صحيفة المثقف

قراءة في رواية ( بقايا اليوم)

rahman khodairabasتركزت الاضواء من جديد على جُلّ أعمال الروائي الياباني كازو إيشيغورو  بعد نيله جائزة نوبل للأدب لهذا العام٢٠١٧ . والذي عبرت لجنة نوبل في معرض احتفائها بالكاتب " إنه عرَّى في رواياته، التي تتسم بقوة عاطفية كبيرة، الخواء الكامن تحت شعورنا الواهم بالعلاقة مع العالم "  كما ان الكاتب نفسه قد فوجئ بهذا الفوز الذي سيجعله في مصاف الكبار من الأدباء. وأعتقد بان تعبيره هذا ينم عن تواضع جَم. لان روايته (بقايا النهار) قد حازت سابقا على جائزة البوكر. وهي من الجوائز العريقة. علاوة على ان الرواية التي صدرت عام ١٩٨٩ قد تحولت الى فيلم سينمائي بعد أربعة أعوام. وقد حصد الفيلم حينها على سبع جوائز أوسكار. وكان من بطولة الممثل الامريكي الكبير إنتوني هوبكنز.

وفي مقابلة صحفية مع الكاتب. قال : إنه أنجزها في أربعة أسابيع. وهي فترة قياسية لإنجاز مثل هذا العمل المتقن. ويبدو ان ليس ثمة سقف زمني لإنجاز اي عمل إبداعي.

تتناول رواية (بقايا النهار) علاقة الانسان بنفسه، من خلال الارتباط الوثيق بحرفته أو إختصاص عمله، والذي يُفترض أنْ يُشكِّل جزءً من حياة المرء. ولكن عند بطل الرواية مستر ستيفنس تتحول هذه المهنة الى الهوية البديلة لذلك الانسان، والتي ترسم ملامحه وسلوكه وأدق مشاعره. ويتحول صاحبها الى مايشبه الروبوت الذي تُبَرجم كل أفعاله وسلوكياتها وحركاته. وينسحب ذلك على أفكاره وعواطفه. فهو مُستلب الإرادة الذاتية ومستلب الأحاسيس والمشاعر . إنه ظل باهت لإنسان يتحرك وفق حسابات المهنة وقوانينها.

الرواية لا تمنح نفسها الى القاريء بسهولة . فالأحداث تسيل بهدوء وتلقائية وبدون أحداث درامية. إنها الحياة بكل بساطتها وتلقائيتها وإنشغالاتها. تلك التي تدور في قصر لورد (دار لنكتون) وهو من أشهر السياسيين البريطانيين في ذلك الوقت والذي أحبطته الظروف المحيطة ما بعد معاهدة فرساي. حيث ان اللورد تعاطف مع النازية في محاولة منه لتجنيب بلاده ويلات الحرب. ولكن بريطانيا أعتبرت موقفه عارا، فماتَ كمدا. وآلت ملكية القصر الى الثري الامريكي فراداي. الذي يقترح على رئيس الخدم مستر ستيفنس أن يأخذ إجازة للبحث عن مَس كنتون الخادمة السابقة في القصر لإقناعها بالعودة الى الخدمة. وحينما تردد ستيفنس في قبول المقترح، لانه لايعرف شكل الحياة خارج القصر. ولكن إلحاح مستر فريداي جعله يقتنع بالفكرة لاسيما وانه أعار له سيارته الفاخرة لكي يقوم بهذه الرحلة. وهكذا يبدأ بقية نهار (ستيفنس) ذلك الانسان الذي قضى كل شبابه بين جدران القصر والخدمة، لعله يتحسس حياته الانسانية، أو ما تبقى منها.

وهكذا تبدأ الرواية على صعيد الذاكرة لستيفنس وهو خارج القصر لاول مرة. ومن خلال إنهمار الاحداث التي تتداعى عبرتيار الوعي، من خلال هذا الرجل الذي تختزن ذاكرته كل جزئيات القصر وجوانبه. ولكن هذه الذاكرة لم تتسع لان تتلمس أعماق ستيفنس القصية ورغباته المحبطة وأيامه التي تبخرت وهو منهمك في تلبية رغبات الاخرين .

مستر ستيفنس الذي كرٌس حياته كخادم في القصر. تحول هاجسه الى تأدية الخدمة بحذافيرها وبدون إرتكاب اية هفوة. لأنّ الكرامة الحقيقية، في عرفه، هي عدم إرتكاب اي خطأ مع مخدوميه. وان الكرامة هي إرضاء السيد المخدوم وتحقيق رغباته!.  لذا فكان صارما في تنفيذ كل شيء بتقنية عالية، حتى الجزئيات الصغيرة في العمل. فحينما سمع زميلته في القصر مس كنتون تسمي أباه باسمه الصريح أنبّ الزميلة وأجبرها على مناداة الوالد بما يليق به. اي بمناداته باسمه الرسمي. ليس دفاعا عن كرامة الابوة، بل جزء مما مما توهمه بانه جزء من كرامة المهنة. كان مستر ستيفنس يقيس الامور بمسطرة وهمه .فيقول بهذا الصدد " الكرامة شيء قد يمتلكه الفرد أو لايمتلكه نتيجة مصادفة من الطبيعة " بمعنى أن التنفيذ الحرفي والآلي لقوانين المهنة هو الذي يحدد صحتها. وبالتالي فهي في النهاية لاتمثل إرادته الذاتية التي تلاشت من خلال الالتزام الصارم بتنفيذ الواجب .

حتى والد ستيفنس العجوز كان يكابر في تقديم خدماته ويحاول ان يستعير خطوات الفرسان. ولكن سقوطه وهو يحمل الصينية قد عرَّى هذا الوهم . فاعوامه الخمسون في الخدمة لم تشفع له وتركته حطاما. وهكذا يشعر الوالد بالوهن والمرض الشديد مما يقلق ولده رئيس الخدم ستيفنس. وحينما يموت الأب كان الابن منهمكا في الخدمة. كان في قمة الحزن والخيبة ولكنه لم يمنح نفسه ان يكون إنسانا ليعبر عن بعض الحزن عن خسارته لوالده الذي مات في الطابق العلوي. بينما كان منهمكا في تقديم خدماته للضيوف في الصالة الرئيسية، دون أن يخبر احدا بموت والده كي لا يعكر صفو القصر !

وحينما استفسر منه مخدومه اللورد دارلنكتون عن ملامح حزنه. لم يشأ ان يعترف ولو للحظة بخصوصيته. فقد قال.

"المعذرة ياسيدي إنه إجهاد يوم عصيب".

كانت مَس كنتون قد تعلقت به عاطفيا وهو كذلك. ولكنه لم يستطع أن يسفح مشاعره العاطفية ولم يعبر عن لحظة عن إنسانيته. وحينما تحاصره بنظرة او سلوك عاطفي، يهرب منها بالحديث عن شؤون القصر. ذلك ببساطة لأن طبيعة مهنته إستباحت حتى أدق أحاسيسه كبشر. كانت مَس كنتون تحاول جسّ مشاعره :

سأتزوج . ولكنه بدلا من ان يعبر عن عمق مشاعره،فانه يهنؤها على فعل لم يكن مقتنعا به. وفي موقف آخر دخلت غرفته. ورأته يقرأ كتابا ورفض ان يريها عنوانه. واقتربت منه الى الحد الذي لامست أنفاسه. ولكنه بدلا من أنْ ينغمر وإياها في موقف عاطفي مفترض. فانه رفض ان تتدخل في خصوصياته. والغريب انها اعتقدت بأن الكتاب مبتذل لذا أخفاه عنها. ولكنها اكتشفت إنه رواية غرامية!

رغم أنّ أغلب القرارات السياسية التي أثّرتْ على العالم تنطلق من غرف إجتماعات ذلك المكان ولكن مستر ستيفنس الذي يستمع لكل كلمة أو جملة. أو جدل سياسي أو حوار ولكنه يتحول كالحائط. فلا يعنيه سوى ان الكؤوس والأواني كان في وضعها التقليدي وفق مقتضيات الاتكيت.

وحينما وجه اليه أحد السياسيين ثلاثة أسئلة في أحد الاجتماعات . كانت إجابته بانه لاينفع للأجابة عن مثل هذه الأسئلة. كان السياسي المحاور يريد أنْ يُثبت حجته وهي كيف لأمثال هذا الشخص ويقصد ستيفنس وغيره من عامة الناس أن يؤخذ رأيه في الاشكالات المصيرية التي تخص سياسة الدولة.

تعتمد الرواية على تيار الوعي. فحينما يُباع قصر دارلنكتون الى الامريكي فريدآي . يطلب هذا السيد الجديد من ستيفنس ان يذهب في نزهة مفتوحة، للبحث عن مَس كنتون لإقناعها بالعمل من جديد في القصر. تلك السيدة التي تزوجت زواجا غير موفق حسب ماتقول في رسائلها الى ستيفنس  .

وحينما يتردد في أخذ الإجازة لانه لايعرف الحياة خارج جدران القصر. ولكن فرداي يشجعه ويعيره سيارته الفارهة. وهكذا يبدأ مستر ستيفنس في تجربة ماتبقى من (نهاره) أو حياته التي أفلت للغروب، وهو سجين لمهنته التي كبلته بقيودها. ومع انه يبدأ نزهته في الريف الانجليزي ولكنه لايعيشون لحظة الاسترخاء والراحة، بل كان يعيش في ذاكرة الماضي، حيث يسترجع كل الحوادث والجزئيات والاحاديث والعلاقات المتشعبة في القصر وسلوك اللوردات ونقاشاتهم في حدتها او فتورها وما يعتري القصر في أوقات الذروة. وعن إحتدام العمل في القاعات الرئيسية والممرات وصالات الطعام والمطابخ وتنظيف جوانب القصر وغيرها. كل ذلك يباغت ستيفنس وهو يقود سيارته في الريف الانجليزي، حيث أن الروائي قد إستخدم في تقنيته الروائية أسلوب (الفلاش باك) الذي أتاح له أن يتحرر من التسلسل الزمني الذي يستلزمه العمل الروائي، فيقوم بتكثيف الصور واللقطات والمواقف إعتمادا على عملية الاسترجاع للأحداث من خلال ذاكرة مسترستيفنس.

وفي القرية ينفد وقود السيارة فيلجأ الى الفندق الوحيد هناك. ويكتشف دفء العلاقات الاجتماعية بين الناس . وجميع أهل القرية ظنوا أنه من عِلْيَةِ القوم وذلك من خلال أناقة ملابسه وفخامة سيارته. وكانت أسئلتهم تدورُ حول الواقع السياسي للبلد . بحيث انه سألوه فيما اذا قد إلتقى باللورد تشرشل. وكانت إجاباته مبهمة . ولا تشير الى طبيعة مهنته الحقيقية. أي أنه فعلا يلتقي بكبار المسؤولين. ولكنه غير ملزم بتوضيح طبيعة اللقاء. ولكن طبيب القرية الوحيدة الذي شكّ بان ستيفنس رئيس خدم في القصر. وحينما باغته وهو يساعده بملئ خزان سيارته بالوقود. أقر ستيفنس بانه فعلا رئيس الخدم ولكنه لم يخدع القرويين الساذجين.

لقد كانت رواية كازو إيشيغورو ذات أبعاد سيميائية على مستوى التعبير في تحليلها للشخصية. فرغم أنّ مَس كنتون لم تُعلن حبها لزميلها رئيس الخدم. ولكن كل إيماءاتها وحركاتها تُشير الى ذلك. ويصح القول على ستيفنس نفسه الذي أجهد نفسه في أن يكون ذلك الخادم المطيع ولكن حركة عيونه وإرتجاف ملامح وجهه، وهروبه الدائم وانزواءه على نفسه، تعبر عن حجم الصراع النفسي الذي يعيشه هذا البطل والذي يعجز حتى عن البوح برغبات الجسد أو تجليات الروح. إنه الاستلاب والاستعباد للروح .

لقد كانت (بقايا النهار) عملا روائيا جميلا ومتقنا. وكانت أحداثه تنهمر بهدوء وعذوبة. دون توتر او مفاجئات أو شدائد ليس فيها آلام كبيرة أو سعادات غير متوقعة. وكأنه يقدم لنا شريحة من الحياة لأناس إنغمروا بوعيهم او بدونه في لزوم أنفسهم بما لايلزم.

 

رحمن خضير عباس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم