صحيفة المثقف

التاريخ وإشكالية تعليله

khadat jleed2إن التاريخ ليس حركة بدون معنى، كما أنه كذلك ليس سلسلة من المصادفات العمياء كما أن معنى التاريخ مرتبط بمعنى الوجود وهذا ما يتطلب وجود عقلانية صارمة تعطي للتاريخ علة وغاية يتحرك نحوها وإذا كانت أحداث التاريخ هي في جوهرها أفعال الإنسان فإن الإنسان منذ القديم وإلى اليوم ظل يتطلع دائما إلى معرفة الأسباب والعلل التي تحدد تلك الأفعال وبالتالي توجه تلك الأحداث.

و لقد ارتقت معرفة الإنسان بالتاريخ بتطور الحياة نفسها من خلال نمو العقل وتطور العلوم بصفة عامة وتعقد الحياة مما فرض على الإنسان تحديات جديدة وأسئلة متجددة باستمرار ولقد كان البحث في أسباب التاريخ وعلله مرتبط ارتباطا عضويا بهذه التحديات وهذه الأسئلة التي تستفز الفكر والعقل معا لمحاولة الوصول إلى أجوبة تقنع الإنسان في كل مرحة من مراحل تاريخه ونموه.

و من هذا المنظور فقد «غبر زمان طويل اكتفى العقل البشري في أثنائه بأن يعرف ما حدث وهذا هو التاريخ في أدنى مظاهره (التعليل الأسطوري)، ثم اتسع الخيال الإنساني باتساع الحضارة وأصبح العقل أكثر تطلعا إلى الإحاطة بمظاهر الوجود المادية والروحية فانقلب ثانية إلى ذلك الذي حدث وأراد أن يعرف كيف حدث (التعليل العلمي) ثم ارتقى العقل الإنساني وأحاط بكثير من مظاهر الوجود وأدرك أن لكل شيء في هذا العالم أسبابا وعللا فأراد أن يعرف ذلك الذي حدث لماذا حدث (التعليل الفلسفي)».

و لقد كانت طبيعة الفكر في هذه المرحلة أسطورية وخرافية بحيث كان الإنسان يفسر ظواهر الطبيعة والتاريخ بعلل وأسباب مفارقة للطبيعة قد تكون الآلهة أو الشياطين أو الأرواح وما إلى ذلك من هذه المخلوقات غير المرئية، ومن هنا يمكن أن نجد تلك العلاقة بين الأسطورة والتاريخ الأسطورة باعتبارها شكل من أشكال الوعي التاريخي خارج نظام الزمن والتاريخ باعتباره معرفة بشرية واعية داخل نظام الزمن وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول أنه إذا كانت الأسطورة تؤرخ لزمن الآلهة الخالد فإن التاريخ أصبح يؤرخ لزمن الإنسان المتغير .

ومن هنا يمكننا أن نتساءل مع الأستاذ عبد الله العروي: «هل الأسطورة هي النمط الذي نسجت عليه الرواية التاريخية كما لو أن الإنسانية بدأت برواية أفعال الآلهة قبل أن تلتفت إلى أفعال الأبطال والملوك؟ هل الأسطورة تاريخ الشعوب الأمية والرواية التاريخية أسلوب تولد عنها في مجتمعات عرفت الكتابة» .

و لكن ما يلفت الانتباه حقا هو أن التقاطع الثقافي ليس محصورا فقط بين الأسطورة والتاريخ ولكن كذلك بين الأسطورة وفلسفة التاريخ باعتبار أن الأسطورة وفلسفة التاريخ يشتركان في هدف واحد وهو تفسير العالم، أي إعطاء بداية ونهاية للتاريخ مع الاختلاف فقط في الطريقة والمنهج بحيث أن الأسطورة لا تعني «بتتابع الأحداث بقدر ما تهدف إلى الكشف عن الثابت من خلال المتغير الغابر فهي وسيلة بالتالي لتغليب الثابت على المتحول (-) ومن هنا نفهم سر التشابه بين الأسطورة وفلسفة التاريخ بحيث نستطيع أن نقول أن هذه ورثت تلك بعد أن تبلور وعي الإنسان بالتاريخ».

إن هذا هو ما يمكن أن نقوله بصفة مختصرة عن علاقة الأسطورة بالتاريخ وبفلسفة التاريخ إلا أن التصور المنهجي والعلمي والفلسفي للتاريخ لم يبدأ إلا مع اليونان فلقد «أدرك المؤرخون اليونان أن البحث في علة الحدث التاريخي أمر ضروري وأن معرفة علل الأحداث التاريخية هو ما يؤدي إلى فهمها وهو ما يكشف عن دقة المؤرخ وعلميته».

وليس هناك مجال للشك في أن اهتمام المؤرخين اليونان بالعلل التي تقف وراء الأحداث التاريخية يرجع بالأساس إلى تأثرهم بالمنظومة الفلسفية اليونانية وهي منظومة مهمومة بمشكلة الأصل والعلة ولعل قول الفلاسفة الطبيعيين اليونان بالعلل الأربعة في تفسير الوجود(الماء، النار الهواء، التراب) لدليل على ذلك ,هذه العلل التي سوف يطورها أرسطو فيما بعد إلى علل فكرية ومبادئ عقلية كلية (المادية، الصورية، الفاعلة، الغائية) وعلى هذا الأساس فلقد استفاد المؤرخون اليونان من القضايا النظرية والفلسفية التي كانت تطرح في مجال العلم الطبيعي والميتافيزيقي والأخلاقي وفي هذا الإطار نجد المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي يلقب بأب التاريخ في طليعة المؤرخين الذين كانوا يتجاوزون بوعيهم النقدي التاريخ الحكائي إلى مستوى التاريخ العلمي أي التاريخ كأحداث قابلة للفهم من خلال معرفة أسبابها وعللها وإن كان هيرودوت لم يتجاوز في دراساته التاريخية حدود العلل القريبة فإن بوليبوس ارتقى معه الوعي بالتاريخ إلى مستوى الطرح الشامل والكلي للتاريخ، أي إلى فلسفة التاريخ وهذا من خلال بحثه في العلل البعيدة التي تقف وراء الأحداث يقول بوليبوس في هذا المعنى: «ماذا يفيد القارئ أن يخوض في حروب ومعارك وحصار واسترقاق الشعوب ما لم يكن يقصد إلى أن يذهب إلى ما وراء ذلك فيقف على الأسباب التي أدت إلى انتصار فريق وهزيمة الفريق الآخر في موقف بذاته كل على حدة».

إن هذا الطرح الفلسفي للتاريخ الذي يتجاوز ظاهره إلى باطنه هو الطرح النظري الصائب الذي يجعل الإنسان يفهم التاريخ وبالتالي لا يعارض القوانين العامة التي تحكم مساره وصيرورته.

إن الطرح الفلسفي للتاريخ يتوخى الشمولية والنظرة الكلية في معالجة أبحاثه وقضاياه وهذا بغض النظر عن تناول القضايا الجزئية التي لا تجد معنى لها إلا في إطار الكل ولقد تطورت فلسفة التاريخ بتطور وعي الإنسان عبر تحولات التاريخ وقد يكون هذا التحول نحو الأحسن أو نحو الأسوأ ولقد اختلفت وتضاربت آراء الفلاسفة في تعليل التاريخ: هل هو تقدم أم تراجع، تفاؤل أم تشاؤم ؟ وهذا التناقض والاختلاف يمكن أن نفهمه من خلال ربط فيلسوف التاريخ ببيئته الحضارية وانتمائه الثقافي والاجتماعي والديني وكذلك تحديات العصر التي واجهته وشكلت وعيه نحو وجهة معينة دون أخرى وبعبارة أخرى, إن فيلسوف التاريخ يعيش داخل التاريخ فهو نتاج هذا التاريخ على قدر ما يساهم هو نفسه في إنتاج التاريخ أي بناء وعي تاريخي جديد.

لقد اختلف تعليل الفلاسفة إلى التاريخ حتى أصبح التاريخ وجهات نظر متناقضة وهذا راجع إلى ذاتية واستراتيجية كل فيلسوف وماذا يريده من التاريخ حتى أصبح لكل فيلسوف نظامه المعرفي وجهازه المفاهيمي لأنه عندما نعلل التاريخ فهذا معناه أننا نعمل على «أن نكشف عن الصلة بين الأحداث من حيث أن بعضها علل وبعضها معلومات ويتطلب هذا منا اختيار الأحداث وترتيبها على صورة أنماط زمنية ومنطقية على السواء وتصنيفها بحسب مكانتها طبقا لمعايير تقدربها أهميتها وبإيجاز يتطلب منا استخدام المفهومات والفرضيات »،لكن رغم ذلك، أي محاولة ربط التاريخ بنظام معرفي تبقى ظروف الواقع هي التي تشكل العامل الأساس في العودة إلى الماضي وبناء المستقبل مجددا لذلك كان الفيلسوف الإيطالي كروتشه يقول دائما(إن التاريخ كله معاصر) فعندما سقطت روما مثلا وكانت امبراطورية عظيمة أرجع البعض ذلك إلى اعتناقها للمسيحية فانكب القديس أوغسطيس على نفسه ليدحض هذه الأسطورة فكتب كتابه الشهير (مدينة الله) هذا الكتاب الذي يدافع فيه عن المسيحية من خلال إعادة قراءة التاريخ الإنساني ككل وفق نظرية العناية الإلهية وعندما غزانابليون بجيوشه ألمانيا لم يجد هيجل من بد سوى ترديد الحكمة القائلة : (إن بومة منيرفا لا تبدأ في الطيران إلا عندما يرخي الليل سدوله) وهذا يعني أن الحكمة لا تلقى إلا في أحلك الأوقات وأن الأمم الحقيقية هي التي تولد من رحم المأساة والأزمات ونفس الشيء يمكن أن يقال عن ابن خلدون فعندما كانت الحضارة العربية الإسلامية تحتضر في نهاية القرن الرابع عشر أراد ابن خلدون أن يعرف أسباب التقدم والإنحطاط، أراد أن يفهم مأساة الحاضر من خلال العودة إلى الماضي باعتبار أن الماضي هو الذي جعلنا على ما نحن عليه في الحاضر وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقول أن:«الصورة التي نرسمها عن التاريخ تشكل عاملا في اختيارنا والوسيلة التي نفكر بها عن التاريخ تحدد إمكانياتنا، وهذا عن صلة الحاضر بالماضي أما صلتهما معا بالمستقبل فإنه لا يمكن للتاريخ أن يصل إلى مرتبة الوعي الفلسفي دون وعي بالمستقبل وهذا بدوره يثير الجزع على المصير ولا شيء من ذلك إلا في فلسفة التاريخ».

إن التاريخ إذا لم يكن بحثا في الأسباب والعلل واستشرافا للمستقبل والمصير فإنه من الأجدر بنا أن لا نقرأه أبدا.

 

الدكــتور قــادة جلــيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم