صحيفة المثقف

مدينة الحرية عمارة إنسانية.. نص في المكان (دور الشؤون)

jamal alatabiالأمهات يوصين الأبناء أن يحبوا الوطن الذي شيّد لهم ولآبائهم وطناً آخر، بيوتاً تأويهم من خذلان الفقر وغائلة الجوع، يقتنعون بالقليل من الخبز والعيش، لم يكن مستحيلاً على حكومة (العهد الملكي المباد) أن تفتح لأولئك المتعبين من صغارالعسكر والموظفين والنازحين من فلسطين، نوافذ للأمل في بيوت أشبه بعلب من حجر، متلاصقة، متراصّة، مكتظة، بمساحات لاتتجاوز الخمسين متراً، لامسافات تفصل الجدران، سوى تلك الأزقة الضيقة التي تشبه الصراط المستقيم، كأن الحكومة أرادت لأولئك أن ينصتوا لشهقات الواحد للآخر، يتوحدوا في الونّة والآه، شركاء في الحب والحزن والأمنيات، يتقاسمون العوز، ويلتحفون سماءً واحدة . أهلها سعداء بهذا النزل الجديد، فهو لهم مثل مدائن يبزغ فيها الفجر من كبد الديجور، ويتناثرفيها الضوء مدراراً .

عُرفت بإسم (دور الشؤون)، نسبة إلى وزارة الشؤون الإجتماعية التي نفذت المشروع أنذاك، أواخر خمسينات القرن المنصرم، وشغلت مساحة واسعة تبدأ من بستان الجلبي جنوبا، حتى الدور الحديثة التي إلتفت حولها بحنوٍ وإلفة، هذا الإمتداد يثير متعة بعيون ساكنيه، وتبدو المتعة مضاعفة مع تلك الحياة الجديدة الطازجة، كأنها وحدها (دور الشؤون) تحتفظ بالإبتسامة بعيون النساء والأطفال .

أهل هذه الدور من سلالات شتى، وطوائف، وأديان، لم تعرف بعد الفوارق في اللون والعِرق، تجمعهم المروءات بلا عُقد أو نزق، يحتفون بالنهار، يبكّرون في النهوض قبل مطلع الشمس، تذكرهم الليالي في أولها بصوت الناي، وفي آخر الليل لهم تهاليل وآهات، الصبايا ينصتن لأصوات المغنين، والعاشقون سكارى يغرقونه شدواً للعيون التي تبرق خلف العباءات السود .

جدران الدور لا تتعالى على ساكنيها، ولا على المارّين في دروبها، ولا توصد أبوابها، عتباتها تلعق غثاء الطين، بعد أن ملّت من جمع رغبات النساء والصبايا اللواتي ينعمن بالجلسات الملغومة بثقل الهموم ووجد البنات،في شارع الحب أحد شوارع الدور، ما أن يذوب المساء حتى تتلاشى الأصوات في عتمة تستجير المصابيح الخاشعة، علّها تمنح الصبية محض عاطفة أو أمل .

دور الشؤون بدأت تسمو بأبنائها الذين خلعوا أثواب الأسلاف، لم يرثوا مآثر آبائهم في الجندية والفلاحة، ولم يكونوا مارقين، بل مناضلون، أداتهم عرق الجبين، وجدوا طريقهم الى الحياة بعيداً عن سلطة الآباء ورغباتهم، فمشوا نحووهج الأزمنة الجديدة – ستذكرهم حقب وأزمان – تبوؤا عرش الكلام والفنون، وإمتلكوا ناصية الدرس، وتوثبوا صوب الجهات كلها، وكتبوا تاريخهم في صحائف يتهجاها الأحفاد، هو فصل مهم من تاريخ العراق، إذ شهدت عقود الستينيات وما تلاها، ظهور جيل من الأبناء تناسى بؤس الطفولة، وصدأ المدن العتيقة، وراحوا يشاكسون الزمن، يختصرون الدروب، إستفزوا الذائقة، وكسروا التقليد والرتابة، وحاوروا الماضي، وحاكموا الراهن.

في دور الشؤون كنز من المواهب والطاقات المبدعة، في صنوف المعرفة والأدب والعلم، كتّاب، ومغنون، مسرحيون وموسيقيون، معلمون وأطباء ومهندسون، ضباط برتب متواضعة، سياسيون ينتمون لأحزاب متناحرة، عمال وحرفيون، رياضيّون متميزون ...عراق تكوّر في هذه البقعة، ثملاً بما أنجب، يختلط فيه الغناء والبكاء، وتتوحد الأصوات عندما تتوحم به الأقدار .

فيها إنطلقت حنجرة سعدون جابر لأول مرة ليفوح منها الزهر، وكتب أحمد خلف هنا أولى قصصه القصيرة، وبدأ الشاب الفلسطيني نصرمحمد أولى خطواته نحو الكتابة، حاتم الصكر يوقد ضوء فوانيسه لزمن الشعر والكتابة النقدية، جهاد ونعمان مجيد، الشقيقان القاصان اللذان يجدان ذاتهما في الصدق والكلمة الطيبة، سلمان الشهد يعيد للوطن بهجة غائبة في تخطيطاته، مقداد عبد الرضا بدأت قدماه تنوش خشبة المسرح .سامي الزبيدي يترك وشماً في الكتابة للطفل في (مجلتي) .عمران التميمي المخرج المسرحي، وأشقاؤه عدنان وقحطان .

وللدور فرسانها، من طراز آخرلا يحب ضجيج الشعارات، هاتو الأسود، يغني بإيقاعات أفريقية، ترقص معه الحمائم والغيوم، قدوري الوحيد لأمه، تحرص أن لايغادر المنزل، تراقب نعليه كدليل لوجوده فيه، يتحايل عليها ليلتحق بأصدقائه في المقهى، يخرج حافياً ليستعير نعلا من بيت مجاور، باقر مسير (عبد الباقي الزيدي تارة، والناصري تارة أخرى) يشترط حضوره إجتماعاً لحركة القوميين العرب، وجود قطرة للعين يدواي بها بصره العليل، ذات مرة، هتف بسقوط (موريس توريس) زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي، في تجمع طلابي في إعدادية الكاظمية، لمناسبة ذكرى إنطلاقة الثورة الجزائرية، لم يردد أحداً من بعده الهتاف، فأصابه الخذلان وشتم رفاقه !! يتهيج  المخزون النضالي لدى باقر بعد هزيمة حزيران 67 فيرتدّ عن الحركة نحو اليسار، لكن دون أن يتخلى عن جريد الأهرام ومجلة صباح الخير، فهو مرجعيتنا في هذا الزاد الممتع . عبد المحسن الأميري (أبو سلام سكسفون) متعدد المواهب، عازف موسيقي في الفرقة السمفونية، طرّاز، يدير مقهى الساقية، عريف في الجيش متقاعد، يجادل ليبعد الإتهام عن أغاني أم كلثوم كسبب لهزيمة حزيران، أبو سلام ذاكرة لاتخون في أغاني محمد عبد الوهاب، وتراتيل عبد الفتاح الشعشاعي، وحده من يصنع الإصغاء والخشوع في محراب الموسيقى .حين يعلو صراخ باقروثالث الأثافي مالك علي عذاب .

آخرون يطعمونا حكايات، ويعيدون لنا ضحكات غاربة، رياضيون أفذاذ، لاعبو منتخبات، الأشقاء عائلة جبر: حميد ومجيد ورعد وعزيز، وعائلة لازم الفرطوسي حميد ومجيد وأسعد وصباح، واللاعب شعلان زوير وشقيقه مجيد الذي إستشهد في فلسطين، فوزي السوداني العدّاء والأكاديمي فيما بعد، فيصل حسوني الملاكم والسياسي، ستارشحيّت، الفدائي الذي يستلم أوامر الإلتحاق بالمقاومة عبر راديو المقهى،وهو مستغرق في لعبة (أزنيف) حامية !! إسماعيل هايت الجندي الذي تفوق في العزف الموسيقي ليرتقي الى مرتبة نقيب في الجيش، وعبد الأميرشيهان أول مفوض شرطة في الحرية، وبيوتات أنجبت أسماء ظلت وفية للوطن والناس، عائلة عبد الله بديوي مثلاً، بأبنائها نجم وخالد وفاروق.

ولاتخلو الدور من أشقياء مفتونين بالخنجر، وصليل القامات، لهم صولاتهم حين ينتكس القانون وتستبد الفوضى في البلاد، نجم الأقجم وشقيقه حربي نموذجاً

ماذا أصاب الدور الآن؟ وهي تلبس جلابيب الشحوب، ترقب رعشة الأبواب، أعوام مضت، ظلت غارقة في خوفها، تدفن ضحاياها في الليل، فما أمرّ الضياع.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم