صحيفة المثقف

بقايا ذاكرة موجعة

abduljabar alrifai2ولدت ونشأت وترعرعت في قرية جنوب العراق فقيرة بكل شئ، تفتقر إلى الوثائق والنصوص المكتوبة، ذلك أن أهل الريف ثقافتهم شفاهية، يندر أن تعثر على مدونة في حياتهم. لا أتذكر في بيتنا أوراقاً أو كتباً أو صحفاً، ما عدا كراسات قليلة ذات أوراق صفراء تتحدث عن حكايات شعبية، بعضها مستل من "ألف ليلة وليلة" لا يتجاوز عدد صفحاته 32 صفحة، كان أخي الكبير شريف القحطاني يشتريها من كربلاء أو النجف حين يذهب لزيارة المراقد المقدسة.

الولع بالطوابع وصور المشاهير

في المرحلة المتوسطة التحقت بمتوسطة قلعة سكر، وبدأت أتعرف على المراسلات البريدية وطوابع البريد، وبعض الكتب في هذه المدينة. حرصت على نزع الطوابع البريدية من أغلفة الرسائل التي تصلني من أخي الذي كان يعمل في الكويت، وما أعثر عليه من طوابع رسائل ممزقة ومهملة أغلفتها في مكب النفايات.

طابع البريد هو أول رصيد بدأ يتراكم لأرشيفي البدائي البسيط، كان طابع البريد نافذة ضوء تمدني صورها بشيء من معرفة مناسبات وأعلام ورموز بلدي، بل كان نافذة اكتشاف لبعض البلدان التي لم أكن من قبل أعرف حتى اسمها. وبمرور الأيام تملكتني رغبة الاحتفاظ بما يصلني من رسائل، وبعض صور المفكرين والفلاسفة المنشورة في الصحافة. أتذكر في ذلك الوقت أني قمت بإلصاق صور فلاسفة ومفكرين غربيين، اقتطعتها بمرور الأيام من صحف قديمة، على "كارتونة" أصبحت لوحة، وعلقتها في غرفة الطين بمنزلنا الريفي، طالما أثارت هذه اللوحة فضول الفلاحين في القرية الذين يزوروننا، فيتساءلون بدهشة واستغراب: من هؤلاء؟! خاصة وأن صوراً لأمثال هيغل وماركس وكانط وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة لم تكن ملامحهم مألوفة في مجتمع صغير مغلق كقريتنا، مجتمع شفاهي صِلاته مع ما حوله هامشية ومحدودة جداً، لا يرى من الألوان سوى ألوان السماء والمحاصيل الزاعية والحيوانات. كانت تثير الفلاحين نظرات أعين الفلاسفة الحادة، شعورهم الطويلة، وجوههم الصارمة، لا توحي وجوههم بهدوء وابتسامة واسترخاء ودَعَة وراحة ودفء. أضطر أحياناً الى التحدث للفلاحين عن أن هؤلاء رجال كبار، وأحاول أن أقارن بينهم وما يختبئ في ذاكرتهم من رجال مقدسين وفرسان وزعماء تاريخيين، نسج لهم متخيلهم الجماعي صوراً شديدة الإثارة، عابرة للزمان والمكان. رسمها ذلك المتخيل الذي أضحى منبعاً يصوغ رؤيتهم لله والمقدس والانسان والعالم، ويحدد مفهومهم للحقيقة، وكيفية ادراكها.

 كانوا يعربون عن دهشتهم من هذه اللوحة النابتة في غرفة طينٍ، غريب كل شيء فيها على ما تتحدث به صورها، إذ لا ديكور أو أثاث أو ترتيب متسق فيها. إنها صور لا معنى تبوح به اليهم، إلا ما يحيل إلى متخيلهم الميثيولوجي للمقدس، المفارق للصور الدنيوية الحسية. أكثر من مرة ازدرى بعضُهم أصحابَ هذه الصور، فوصفوهم بالجنون أو الهبل، وأسمعوني عبثية هذه اللوحة الغرائبية التي صنعتها لمخلوقات تثير الاشمئزاز والقرف، بوصفها لا تشبه مفهومهم للكائن البشري. مفهوم البشر في قريتي هو الفلاح والراعي ابن الأرض، المألوف والمعروف، وكل إنسان غيره من الصعب منحه صفة الآدمية لدى هؤلاء الناس الذين لا يعرفون إلا أساطير عن الأجناس البشرية خارج محيطهم. 

السأم السريع من تدوين اليوميات

في مرحلة دراستي الثانوية في مدينة الشطرة جنوب العراق بدأتُ بتدوين يوميات في صفحات مفكرة صغيرة جداً، أكتب كل يوم مساء عدة جمل، تشير الى أهم الحوادث والمواقف الشخصية في ذلك اليوم. وهي عدوى استبدت بي من بعض زملائي في الإعدادية التي درست فيها. إذ كان التلامذة من جيلي يغرمون بهوايات متنوعة، منها كتابة الشعر الشعبي العراقي في دفاتر صغيرة، والحرص على استظهاره وإنشاده وغنائه عند سهراتهم ليالي العطل في السكن الطلابي، ومنها الشغف بصور المطربات ونجوم الفن، التي يتصيدونها من مجلات الفن اللبنانية والمصرية. وجدت نفسي خارج غواياتهم وهواياتهم، ما خلا تدوين يوميات قبيل النوم كل ليلة، وهي تسجيل رديء لحوادث شخصية رتيبة، لا تشي برؤيا لما تبوح به تلك المواقف والحوادث. لم تتواصل هذه العملية طويلاً، إذ سرعان ما شعرت بتفاهة ما أقوم به وعدم أهميته، لذلك أعرضت عن ذلك، وأهملت تلك اليوميات. ربما لو استمرت كتابتي لليوميات مدة طويلة لتطورت عموديا وأفقياً عبر انفتاحها بمرور الزمن على فضاء بديل، يمنحها طاقة تجدد حيويتها وتكرس ديمومتها. حتى اليوم أعجر عن أن تصير الكتابة مهنتي اليومية. 

اكتشفت لاحقاً أن مزاجي الشخصي لا يطيق الرتابة وسرعان ما يسقط في السأم والضجر. لحظةُ يكرر اليومُ صورةَ الغد، وينسخها كما هي بكل تفاصيلها وألوانها، أشعرُ بكوابيس مُرّة. في التكرار يتوقف الزمن الشخصي الباطني، لذلك لا أطيقه. لعل ذلك هو سر أسفاري وهجراتي في عوالم المدن والبلدن والكتب والأفكار والأشخاص والأشياء. لا تغويني هوايات وموضات جيلي، وحتى لو هرولت بغية محاكاتهم سرعان ما أهرب، كي أسكن لما تسكن إليه روحي.

الصورة الأولى في الكاميرا الشمسية

أول صورة فوتوغرافية طلبتها مني المدرسة الابتدائية، كي يلصقوها على صفحتي في سجل تلامذة المدرسة، هي صورة شمسية التقطها مصور بكامرته الخشبية في مدينة الرفاعي. لا أتذكر صورة سبقتها. أدهشتني العبقرية الفذة لمخترع الكاميرا الشمسية، ففي زيارة لمعرض الفنان والمخترع ليونارد دافنشي "1452 -  1519" في مدينة فلورنسا الايطالية عام 2007، شاهدت نموذجاً خشبياً ابتكره للكاميرا التي كان يحلم بصناعتها، بموازاة ما أنجزه من اختراعاته الكثيرة، أو ما اقترح فكرته ورسم خارطة لصناعته تترقب من ينتجها في زمان لاحق. أدركت أن عقل الإنسان يمكنه أن ينجز الكثير من وعوده وأحلامه، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستحيلة.

 لاحظت أن الصورة تنطبع ابتداء بشكل مقلوب على رقاقة بلاستيكية، تسمى "جامة"، ربما لأنها شفافة كالزجاج الذي نسميه باللهجة العراقية "الجام". "الجامة" صورة لا تشي إلا بملامح باهته، كأنها ملامح موتى. ثم يقوم المصور بعد ذلك بغسلها بمحلول كيمياوي داخل صندوق أسود، وبعد أن تجف يصوّرها من جديد، لينتج عدة صور منها.

عثرت في صورتي على شبح يحاكي بعض تعبيرات وجهي، ابتهجت كثيراً حين شاهدت صورتي للمرة الأولى في حياتي، وكأني عثرت في صورتي على شيء من ذاتي، وكل ذات عاشقة بطبيعتها لذاتها. لا نمتلك في بيتنا "مرآة" نرى فيها وجوهنا صباحاً ومساءً، إلا مرآة صغيرة جداً يستعملها المرحوم أبي فقط عند حلاقة ذقنه، وبعد أن يفرغ من الحلاقة يحتفظ بها في صندوق صغير مع ماكنة الحلاقة. المرآة أول نافذة ضوء للكائن البشري يكتشف فيها صورة وجهه وبعض ثيمات جسده، وتبدد شيئاً من عتمة الطبقات المبهمة لعوالم الذات. 

كم أسعدني هذا المنجز البشري الذي منح الإنسان فرصة لرسم صورته بلا ريشة رسام وألوان، وكأن الكاميرا تحمل بشرى يشرق من نافذتها ضوء على دنيا الغد. أثارني شكل الكاميرا الشمسية وصندوقها المغطى بقماش كثيف أسود، وكيف يدخل المصور رأسه فيه لإنتاج الصورة عبر سلسلة عمليات بطيئة رتيبة.

كلما رأيت اختراعاً ومنجزاً جديداً للعلم أفرح، لبثت هذه الحالة معي إلى اليوم، وإن بتوتر أخف.كثيراً ما أشعر أن كل اختراع يزف بُشرى للعيش في غد أجمل، يهديها أولئك المخترعون الأفذاذ لكل كائن بشري، وإن كان ذلك الكائن لا يعرف قيمة منجز العلم، أو يناهضه كما هي الجماعات المتوحشة عدوة العلم والمعرفة والتكنولوجيا، غير انها لا تني تتوكأ عليها في إدارة وإنتاج فاشيتها الدموية.

مكاسب العلم عندي هي مرايا الغد التي تصوّر أحلام البشر وما يرتسم فيها على الدوام من انتصارات عقله على توحش الطبيعة، وتحطيم قسوتها، وقدرته على ترويضها، وظفره باستثمار ثرواتها، من أجل أن تصير حياته أسهل وأجمل. هكذا كان شعوري مع أول سيارة ركبتها، تنتمي صناعتها إلى خمسينيات القرن الماضي، هيكلها مصنوع من الخشب، ما خلا محركها الذي كان يعمل بالنفط الأبيض "الكيروسين"، ولا يدور إلا بـ"الهندر".

لا أتذكر التقاط صور أخرى لي بعد هذه الصورة، إلا بضع صور لمعاملات إصدار الجنسية ودفتر الخدمة العسكرية ووثيقة التخرج من الابتدائية، نهاية الستينيات من القرن الماضي.

 

عبد الجبار الرفاعي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم