صحيفة المثقف

"البكاء على كتف الوطن" ليحيى السماوي .. هل الحياة مَهانة وتشرّد وسجون؟

هو في "أديلايد" وأنا في "سيدني". كان المفترض أن تجمعنا مناسبة أدبيّة في "تمّوز" الفائت. أيضاً جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وإنْ عوّضتْ بأن أقرأ في مجموعة "البكاء على كتف الوطن" وهي آخر إصدارات يحيى الشعريّة تعقب أربع عشرة مجموعة منها: "عيناك دنيا"، "قصائد في زمن السبي والبكاء"، "هذه خيمتي فأين الوطن" و"نقوش على جذع نخلة" كلّها تقريباً جامحة في رحاب الخليل المنسابة والهادرة والمستعيدة لصور وتراكيب لا تنضب مع عدم إغفال المستجد في المعاني.

ويتجوّل الشاعر يحيى في مجموعته الجديدة مثلما في بستان المواضيع، فيرقّ ويشفّ ويثور ويغضب: "أمرَ الهوى قلبي"، "يا هند"، "أوصيكِ بي شرّاً إذا خنتُ الهوى"، "كلّ عصر وله ربّ وهولاكو جديد"، "القتلى لا يحييهم الاعتذار"، "خليكَ في منفاك"، "مناشير ليست سريّة"، "الذئاب" وغيرها من القصائد التي عناوينها توطئة إلى آمال أو إلى آلام أو إلى أحلام أو إلى يأس أو إلى شمس فهو في الزمن الحاضر حيث:

 "لا الحسن البصريُّ في مسجده

 ولا الفراهيديُّ في مجلسه

 ولا الفتى عليُّ في المقامْ".

وحيث:

"يحدث أن يُقتَل عصفورُ

 لأنّ ريشَه

 ليس بلون جُـبّة الإمامْ"

 وحيث الدولة:

 تُقاد من سفارة ٍ

 إن عطس السفير في مخبئه

 أُصيبت البلاد بالزكامْ " ..

و حيث "أيجود بالعسل الذباب"؟. وحيث: "ما للنار تُثلجني"؟. وهو في زمن تُسبى بغداد مجدّداً على أيدي الأعداء الخارجيين والداخليين: اللصوص الكبار والصغار المسعورين على النفط والآثار والماء والنخيل والحضارة، ولذلك في خلفيّة قصائد كثيرة: "هولاكو" و"التتار" و"الأشرار" و"التجّار اللصوص" مثلما سؤال عن "المعتصم" و"الهلالي" و"سيف بن ذي يزن" و"عروة بين الورد" وغيرهم؟. وكم يزاوج الشاعر في نهج ثبّته سابقا بين "هند" أو "ليلى" والأرض - الوطن، وكم يحاول أن يستقرئ الذات، فأين الخلل؟ أهو في الأنذال الذين استحكموا وبطشوا؟ وما هو العمل؟ هل حياة في الذل والمهانة والتشرّد وأقبية السجون والجوع والعطش؟ وما هو العمل؟ وهل بديل عن الغضب؟ هل يجدي العتاب؟ "لا تعتبن فليس يجدي بالأبالسة العتاب" أم في خيانة و"حاشا غصوني أن تخون جذورها" وهل بديل مرّة ثانية عن الغضب؟.

 قصيدة "سادن الوجع الجليل" البائيّة التي تقع في 13 صفحة وقصيدة "خليكَ في منفاك" التي تقع في 7 صفحات عينا مجموعة "البكاء على كتف الوطن" المهداة "إلى فقيد المروءة ومكارم الأخلاق والأبجديّة الأديب العربي عبد العزيز التويجري ... اعترافاً بكوثر علم. هو القائل له : "أن يكون المرء ولو مجرّد عشبة في وطنه أثرى له من أن يصبح غابة في منفى فاتّخذْ من الفرات مداداً ومن السعفة قلماً واصنعْ لوحك من طين العراق واعلمْ أنّ أعذب الشعر أصدقه لا أكذبه".

الغلاف للفنّان عبد الله الشيخ. التنفيذ والطباعة: التكوين للتأليف والترجمة والنشر - دمشق.

هنا قصيدة من المجموعة:

سادن الوجع الجليل

 

عاتَبْتُ لو سمعَ القريبُ عتابي..

وكتبتُ لو قرأ البعيـدُ كتابي!

 

وسألتُ لو أنَّ الذين مَحَضْتُهُم

وِدّي أضـاؤوا حيرتي بجوابِ!

 

وَعَصَرْتُ ماءَ العينِ لو أنَّ الأسى

أبقى بحقلِ العمرِ عُشْبَ شبابِ

 

وَأنَبْتُ عني لو يُنابُ أخو الهوى

بسخينِ أحداق ٍ ونزفِ إهـابِ

 

وَتَرَنَّمتْ لــو لم تكن مشلـولةً

شفتي .. ومصلوبَ اللحونِ ربابي

 

كيف الغناءُ؟ حدائقي مذبــوحةٌ

أزهــــارُها .. ويبيسةٌ أعنابي

 

شجري بلا ظِلٍّ .. وكلُّ فصولـهِ

قيظٌ .. وظمــآنُ الغيومِ سحابي

 

طَرَقَ الهوى قلبي .. وحين فَتَحْتُهُ

ألقى به عصـــفاً وعودَ ثقابِ

 

حتى إذا كشَفَ الضحى عن شمسهِ

ألفيتُني ميتـــاً بنبضِ ثيــابِ

 

يتقاتل الضِـــدّان بين أضالعي:

عَزْمُ اليقــــينِ وحيرةُ المرتابِ

 

 

صُبْحي بلا شمــسِ .. وأما أنجمي

فَبَريقُ بارودٍ وومــــضُ حِرابِ

 

روحي تمصُّ لظى الهجــيرِ وَتَسْتَقي

شفتاي من دمـــعٍ ووهجِ سرابِ

 

أرفو بخيطِ الذكرياتِ حشـــاشةً

خَرَمَتْ ملاءَتَها نِصــــالُ غيابِ

 

الدارُ بالأحبابِ .. ما أفياؤُهـــا

إنْ أَقْفَرَتْ داري من الأحبــاب؟

 

عابوا على قلبي قنــــاعةَ نَبْضِهِ

أنَّ الردى في العشــقِ ليس بِعابِ

 

أنا سادنُ الوَجَـــعِ الجليلِ خَبَرْتُهُ

طفــلاً.. وها قـارَبْتُ يومَ ذهابي

***

 

صـــوفيَّةَ النـــيرانِ لا تترفَّقي

بيْ لو أتيتُكِ حامـــــلاً أحطابي

 

قـد جئتُ أستجدي لظاكِ.. لتحرقي

ما أَبْقَتِ الأيـــــامُ من أعشابي

 

أنا طِفْلُكِ الشيـخُ.. ابتدأتُ كهولتي

من قبــلِ بـــدءِ طفولتي وشبابي

 

لَعِبَتْ بي الأيـــــامُ حتى أَدْمَنَتْ

وَجَعي.. وَخَـــرَّزَتِ العثارُ شِعابي

 

يحدو بقافلتي الضَـــــياعُ كأنني

للـحـزنِ راحٌ والهمـــومِ خوابي(1)

 

إنْ تفتحي بــابَ العتـــابِ فإنني

أَغْلَقْتُ في وجـــــهِ الملامةِ بابي

أهواكِ؟ لا أدري.. أَضَعـْتُ بداهتي

وأَضــاعني في ليــــلهِ تِغْرابي

 

كلُّ الــذي أدريـــهِ أني بَذْرَةٌ

أَمّا هــواكِ فجـــدولي وتُرابي

 

نَزَقي عفيفٌ كالطـــفولةِ فاهدئي

أنا طفلكِ المفـــطومُ.. لا ترتابي

 

الشيبُ؟ ذا زَبَــدُ السنين رمى به

موجُ الحيــــاةِ على فتىً متصابي

 

"ستٌ وخمسون" انتهين وليــس من

فرحٍ أُخيــــطُ به فتوقَ عذابي!

 

الدغل والزُقّــــومُ فوق موائدي

والقيـــــحُ والغِسلينُ في أكوابي(2)

 

أحبيبة الوجــــع الجليل مصيبتي

أن العــــراق اليومَ غابُ ذئابِ

 

لو كـــــان يفتح للمشردِ بابه

لأتيتُهُ زحــفــــاً على أهدابي

 

وطويتُ خيمةَ غربتي لو أنهــــا

عَرَفَتْ أمانــاً في العراق روابـي

 

أوقفتُ ناعـوري على بستانِـــهِ

وعلى دجــــاهُ المستريب شهابي

***

 

عانَقْتُها فتوضَّأتْ بزفيرِهـــــا

روحي.. وعطَّـــرني شميمُ خضابِ

 

كادت تَفرُّ إلى زنابقِ خصرهـــا

شفتي فـــــرارَ ظميئةٍ لشرابِ

 

سكرتْ يدي لمّــا مَرَرْتُ براحتي

ما بينَ موجِ جــــدائلٍ وقِبابِ

 

وحقولِ نعناعٍ تَفَتَّحَ وردهــــا

وسهولِ ريحـــانٍ وَطَلِّ حُبابِ(3)

 

لُذْنا بثوبِ الليلِ نَسْترُ شوقنـــا

من عين مُلتصٍّ ومن مرتــــابِ(4)

 

فشربتُ أعـــذبَ ما تمنّى ظامئٌ:

شهدٌ غَسَلتُ بهِ مُضاغَ الصّــابِ(5)

 

يا أيها المجنونُ – صاحَتْ- دَعْكَ من

تُفـــــاحِ بُستاني وَزِقٍّ رضابي

 

جَرَّحْتَ فستــاني فكيف بزنبقي؟

فَأَعِــــدْ عليَّ عباءتي وحِجابي

حتى إذا نَهَضَ المُكِّبرُّ .....والدجى

فَرَكَ العيونَ ولاحَ خيـطُ شِهابِ

 

وتثاءَبَ القنديلُ ... وابتدأ السنـا

عريانَ مُلْتَفّــاً بثــوبِ ضَبابِ

 

صَلَّتْ وصلَّيتُ النوافلَ مثلَهــا

وبسطتُ صَحْنَ الروحِ للوهّـابِ

***

 

خوفي عليَّ – وقد تَلَبَّسَني الهـوى-

مني.. ومنكِ عليكِ يومَ حسـابِ

 

إنْ كنتِ جاحـدةً هوايَ فهاتِـني

قلبي وتِبْرَ عواطـفي وصــوابي

 

نَمْ يا طريدَ الجَّنتينِ معـــانقـاً

خالاًً يشعُّ سناهُ بين هضـــابِ

 

عَرَفَتْكَ مخبولاً تُقايضُ بالنـــدى

جمراً وكهفَ فجيعــةٍ برحـابِ

***

أصحــابَنا في دار دجلةَ عذرَكمْ

إنْ غَرَّبَتْ قدمـــاي يا أصحابي

 

جَفَّتْ ينابيعُ الوئــامِ وأّصْحَرَتْ

بدءَ الربيعِ حـدائق اللبــلابِ

 

أحبابَنـا.. واسْتَوْحَشَتْ أجفانَها

مُقَلي وشاكسَني طريقُ إيابــي

 

أحبابَنا عَزَّ اللقــــاءُ وآذَنَتْ

شمسي قُبيـلَ شروقِهـا بغيـابِ

 

أحبابَنا في الدجـــلتين تَعَطَّلَتْ

أعيــادُنا من بعــدكم أحبابي

 

ندعو ونجهل أَنَّ جُلَّ دُعائِنـــا

منذ احترفنـا الحقـدَ غيرُ مُجابِ

 

نَخَرَ الوباءُ الطائفيُّ عظامنـــا

واسْتَفْحلَ الطاعونُ بالأربــابِ

 

عشنا بديجورٍ فلمــا أَشْمَسَتْ

كشفَ الضحى عن قاتلٍ ومرابي

 

ومُسَبِّحينَ تكــاد حين دخولهم

تشكو الإلهَ حجارةُ المحــرابِ

 

ومُخَنَّثين يرون دكَّ مــــآذنٍ

مجداً ... وأنَّ النصرَ حزُّ رقـابِ

               

واللاعقين يدَ الدخيلِ تضرّعاً

 لنعيم كرسيٍ بدارِ خرابِ ...

 

 جيفٌ - وإنْ عافتْ عفونة لحمِها

أضراسُ ذئبانٍ ونابُ كلابِ...

 

وطنَ الفجيعة ِ والشقاء ألا كفى

صبراً على الدُخــلاءِ والأذنابِ

 

 شوقي مسلماني - سيدني / استراليا

 

....................

1 الخوابي: دنان الخمر وما شابه ذلك

2 الغسلين: ما يسيل من أجسام أهل النار.

3 الطل: اللذيذ من الروائح والنعم.

4 الملتص: مسترق السمع

5 الحباب: بضم الحاء: الحب والود. وبفتح الحاء: ما يعلو الماء أو الخمر من فقاقيع. الصاب: نبت شديد المرارة.

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم