صحيفة المثقف

محنة الزاجل في الضباب

abdulelah alyasri2إلى كل عربيّ طاهر

 لم يتنجّـــس

برجس العمالة.


 

محنة الزاجل في الضباب / عبد الإله الياسر

 

أَجهشتُ سكوتاً في الظلماءْ،

من جرح الطين وجرح الماءْ.

ما أَطولَ ليلَ البحرِ،

وما أَبعدَ شمسَ الصحراءْ!

ما أَغربَ صوتي!

في زمن الصمتِ.

ماأغربني!

ما أَضيعَني نخلاً بين ضبابٍ وبحارْ!

قد مزَّق أَشرعتي الإعصارْ

أَبحث عن مرفأْ.

يُؤوي سفني.

يَحميها من أشباحٍ تتبعُني.

من سطوِ قراصنةٍ حكَّامٍ في وطني.

ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!

هل أبقَى الملاّحَ التائهَ حتى موتي؟

لا أَدري في أيّةِ ريحٍ سأُقيمُ ،

ولاأَدري في أيّةِ موجهْ.

جفَّتْ بيدي خضراتُ الدولارْ.

جوعان بلا أهلٍ، وبلا دارْ.

هل تُصبحُ،في يومٍ ما،ليْ دارْ؟

لأُزيحَ عن الجمرِ رمادي

وأَفكَّ عن الجرحِ ضمادي

هل من نارْ

أتطهّرُ فيها من ورم الغربةِ،أَشفَى؟

ومتى أشفَى؟

من خلفي سكّين بلادي،

وأَمامي سكّين المنفَى.

أَتعذَّبُ بين الشفرةِ والشفرهْ.

كالحَبّةِ مورقةً تحت الصخرهْ.

كالنُوتيِّ الفاتحِ صدرَهْ.

لسهامِ الريحْ.

وَدَّعتُ مآذنَ "طَنْجَةَ" مثلَ النسرِ جريحْ.*

مدحوراً أَسحبُ بين النورسِ أَجنحتي.

أَتملَّى جبلاً في البحر لـ"طارقْ".**

وعبرتُ ،كأني اللصُّ، البَرزخَ في الميناءْ.

بجوازٍ أَعرجَ دون عناءْ.

وبكيتُ لأنّي أحسستُ بانّي إنسانْ.

وبأَنَّ الشرطيَّ يكونُ صديقاً بعضَ الأحيانْ.

أَعطيتُ السَّادِنَ تذكرتي ـ

ودخلت الباخرةَ- الجنَّهْ.

كانتْ فيها الحُوْرُ، وكان الوِلْدانْ،

وسواقٍ من خمرٍ ولذائذُ أَطعمةٍ في كلِّ مكانْ.

أَخذَ العشّاقُ الشقرُ يقبِّلُ بعضُهم الآخرَ فيها

وأخذتُ أقبِّلُ صاحبتي الأحزانْ.

صعدوا للسطح خفافاً سعداءْ.

وصعدتُ ثقيلاً مُرتبكاً أسيانْ.

كان البحرُ يمازحُهمْ رشّاً برذاذ الموجِ

وكان الحزنُ يمازحُني رشّاً بدموعٍ ودماءْ.

بدأ السيَّاحُ يُغنّون مع الموسيقى،

وسكتُّ غريباً كالمقعدِ جامدْ

شاردْ.

لا أَسمعُ غيرَ أزيزِ رصاصاتٍ ونشيج نساءْ.

حين يجرُّ خيالُ الحُبِّ يديَّ لأرقصَ،

أَبكي وطني.

ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!

ومضتْ بنتُ البحر تَشقُّ جيوشَ الموج وتَجري

وفزعتُ كطير البرِّ لأنّي

لم آلفْ غيرَ بنات الصحراءْ،

ورمالٍ حمرٍ وعواصفْ.

ورستْ

فإذا راية"لَنْدَنَ" فوق الجبل الشاهقْ

تخفق في الأفق كطيرٍ جارحْ.

ـــ:لم يبقَ سوى اسمِك ياطارقْ.

وخرجتُ من الجنَّة للأرض بلا حوَّاءْ،

وأَريتُ جوازي الضابطةَ الشقراءْ.

فابتسمتْ كالمومسِ دون عواطفْ،

واجتزتُ الحاجزَ في الميناءْ،

ووقفتُ كصخرٍ بين صخورْ.

قلتُ:هنا رفَّتْ رايات ابن زيادْ.

ونظرتُ إلى الدنيا من حولي وهي تدورْ.

لأُقارنَ يومي بزمان الأَجدادْ:

يا للبحرِ! ويا للجبل الشاهقْ!

كيف لوَى أنفَهما طارقْ؟

أَسألُ نفسي:

هل جئتُ لهذا البحر فراراً

من تلك الصحراء لكي أَغرقْ؟

هل جئتُ لأستبدلَ موتاً أَحمرَ

في الشرق بموتٍ في المغرب أَزرقْ؟

أَسترجعُ عبر التاريخ العربيِّ دخاناً لحرائقْ

يَصعدُ من سفنٍ في الميناءْ

أَسالُ طارقْ:

طارقْ!

هل تقدر أَنْ تجتاز البحر الآن بغير جوازْ؟

هل تَجرأ أنْ تحرق سفنَك ثانيةً؟

هل تَجرأ أنْ تخطب فينا ضدَّ الأعداءْ؟

ما زلنا نحفظ خطبتكَ العصماءْ.

مازلنا نفخر فيكْ.

ربّيتَ خيولاً كي تغزوَ فيها بالأمس بلاد الرومْ.

لوعشتَ معي اليوم،لربّيتَ كلاباً تحميكْ.

وشربتَ معي نخْبَ الخوفِ ونخْبَ الإملاقْ.

وفررتَ من الأرض المدعوّةِ في قائمة القمعِ:عراقْ.

ماأَبعدَ كأسَكَ، طارقُ،عن كأسي!

واليومَ عن الأمسِ!

لوتعلمُ شيئاً مما يجري في وطني

ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!

أَسمعُ نقَّ ضفادعْ

في ليلٍ ينزلُ فيه الرأسُ ليصعدَ فيه الذيلْ..

إيهٍ طارقْ!

هل تَسمعُني؟

أنا أَبكي صمتاً طول الليلْ

لم يبقَ من الإنسان العربيِّ سوى الظلْ،

بين محطّاتٍ ومطاراتٍ وموانئْ.

هل كنتُ شيوعياً حقّاً؟

لا.ليس لإبحاري بوصلةٌ تَهديني

لا.ليس لمُرسايَ مرافئْ.

جائعْ.

خائفْ.

ضائعْ.

في بلدان كسرابْ.

لا يوصلني فيها شارعْ

أَنزف لكنْ أَنزف واقفْ.

مثل جدارٍ قد سقط السقفُ عليه ولم يسقطْ

يَتحدَّى أنْ ينهارْ.

قد قاومَ خيلَ الريحِ وفرسانَ الأمطارْ.

أيّ بناءٍ ذلكْ!

طارق!

طارقْ!

هل تَسمعُني؟

إنّي الوطنيُّ بلا وطنِ

أَحرقتُ ــ لكي أستسلم للمنفى ــ سفني

كي لا أرجعْ

لحِمَى الظلماءْ

ما زلتُ أفتّش عن وطني

بين الأشياءْ.

لو تنسَى ذاكرتي الطينَ وتنسَى الماءْ.

لو تنسَى الأَضواءْ.

لو تنسَى حنجرتي صوتي،

زمنَ الصمتِ.

لو أَسهو يوماًعن وطني.

لو أنساه

-:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!

لم تبقَ سوى الذكرَى  منكَ،

ولم تبقَ سوى الآهْ.

-:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!

آهٍ.آهْ!

 

......................

*طنجة: مدينة مغربية تقع شماليّ المغرب على ساحل البحر الأبيض المتوسط

** طارق بن زياد فاتح الأندلس(ت 102 هـ)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم