "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" لقاضي مكة محمد الفاسي المكي المالكي(ت 832ه):"ثم كان وقوفي شخصيا على مخطوطتين اثنتين لشفاء الغرام بمكتبة أم القرى كانتا وراء حسم الموضوع تقريبا(6)، حيث تحصلت لديَّ هذه الفائدة الجليلة التي لم تعلق بها يدُ أحد من قبل، لا في الصيف ولا في الشتاء؛ والله يؤتي فضله من يشاء..."(7)

اعتنى الراحِل بنصوص الرحلات واستثمرَ موادها واستكنه أخبار الأمم والأقوام ودقائق الأخبار وتفاعَلَ مع مشاعر السارد ومحكياته ومرئياته. ويُعَبِّرُ بنفسه عن هوسه بأهمية إحياء التراث الرحلي والاهتمام به؛ قائلا:" كنت وما أزالُ ولعلِّي أبقى، من الذين يهتمون بالرِّحَلِ والرُّحَلِ، لأني أعتبر أن هذا النوع من الأدب يهدفُ أولا وبالذات إلى معرفة الآخر، وأعتبر أن هذا النوع من التعرفِ، ضربٌ من ضروب التصوف، قصَدَ بعض الرحالة ممارسته حتى يعرفوا ما وراء بيوتهم. حتى لا يبطروا معيشتهم ولا يستهينوا بما يوجد داخل بيوتهم.

إن كل الكتبِ التي نستمتع بقراءتها، على اختلاف فنونها، تقتصر على أن تجعل منا قراء لما يحرره أولئك الكتاب دون أن نعرف شيئا عنهم، عن مشاعرهم، عن اختياراتهم، الحوار مفقود بين الكتاب وقارئه إلا مع الرَّحالة. أنت ترافقه وتقارن وتفارق بينه وبينك، بين زمانك وزمانه، تفرحُ بما تفوقت عليه فيه. ذلك جانب من جوانب فائدة الرحلة والرحالة."(8)

إنه من خلال هذا الإفرازات والتفاعلات التي تتميز بها نصوص المادة الرحلية؛ يُفهَمُ هذا العشق المتزايد لمتونها الذي هيمن على التازي؛ إذ وعى بذكاء نادر ما يحبُل به التراث الرحلي من فوائد وحلقات مفقودة في حياة وتراجم شخصيات مغمورة أو مشهورة وأحداث ومعلومات وتفاصيل دقيقة لا ينتبه لها إلا الباحث المدقق المتسلح بأدوات البحث التراثي وتقنياته وتراكم معارفه(9)، بل إن إعمال النظر فيها كان كثيرا ما يحقق به ويُصححُ أخطاء وردت عند المهتمين وبعض أهل الاشتغال بالتراث، وأتذكر هنا بسبب رحلة ابن بطوطة التي اعتنى بها وحققها، كيف صحَّح وصوَّب اسمَ العالم المغربي أبي البركات يوسف البربري الذي دخل سنة 548ه جزرَ المالديف؛ وأسلم على يديه سلطان الجزيرة. فقد حوَّلَ الاسمَ أحدُ الباحثين غير العرب من "البربري" إلى التبريزي، وبُني عليها أنَّ من أدخل الإسلام إلى الديارَ المالديفية تبريزيٌّ فارسي وليس بربري من مسلمي المغرب الأقصى، لنتأمل طريقته في التدقيق والتحقيق وبسط الأمر مناطِ اللَّبس والاختلاقِ، يقول مصححا في تعليقه على قول ابن بطوطة في تحفته(أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي):" بالوقوف على اللوحة التأسيسية الخشبية، وليس النحاسية المنتسخة محرَّفة من الخشبية، التي ترسم بكل وضوح(البربري) وليس التبريزي كما وهم القاضي حسن تاج الدين(ت1139ه) في تأليفه تاريخ إسلام ديبا محل الذي حققه ذ هيكوايتش ياجيما طوكيو 1982، وقد كانت الحروف أربعةٌ: بربر، وليست خمسة: تبريز، فليس هناك كونفيزيون Confusion كما توهم. وهكذا فإن البطل الذي تم إسلام الجزر على يديه سيظل مغربيا عكس ما قاله ييرازيموس من أنه تبريزي، وعكس ما قاله هربك من أنه صومالي، على ما أوضحته أمام أعضاء مجمع اللغة العربية، وأمام أكاديمية المملكة المغربية(مايو 1991) في بحث ترجم ملخصه للفرنسية والأنجليزية، وبعثت الخارجية المغربية إلى نظيرتها في المالديف عن طريق ممثل هذه الدولة في نيويورك8 8 1991، وقد شهدت رحاب القصر الملكي في 19 رمضان 1413ه(13 مارس 1993) محاضرة رفيعة المستوى ألقاها فخامة السيد رئيس الجمهورية المالديفية مامون عبد القيوم بمحضر جلالة الملك الحسن الثاني وحضور رجالات الدولة وأعضاء السلك الديبلوماسي تناولت هذا الموضوع..."(10)

ولم يكن مستغربا أن يقودَه اهتمامُه بالتراث الرِّحلي إلى صناعة موسوعة فريدة وسَمها ب"رحلة الرحلات: مكة المكرمة في مائة رحلة مغربية ورحلة" (11)، وهو ما يعني أن الاطلاع على هذه المآت من نصوص الرحلات استنفد جزءاً وافرا جدا من الزمن المادي من مجمل نصيب حياته على طولها وبركتها التي أمدَّ الباري تعالى فيها لما يقارب القرن مما تعدُّون.

وفي هذا السياق أيضا اهتم بمدينة القدس الشريف فك الله أسرها وبأوقاف المغاربة بها من خلال كتابه" القدس والخليل من خلال الرحلات المغربية". لكنه شغف شغفا لا حدَّ له بشخصية ابن بطوطة الطنجي الذي طاف العالم في القرن الثامن للهجرة، فأكبَّ على "تحفة النُّظار" محققا لها في بضع مجلدات أعطت للرحلة الخالدة نكهة علمية خاصة.

وقد برزت إرهاصات عنايته بالنص الرِّحلي مبكرا؛ إذ حبَّر عبد الهادي التازي تفاصيل يوميات رحلته البرية الأولى لمدينة باريس سنة 1952م، والتي لم يتيسر طبعها الطبعة الأولى ونشرها إلا سنة 2008م(12)، وكان من أبلغ وأثرِ تفاعلاتها على طالب علمٍ وفقيهٍ متخرج من جامع القرويين أن رسخت عنده الرحلةُ والسفرُ منذئذ، تفتحَ الذهن وتوقدَ الذكاء وتقليبَ الأمور والتأنيَ في النظر إلى النوازل حسب المستجدات وخصوصية الواقع المعيش ومحيطه وثقافته وهويته؛ لنتأمل هذا البوح الذي ورد في مقدمة رحلته:" وقد تأكد لي منذ الفترات الأولى أن الرحلة لها أثر قوي على تفكيرنا، وأن التعرف على الآخر ضروري لمعرفة الحياة ومتطلباتها. ولم يكن ابن خلدون غافلا ولا مغفلا ابدا عندما فرق في المقدمة بين عالم عاكف على نفسه؛ وآخر ينتقل لربط الاتصال و"اكتساب الكمال بلقاء الرجال"(13)... لقد تبين لي أن الفقيه، أيَّ فقيه، قد يغير رأيه حول نازلة أصدر فيها حكما قبل أن يرحل، يغير رأيه إلى آخر نظرا لما استجد عنده من رأي وما رآه من صواب."(14)

وتبقى موسوعته القيمة "رحلة الرحلات" التي نشرها أواخر حياته شاهدة على المجهود الكبير الذي استقصى فيها فن الكتابة الرحلية وما أنجز حول زيارة بيت الله الحرام أو ما سمي بالرحلة الحجازية. وعلى هذا الاعتبار يكون مكونُ ورافدُ مادة نصوص الرحلات وما تحبل به من غنى وثراءٍ أولا؛ وعاملُ ممارسة نشاط الرحلات والسفريات ثانيا، قد شكلا معا عنده مسلكا علميا طبيعيا في تغذية الروح وتنمية الذات وشحن المعارف وتدقيق الأخبار وتعرف القيم الكونية المشتركة بين أمم الأرض في جُبة شخصية مسلمة متوازنة متفقهة...

ملامح إنسانية في شخصية عبد الهادي التازي:

عندما يسعفك القدر فتتعرف على الأستاذ الراحل عبد الهادي التازي عن قرب، تحس أن المتحدث والكاتب والباحث والإنسانَ اكتنز منظومة القيم التي تفرقت في أحاديثه وكتاباته؛ فهو ، وبدون مبالغة، مجموعةُ قيمٍ تمشي على الأرض. تتمثَّل فيه قيم الالتزام والأصالة والتنوير والعلم والمسؤولية والوطنية...

على أن لمساتِه الإنسانيةَ ستظل عالقة منحوتة في ذاكرة كل من عايشه أو تعرف عليه. وسأنقل في هذه المناسبة إلماعاتٍ وردت هنا وهناك جديرة لتقريب القارئ العربي الكريم من الجوانب الإنسانية والتربوية العميقة لهذه الشخصية التي كُتب لنا أن نُدرك طِيبةَ طينتها وصفاءَ معينها.

تحكي حفيدته اسمهان التازي وهي تتذكر جدها قائلة:"...هذا الرجل الذي أسعدني الحظ لأكون حفيدته، وليختار لي حقل الصحافة الذي كان معجبا به وحوكم من أجله كما أسلفتُ، لا أسمحُ لنفسي أن أتكلم عنه، عن جدي دون أن أحكي بعض ذكرياتي معه، مما أعتبره دروسا في الحياة لا مجرد نصائح حنونة من جد لحفيدته...

ذات صباح عندما كنت طفلة تغيبت عن مدرستي، قال لي: لِمَ غبتِ؟ قلتُ: الجو بارد "والشتا خيط من سما" فأرداني ببيتين شعريين يقولان:

إذا كان يوذيك حرُّ المصيف وكربُ الشتاء وبردُ الخريف

ويُلهيك حسنُ جمال الربيع فأخْذُكَ للعلمِ قل لي: متى؟

فارتديتُ ملابسي الشتوية وتوجهتُ إلى مدرستي، وأنا سعيدة ببداية يوم جديد للتحصيل المفيد. وذات يوم مرَّ عليَّ قبل أن يغادر إلى عمله فوجدني نائمة؛ قال: هل لديك عطلة اليوم؟ قلت: نعم، اليوم يوم أحد ! فرماني بهذين البيتين اللذين لن أنساهما:

إن النعاسَ والكسلْ أحلى مذاقا من عسلْ

إن لم تصدقني فسلْ من كان قبلي قد كسلْ

وكعادتي قبل مغادرتي المنزل أذهبُ عنده لأقبلَ يديه وأنالَ رضاهُ، وحدث مرة أن اشتمَّ في رائحة عطر قوية واقترح علي أن أتخلص منها مفضلا ان يراني ملطخة بالحَبْرِ؛ فردد القولة المشهورة "الحبر عطرُ الطالبِ". وتختم الحفيدة قائلة: أنا فخورة لأنني منه وإليه، وفي كنفه ترعرعتُ ومن حسن حظنا أن هذا الرجلَ لا يزال مستعدا للاستجابة لكل من يطلبُ منه مساعدة علميةً أو توجيها مفيدا، يعطي باستمرار من غير منٍّ..."(15). ويحكي الصحافي والباحث المغربي إدريس الكنبوري، أنه زاره أواخر حياته في بيته، وبيتُه كلُّه مكتبة، وكان الهدف من زيارته إفادته بجوانب تهمه في العلاقات الإيرانية المغربية، باعتبار الراحل كان قد عمل سفيرا بطهران واهتم بالعلاقات الديبلوماسية بين البلدين؛ يقول إدريس الكنبوري:" وأذكر أنني زرته قبل بضع سنوات في بيته العامر بالكتب ، وكان محور اهتمامي في جلساتي معه الاطلاع على بعض جوانب العلاقات المغربية الإيرانية التي عايش بداياتها عن كثب ، فأهداني نسخة نادرة من ورقة كان قد قدمَّها في مؤتمر علمي بطهران في الستينيات من القرن الماضي ، تخص علاقة المغرب و المغاربة بأهل البيت و حضور محبتهم لهم في مختلف التعبيرات الفنية الشعبية و العالمية. وأثناء مناقشتنا كان يقدم بعض الملاحظات حول الورقة، فنهض ودخل غرفة نومه وعاد يحمل نسخته الخاصة من الورقة وانهمك في كتابة ملاحظاته على الهامش، ثم أخذ النسخة التي بيدي وكتب نفس الملاحظات، أما أنا فقد قفز اهتمامي من المناقشة والملحوظات إلى الطريقة الحماسية التي يتصرف بها وكأنه طفل صغير يفرح بلعبة حصل عليها، وعندما وجهت إليه تلك الملاحظة ضحك، وقال لي ما معناه: إن الإنسان يجب أن يتعلم باستمرار مادام حيا."(16)

إن هذه الواقعة وغيرَها كثير تفيد بأن أعلام العرب والمسلمين المتقدمين والمتأخرين كانوا يعيشون زمنَهم المكتوبَ إلى آخر نَفَس فيه مع الورق والعلم والبحث؛ فمع المَحْبَرة إلى المقبرة.

وفي الأخير إذ أنسى لن أنس الرجل قبل سنتين، كنت قد التقيته بمقر الإيسسكو بالرباط في اليوم العالمي للغة العربية، وفي استراحة اليوم الدراسي القيم وببهو المقر تبادلنا الحديث معه، وكان وجهه بشوشا مشرقا مع الجميع، ومما أذكره أثناء حديثنا معه؛ أنه بقدر اعتزازه باللغة العربية والدفاع عنها والاحتفاء بلغة الوحي وتخصيصها بيوم عالمي؛ كان يؤكد على أهمية التعدد اللغوي والانفتاح على اللغات الحية التي يجب التحكم فيها من قِبل الناشئة وطلاب المدارس والجامعات، ولكن تأثري بالرجل سيزداد حينما استشرته في أن نستضيفه محاضرا بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة فلم يتردد البتة، ولو أنه لا يعرف شخصي الفقير إلى مولاه فقد استجاب بكل أريحية وبدون تفكير، وقلت له نحن نأتي لنَقْلك إلى طنجة، قال لي: لا، أنا سآتيكم بسيارتي وسائقي، فقط رتِّب مع فلان بطنجة وهو أحد أفراد عائلته. كنت أظن أنه سيعتذر بعامل المشاغل الكثيرة أو الحالة الصحية فهو وقتئذ قارب 82 سنة، إلا أن شيئا من ذلك لم يكن له اعتبار عنده؛ وتشاء الأقدار ألا يتم ذلك اللقاء...

ويجدر التنويه في الأخير أن العاهل المغربي أبرق إلى أسرة الفقيد برسالة ملكية بشأن إحداث " مؤسسة عبد الهادي التازي" ستعنى بتراث الرجل وفكره وما أنجز حوله. وستكون هذه المؤسسةُ العلميةُ مكتبةً عامة وخزانةً نادرة تحفظ أكثر من 10 آلاف كتاب ومخطوط ووثيقة ومجلة وبحث وطبعة حجرية ورسالة جامعية مرقونة ورسائل ديبلوماسية وشخصية، وأقراص مدمجة رقمية وسجل للصور والهدايا والمقتنيات وغير ذلك من الفرائد والذخائر التي تضمها مكتبة الراحل، بما سيعود عليه إن شاء الله بالأجر والثواب الحسن.

 

د. محمد سعيد صمدي/ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

................

(1) التاريخ الدبلوماسي للمغرب نشره سنة 1989، وبعد عَقد أتبعه بملحقين سنة 2009 من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.

(2) تفسير سورة النور: 10 / منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية / 1405ه 1984م.

(3) نفسه: 7.

(4) بقية السلف الصالح من جامع القرويين في ذمة الله/ جريدة الأسبوع الصحفي/ عدد 833 / الخميس 16 أبريل2015

(5) جريدة التجديد / الثلاثاء 25 أكتوبر 2005.

(6) توثيق نسبة قصيدة الحج والزيارة لابن رَشِيد البغدادي التي وردت أبياتها مجهولة النسبة برحلة أحمد بناصر الدرعي.

(7) مقال " تخريج قصيدة الحج والزيارة في رحلة أحمد بناصر الدرعي" :ص 10 / مجلة التذكرة: ع 6. منشورات المجلس العلمي المحلي للدار البيضاء.

(8) نفسه : ص 7.

(9) إن المشتغل بالتراث وإحياء نصوصه في حاجة مستديمة لهذا التراكم ومستلزماته ومتطلبات تحصيله واستثماره؛ يقول الدكتور عبد الله المرابط الترغي شفاه الله:"... ولذلك تأتي عملية بناء التراجم بعد جهد وعمل عسيرين وبذل وقت وراحة لتدفع الكاتب إلى القراءات الكثيرة وإلى السفر وإلى البحث واقتناء المصادر والمراجع، ليصل إلى بناء ما يفيده به غيره في صياغة هذه التراجم وإيراد أخبارٍ عنهم" محاضرة ألقاها بالمجلس العلمي منشورة بأسبوعية الشمال: ع 270(من 07 14 يونيو 2005)؛ قام بتفريغها الباحث عبد الله بديع.

(10) تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الاسفار: المجلد الرابع/ ص63/ ابن بطوطة أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي/ تحقيق عبد الهادي التازي/ 1997/ مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.

(11) منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي/ الرياض/ فرع موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة/ 1426ه 2005م.

(12) رحلتي الأولى إلى فرنسا/ ط1/ 2008/ دار الحرف للنشر والتوزيع /القنيطرة/ المغرب

(13) المقدمة/ تاريخ العلامة ابن خلدون:ص1017/ دار الكتاب اللبناني/ 1956.

(14) رحلتي الأولى إلى فرنسا: ص 17.

(15) جدي عبد الهادي: جريدة الصباح / 18 1 2005.

(16) التازي وذكريات العلاقات المغربية الإيرانية/ مقال منشور بهذا الرابط الرقمي: http://www.alarab.co.uk/?id=49443

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم