صحيفة المثقف

في التفسير الديني المسيحي للتاريخ

khadat jleed2إن النظرة الدينية للتاريخ هي في جوهرها نظرة لاهوتية تربط أحداث التاريخ ومساره بأسباب وعلل تقع خارج التاريخ ولقد سادت هذه النظرة في الديانة المسيحية على الخصوص، ويمكن تلخيص جوهر هذه النظرة في العبارة التالية (التاريخ مسرحية ألفها الله ويمثلها الإنسان) فالإنسان حسب هذه النظرة يقوم فقط بالدور الذي أعد له سلفا لأن وقائع الإنسان والتاريخ لا تخضع للإرادة البشرية ولكن تخضع للإرادة الإلهية التي شكلتها على النحو الذي هي عليه وهذا هو جوهر نظرية العناية الإلهية في التاريخ التي تجد مشروعيتها النظرية واللاهوتية الكاملة في المسيحية .

و المسيحية على العموم تصور التاريخ كشكل من أشكال المأساة تتألف من مجموعة من الفصول تشكل في النهاية مسار التاريخ وغايته في نفس الوقت. وتبدأ فصول هذه المأساة بسقوط آدم إلى هذا العالم واستمرار الخطيئة كخطأ وخلل لما يورثه هذا السقوط من معنى أما الفصل الثاني فيمثل ظهور الله في التاريخ من خلال يسوع المسيح وأما الفصل الثالث فهو يمثل مرحلة تبشير العالم بالأناجيل عبر انتشار الكنيسة المسيحية وهذه المرحلة لم تنته بعد في نظر رجال الدين، وأما الفصل الرابع والأخير فهو فصل القدوم الثاني للمسيح يرافقه الحساب الأخير وتشييد مملكة الله الموسومة بالكمال.

هذا بصفة عامة وبصورة إجمالية، أما العنصر الأساسي في النظرة المسيحية للتاريخ فهو «الإقتناع في ضرورة ظهور الله في التاريخ في شكل إنساني من أجل خلاص البشر بعد أن غدوا فاسدين بخطيئة آدم وهذه العقيدة في تجسيد الله تكون الفرق من حيث الأساس بصورة أساسية حاسمة بين المسيحية وبين النظرات التوحيدية الأخرى إلى التاريخ».

ولقد ازدهرت نظرية العناية الإلهية المسيحية في القرون الوسطى مما أضفى على التاريخ طابعا مأساويا ولقد كرس رجال الدين في هذه المرحلة هذا الوعي بالمأساة من خلال تمييزهم بين نوعين من الزمان ، الزمان المقدس وهو زمن الرحمن الكامل في مقابل الزمن المدنس، أي زمن الشيطان الناقص، وعلى ضوء هذه النظرية للزمن فالعصر الذهبي في نظر رجال الدين موجود وراءنا وليس أمامنا لأن وجود آدم في الجنة قبل الخطيئة يمثل العصر الذهبي للإنسان والإنسانية بصفة عامة ولذلك فكلما توغل الإنسان في الزمن ابتعد عن العصر الذهبي والحقيقة واقترب من زمن الشيطان وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول أن «الزمان في تصور رجال الدين في العصر الوسيط تاريخ ذو معنى تحكمه معقولية وغاية، إنها معقولية خطية يحكمها منطق السقوط والانحدار فالعالم يسير في اتجاه انهياره وانحطاطه، من هنا اعتقاد وسيطي القرن الثاني عشر بأن زمانهم هو شيخوخة العالم الذي بلغ من العمر أرذله أي أنه آخر الأزمان».

وإذا كان لكل نظام معرفي وعقائدي نظام اجتماعي يعبر عنه ويدل عليه في نفس الوقت فإن هذا النظام المعرفي يبرز لنا البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت سائدة في العصر الوسيط وبعبارة أخرى يعبر عن إيديولوجية تلك المرحلة من مراحل التاريخ.

وعلى هذا الأساس فقد «تمثل المجهود التاريخي للمفكرين المسيحيين  في العصر الوسيط في محاولة إيقاف التاريخ وإكماله ذلك أن المجتمع الإقطاعي بطبقتيه المهيمنتين طبقة الفرسان وطبقة رجال الدين اعتبر نفسه نهاية التاريخ وتتويجا له»

أما أهم مفكر مسيحي نظّر للتاريخ وفلسفه انطلاقا من نظرية العناية الإلهية فهو القديس أوغسطين (354-430م) صاحب كتاب (مدينة الله) ولقد استمرت نظرية أوغسطين فاعلة ومؤثرة في التاريخ المسيحي على مدى مئات السنين.

إن نظرية أوغسطيس للتاريخ تنسجم في جوهرها مع مبادئ المسيحية حيث يرى أوغسطين أن «الشر دخل بمعصية آدم وكما أن في الإنسان نزعتين : نزعة حب الذات إلى حد الإستهانة بالله ونزعة حب الله إلى حد الإستهانة بالذات كذلك في المجتمع مدينتان المدينة الأرضية أو مدينة الشيطان والمدينة السماوية أو مدينة الله تعمل الأولى على نشر الظلم ونصرته وتعمل الثانية في سبيل العدالة »

ولقد رفض أوغسطين نظرية التعاقب الدوري للتاريخ لاعتقاده أن في ذلك تناقض مع جوهر المسيحية «ذلك أن الحوادث وفقا لهذا الرأي تميل إلى أن تتكرر بينما اللاهوت المسيحي يجعل من صلب المسيح أهم واقعة تاريخية منذ بداية الخلق ومن ثم عارض سان أوغسطين القول بالتعاقب الدوري مؤكدا فردية الواقعة التاريخية ومن ثم استحالة تكرارها».

وما يمكن استخلاصه في آخر الأمر أن الله في المسيحية هو علة التاريخ والوجود بصفة عامة فلا علة ولا فاعل إلاّ الله والله هو الذي خطط لأحداث التاريخ ليبث فيها حكمته والإنسان الفرد لا يؤثر في التاريخ لأن هذا يتعارض مع إرادة الله المطلقة وحكمته اللامحدودة.

 

الدكتور قادة جليد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم