صحيفة المثقف

تجار الكراهية.. ما بين الإسلام والمسيحية

عدت قبل فترة من رحلة طويلة للشرق الأوسط استمرت قرابة ثلاثة أشهر وشملت عدة بلدان، التقيت فيها وتعرفت على اصدقاء رائعين مسيحيين ومسلمين من مختلف الطبقات والمستويات العلمية، زرت الكثير من المواقع الإسلامية المقدسة والعديد من الكنائس في لبنان والعراق وإيران، سعدت بحضور قداس الاحد في كنيسة (سيدة لبنان) ذات الموقع الجغرافي البديع في منطقة جونية قرب بيروت.

بعد عودتي من السفر كنت انوي استئناف سلسلة (حوارات في اللاهوت المسيحي) بعد طول انقطاع، وبالفعل باشرت في كتابة موضوع جديد ضمن السلسلة، وما أن أتممت البحث، وقبل ان انشره، صدمت، كما صدم غيري، بالجريمة البشعة النكراء التي راح ضحيتها الكاهن المصري المغدور القمص (سمعان شحاتة)

تلك الجريمة القذرة التي تقشعر منها كل نفس سوية، وقتها قررت تأجيل نشر الحلقة التي أكملت كتابتها، كما فعلت من قبل، وقت وقوع أعمال إرهابية طالت المسيحيين سابقا، فاضطررت لتأجيل نشر الحلقات وقتها، لاني اعلم ان هناك الكثير ممن لايميز بين النقد والدراسة المقارنة للأديان والحوار الديني وبين مهاجمة الدين ومحاولة شيطنته وتجريم أتباعه، وقد اتضح لي هذا بشكل قاطع من خلال شتائم وبذاءات بعض الاخوة المسيحيين عقب كل مقال انشره !

الجريمة الدنيئة التي طالت الكاهن المصري، لم تك الجريمة الأولى التي يذهب ضحيتها مسيحي بريء، ومع الاسف، لا اتوقع ان تكون الاخيرة، لان الاسباب التي أدت إلى هذا النوع من الجرائم مازالت قائمة ونشطة وفعالة، ونحن جميعا نتملص من مسؤولية مواجهتها والقيام بواجب التصدي لها بامانة وشجاعة، بل على العكس، صار كل طرف يحاول استغلال مايجري من اجل التكسب والدعاية لفكره وتصيد الفرصة لكي يوغل في شيطنة الفكر الآخر الذي لا يتطابق معه !

عند زيارتي للكنيسة الأرمنية في مدينة أصفهان، وهي كنيسة تاريخية عمرها أكثر من 600 عام عبارة عن تحفة فنية مبهرة، تجولت في المتحف المرفق بالكنيسة، و وقفت طويلا أمام مجموعة من بقايا عظام مغدورين ارمنيين كانوا ضحايا لحملة الإبادة الفظيعة التي قام بها العثمانيون ضد المواطنين الأرمن، كنت انظر للعظام المهشمة، واتصور آلام ومعاناة أصحابها واحلامهم الموؤدة، اعيد شريط معلوماتي لأبحث عن ذنب اقترفوه يستحق هكذا عقاب وحشي، فلم اجد سوى انتمائهم العقدي وكراهية الجزار لهم بسبب اختلافهم عنه، وقتها تذكرت كل الأشخاص الذين التقيت بهم في رحلتي الطويلة، من مسيحيين ومسلمين، والذين وجدتهم اناس طيبين مسالمين، نفوسهم مليئة بالأمل يجهدون من أجل تحسين أوضاع حياتهم، مشغولين بهموم دنياهم وكيفية كسب قوت يومهم، غير مهتمين اصلا، وربما ليس لديهم وقت، لينصتوا إلى أكاذيب وتدليسات السياسيين، ولا إلى أبواق الكراهية التي صارت ترتدي لبوس المسيحية تارة والاسلام تارة أخرى !

بعد وقوع جريمة اغتيال الكاهن (شحاتة) تكرر نفس السيناريو الذي تعودنا عليه!، حيث أطل علينا تجار الكراهية في بعض الفضائيات الدينية المسيحية والكثير من المواقع الالكترونية، ومارسوا مواهبهم في الردح وكيل الاتهامات والفبركات من أجل شيطنة الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب باتباعه، بأسلوب خبيث ملتوي ومقزز، يظهر الحرص على المسيحيين ولكنه يستبطن الكيد وسكب الزيت القذر على نار الفتنة لغرض تأجيجها، كي تحرق الجميع و تدمر اوطاننا، وكأن الفيلم المأساوي الذي يعرض كارثتنا الحالية يتكون من مقطعين أساسيين، مقطع الإرهابي وهو يرتكب جريمته، ثم يكمله المقطع الأهم وهو مقطع تجار الكراهية الذين يكملون للارهابي مشروعه وهدفه!

ان تجار الكراهية الدينية الذين يطلون علينا بوجوههم الفتنوية الكالحة عبر الكثير من القنوات الدينية المسيحية والإسلامية، ويتاجرون بتسويق بضاعتهم المسمومة، مستغلين الظروف المتردية لدولنا، والأداء الفاشل لحكوماتنا، فينفخون في ابواق الخراب و يقرعون طبول الدمار والاحتراب، من خلال اللعب على عواطف الناس الطيبين وادعاء الحرص على العقيدة والدين، فيقومون بتسميم أفكار المتحمسين وشحن نفوسهم بالكراهية للآخر وتصويره على أنه العدو المتربص بهم، وبذلك يؤدون الوظيفة الموكلة إليهم، وهي خلق حاجز نفسي سميك بين المواطن وبين أخيه المواطن الآخر المختلف عنه في المذهب او الدين، تمهيدا لتفتيت الوطن وإيجاد مبررات لاقتتال اخوة الوطن وتناحرهم، وفي النهاية توقيع شهادة الوفاة لهم ولوطنهم !

الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون، والتي طالت كنائس ومساجد ورجال دين من الطرفين، مؤلمة وفادحة، ويجب ان نضغط جميعا من اجل ان تقوم الحكومات بدورها وتضرب بيد من حديد على كل من تسبب او حرض او حتى برر لهكذا جرائم بشعة، مع الاستمرار في مواصلة الجهد في سبيل تنقية ونقد كل تراث ديني يدعو للاجرام و رفض الآخر، بنفس الوقت نحتاج جميعا، ايا كانت خلفياتنا العقدية، الى افشال وفضح توجهات تجار الكراهية ودعاتها في الفضائيات والمواقع، والذين يجهدون من اجل تحويل جرائم الارهاب الى ذريعة لتحقيق الهدف الأكبر لهم، ألا وهو اغتيال الوطن…

فيحققون بذلك غايتهم، او ربما الدور المنوط بهم، وبنفس الوقت تتضخم أرصدتهم المليونية، وتتسع نجوميتهم، بعد أن كانوا نكرات لا وزن لهم، فيزدادوا ثراءا وتنعما في بلاد الغرب، في الوقت الذي يحل الشقاء والضياع بالمؤمنين الطيبين الذين يصدقونهم ويتفاعلون بسذاجة مع طريقتهم الاحترافية في اللعب على أوتار المشاعر الدينية.

والله الساتر…

 

د. جعفر الحكيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم