صحيفة المثقف

في الشِّعر وموسيقاه

abdullah alfifiلا تبدو إشكاليَّة الشِّعر اللهجي في لغته فحسب، ولكنَّها كامنةٌ في العَروض كذلك.  فبِنْيَة النصِّ من هذا النوع من الشِّعر خَرِبة، كجُحر ضَبٍّ، بمقاييس العربيَّة الفُصحى. ولهذا تجد الشاعر اللهجي يُضطر إلى ترقيع بناء النصِّ موسيقيًّا بأيِّ صوتٍ إضافيٍّ، ليتلئبَّ له الوزن وتستقيم القافية.  ثمَّ تزيد الطِّينَ بلَّةً كتابةُ ذلك الشِّعر في العصر الحديث؛ فأنت لا تستطيع تمييز الوزن طِبق نسجه الصحيح إلَّا سماعًا غالبًا، بأن تكون قد سمعت النصَّ من قِبَل قائله، أو لك معرفة بهذا الشِّعر في هذه اللهجة أو تلك، أو بالأحرى كنت من أبنائها.  وفوق ذلك لا بُدّ لك أن تكون شاعرًا عامِّيًّا، أو عالمًا بصيرًا بأوزان الشِّعر العامِّي، لتميز مستقيمه من معوجِّه.  من أجل هذا تصبح كتابة الشِّعر العامِّي عبثًا في عبث، وإنما هو شِعرٌ يُسمَع، ولا يُقرأ. 

ـ2ـ

على أن الحاجة إلى عِلْم العَروض، حتى للشعراء، قد بدت منذ وقتٍ مبكِّر في تاريخ العربيَّة، كما بدت الحاجة إلى عِلْم النحو للشعراء وغير الشُّعراء منذ وقتٍ مبكِّر كذلك.  ولولا ذلك لما قال (أبو تمَّام)، وهو من هو:

يَقولُ فَيُسمِعُ ويَمشي فَيُسرِعُ  **  ويَضرِبُ في ذاتِ الإِلَٰهِ فَيوجِعُ

فكسَّر البحر الطويل تكسيرًا.  حتى كأنه قد جعل الشطر الأوَّل بيتَين من منهوك الطويل:

يَـقـولُ فَـيُسْــمِعُ

ويَمشي فَيُسْرِعُ

والمنهوك لم يكن في الطويل قط.  حتى إن (الآمدي)(1) لمَّا وقف على هذا البيت بخلله العَروضي، لم يلتفت إلى الخطأ الأكبر فيه، وهو استعمال زحاف (الكفِّ) في التفعيلة الثانية؛ فأصبحت (مفاعلُ)، وإنَّما انصبَّ انتقاده على (القبض)، مع أن القبض زحافٌ حَسَنٌ في (فعولن)، صالحٌ في (مفاعيلن)، وإنْ ثقُل البحر بتواليه.  وقد جاء في معلَّقة (امرئ القيس):

إذا قا[متا تضـوَّ]عَ المِسْكُ منهما  **  نسيمَ الصَّـبـا جاءتْ بِرَيَّا القُرنفلِ

وكذا قوله:

ألا رُبْ[بَ يـَوْمٍ لـ]كَ مُنْهُنَّ صالحٍ  **  ولا سِيَّـمـا يَوْمٌ بِدارةِ جُلْجُـلِ

وقول (الأعشى)(2):

وأَمَّا إِذا ما أَوَّبَ المَحلُ سَرحَهُمْ  **  ولاحَ [لَهُم مِنَ الـ]ـعَشِيَّاتِ سَملَقُ

أمَّا الكفُّ، وهو الزحاف القبيح في بيت أبي تمَّام، فلم يلتفت الآمديُّ إليه! 

ـ3ـ

هذا على الرغم من أن الآمديَّ كان يبالغ في تتبُّع أبي تمام في ما لا يُعاب عليه عَروضيًّا.  مثل موقفه من بيته:

إِلى المُفَدَّى أَبي يَزيدَ الذي  **  يَضِلُّ غَمْرُ المُلوكِ في ثَمَدِهْ(3)

والبيت من البحر (المنسرح).  ووزن المنسرح (مستفعلن/ مفعولاتُ/ مستفعلن)، يحسُن دخول (الطَّيِّ) في مستفعلن ومفعولات منه، ويصلُح (الخَبْن) في مستفعلن، ويقبُح في مفعولات، كما يقبُح الجمع بين الخَبْن والطَّيِّ في تفعيلةٍ واحدةٍ من هذا الوزن.  ولم يتجاوز أبو تمَّام في زحافات بيته ما يحسن منها وما يصلح.  غير أن الآمدي حاول أن يؤسِّس قاعدةً من عنده، هي أنْ لا يُكثر الشاعر من الزحافات في البيت، وإنْ كانت جائزة، حسنة أو صالحة.  وهذا ما لا نجده في اشتراطات العَروضيِّين.  بل إن بعض الزحافات حَسَنٌ استعماله، يزيد به جمال البيت موسيقيًّا على صورته لو جاء صحيح التفعيلات. باستثناء حالات، منها ما استخدموا فيه مصطلحات، مثل:

1) مصطلح المُراقبة: وهو تجنُّب اجتماع زحافَين في جزأين متجاورين من تفعيلة واحدة، كالخَبْن والطَّيِّ، الذي يسمُّونه (الخَبْل)، في مُسْتَفْعِلُن، فتصبح: مُتَعِلُن.  وذلك لحدوث ما يسمِّيه العَروضيُّون (المكانفة)؛ بحيث تكتنف التفعيلةَ الزحافاتُ، فتثقُل.

2) مصطلح المُعاقبة: تجنُّب تجاوُر زحافَين في جزأين متجاورين من تفعيلتين متعاقبتين، كالكفِّ في «فَاعِلاتُن» في (عَروض المُجتثِّ)، والخَبْن في «مُسْتَفْعِلُن» (أوَّل شطره الأخير)، فتصبحان: «فَاعِلاتُ/ مُتَفْعِلُن».

وسبب منعهم هذه الصور الزحافيَّة لاستثقال أن تتوالَى المتحرِّكات؛ من حيث إن الإيقاع الموسيقي مبنيٌّ أصلًا على تخلُّل السكونِ للحركات.

بل يدَّعي (الآمدي)(4): أنك «لا تكاد ترى في أشعار الفصحاء والمطبوعين من الشعراء من هذا الجنس شيئًا [أي ممَّا جاء في بيت أبي تمَّام السابق من زحاف]»!  وهذا جهلٌ أو تجاهل.  بل ترى منه الكثير، كما رأينا في الأمثلة، منذ امرئ القيس، وهو ما قرَّر (الخليل) وتلاميذه حُسنه أحيانًا أو صلاحه، خلا الحالات المستثناة التي أشرنا إليها.  وقد أغرق الآمدي في الادعاء حين استعمل «لا تكاد»، ولو أنه قال «لا ترى»، أو «تكاد لا ترى»، لكان الخطب أيسر، لكنك «لا تكاد ترى»!  ثمَّ جعلَ استعمال الزحافات على هذا النحو «جنسًا» قائمًا بذاته عند أبي تمَّام: «هذا الجنس»!  ولا جَرَمَ أنَّ مَيل الآمدي عن أبي تمَّام هو الذي كان يأخذ بتلابيبه إلى مثل هذه المزالق الفجَّة، مع ادعائه النظري في مقدمته أنه سيُجري موازنةً منصفةً بين شِعر الطائيَّين، أبي تمَّام والبحتري. 

إن عِلْم العَروض ضرورة فنيَّة للشاعر ونقديَّة للناقد، لكنه قد يصبح سلاح المتنطِّعين، والمغرضين، يُصلتونه على رقاب الشُّعراء، فإنْ امتشقوه بجهل أو غفلة، زادت المذابح الفنيَّة، ونفر الناس من موسيقى الشِّعر كما نفروا من قبل من نحو اللغة! 

ـ4ـ

وأمَّا في الشِّعر اللهجي (العامِّي)، فأنت واجدٌ هؤلاء الذين يكتبونه يرتكبون أخطاء إملائيَّة، وعَروضيَّة، فوق مسائل اللغة والنحو التي أصبحت لديهم في خبر كان؛ منذ اغتسلوا من أوزار العربيَّة وعلومها، راضين بسقف لغتهم الفطريَّة كما رضعوها من أثداء مرضعاتهم.

 

أ. د. عبد الله بن أحمد الفيفي

................................

 (1)  انظر: (1992)، الموازنة بين شِعر أبي تمَّام والبحتري، تحقيق: السيِّد أحمد صقر (القاهرة: دار المعارف)، 1: 307. 

(2)  (1950)، ديوان الأعشى الكبير، شرح: محمَّد محمَّد حسين (مصر: المطبعة النموذجية)، 225/ 56.

(3)  انظر: الموازنة، 1: 308. 

(4)  م.ن، 1: 309.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم