صحيفة المثقف

التمثال أكرم منا جميعاً!

mohamad sayfalmoftiفي الساعة السادسة مساء  بدأت رحلتي بالطائرة من مدينة تروندهايم عائدا الى اوسلو بعد أن قدمت محاضرة تتعلق بسلوكيات الاجئين والنازحين بعد تعرضهم للعنف والارهاب المبرمج، كما يحدث في العراق، سوريا، السودان واليمن وبقية دولنا التي أصبحت مفردات الحياة فيها تتسم بالارهاب، وبمجرد جلوسي في مقعدي بجانب الشباك جلس شخص آخر في المقعد البعيد، واغلق بعد ذلك باب الطائرة فعلمت أن المقعد الوسطي سيبقى فارغا. اتصلت بزوجتي لأبلغها ببداية الرحلة التي تأخرت لأكثر من ساعة بسبب سوء الاحوال الجوية حيث كانت الطائرة تستحم بسائل مانع الصقيع. وبمجرد أن أغلقت التلفون سألني هذا النرويجي الاشقر ذو العيون الزرقاء.

- هل تحدثت بالعربية؟ ابتسمت وأجبت بنعم . ابتسم لأنه أصاب بتوقعه.

قال لي أنه يحب العراق وكردستان، وأن والده يعمل في قطاع النفط وقد عمل في العراق سابقا وفي السنوات الاخيرة، قاطعته فرحا " أنا من العراق"  واسهب بعد ذلك في شرح تاريخ " مهد الحضارات "، كلمة ذكرها في كل مرة ذكر فيها اسم  العراق. كنت معجب بمعلوماته الواسعة عن عراقنا، معلومات لا يعرفها الكثيرين من ابناء العراق. سألته عن سبب اهتمامه بالعراق؟

اجابني مؤكدا على كل كلمة في جملته " هذا ارثنا الثقافي وتاريخ حضارة العالم" ثم سألني

- و أنت، من اي مدينة العراق؟

- من الموصل.

فتح عينيه على وسعها وقال

- نينوى، التي غزتها الدولة الاسلامية، أمر مؤسف.

- فعلا مؤسف، وقد كنت في العراق في فترة تحريرها، ومع الاسف الخسائر فادحة بالارواح والبنية التحتية.

ثم بدأ يشرح لي من أين جاءت كلمة نينوى، وكيف أنها مذكورة في الكتب القديمة. شرحت له بعضا من جوانب محاضرتي الاخيرة التي القيتها في محافظة Buskerud وبحضور الكادر العامل مع اللاجئين من 18 بلدية، وكان معي الحاسوب ففتحته. في البداية تناولت محاضرتي التأثير النفسي والطرق التي استخدمتها داعش في السيطرة على الناس وكيفية تركيعهم والبطش المسرف من اجل الحصول على الطاعة المطلقة. لم يكن السيد توماس الذي يعمل في النفط على خطى ابيه مهتما بهذا الموضوع فاستعجلني بالسؤال

- هل تحدثت عن آثار نينوى والموصل؟

- نعم كانت هذه هي الفقرة الرابعة من المحاضرة.

- ارجو أن تنتقل اليها.

سألني عن الحضر فقدمت له بعض الصور عنها وعن النمرود، بدأ وجهه يحمر ويحتقن، فقال لي "حقا وحوش" في نفس هذه اللحظة ظهرت صورة الداعشي الذي يقطع الثور المجنح بـ ( الكوسرة). هنا صرح بحزن شديد

- يا الهي، ما أكبر خسارة العالم. هل تعلم أن كل من يجلس في الطائرة هو خاسر كبير. لقد خسر كل شخص في هذا العالم تاريخه.

أخذ منشفة ووضعها على عينيه. ثم رفعها وسألني عن الحضر؟ شرحت له أنها تفجرت واجزاء كثيرة من آثار المنطقة أصبحت نسيا منسيا، احتقن وجهه من جديد.

- اريد أن اسألك سؤلا مهما، ماذا حدث بالآثار الاسلامية في المتحف.

و ترقب اجابتي بشغف شديد.

- كان لي صديق مهتم جدا بالآثار مثلك، لذلك ذهب الى متحف الموصل الذي استخدمته داعش لفترة من الزمن كديوان للحسبة مع صديق له معاملة ليعاين المتحف بنفسه، وشاهد الآثار السومرية والآشورية المحطمة بالقرب من المدخل، فسأل أحد الدواعش. هل حطمتم كذلك الآثار الاسلامية. أجابه الداعشي بصوت أجش. " هذه تماثيل يا عبد الله" ونظر اليه بريبة . أجابه هذا الصديق " دولة الاسلام باقية وتتمدد". وبكى بعد خروجه من هناك. أعلن الطيار عن موعد هبوطنا القريب.

احتقن وجه توماس وقال بأسى

-  قاتلهم الله، يا لقلوبهم القاسية، يقطعون التماثيل بالكوسرة ويحطمونها بالمطارق الثقيلة.

تحرك خطوتين الى الأمام ناديته

- توماس الثماثيل بلا لحم ودم.

نظر توماس مستغربا من طرحي، فشرحت له.

- هناك أناس شاهدوا ابائهم وابنائهم  يقطعون ويسحقون بطريقة أسؤا من التماثيل بألف مرة.

أجابني وكان على يقين من أن إجابته ستقنعني.

- الآثار لا يمكن بنائها من جديد.

- كذلك الانسان لا يعوض، أنت حزين لما تعرض له التمثال، وهناك آلاف من البشر تعرضوا لما تعرض له التمثال وببشاعة أكبر. التمثال لا يحتاج لعلاج نفسي بينما الانسان بحاجة الى الحب والتأهيل والتعويض، ولم يفكر به أحد.

سار خطوتين والتفت الي قائلا بنبرة ندم واضحة "  آسف الانسان قبل التمثال، لكن الحكومات والصحافة والاعلام جعلونا ننسى قيمة الانسان" أجبته " وكذلك أنا اشعر بالحسرة عندما أرى المنظمات العالمية والحكومات تهتم بحطام الآثار أكثر مما تهتم بحطام البشر من ابناء الشعوب التي قهرها ونخرها الارهاب والفساد.

هز رأسه موافقا " نعم .. نعم الحكومات والصحافة والاعلام" وهز رأسه ثانية وقال الجميع ضحايا، إسأل المستفيد، ولا تبحث عن شماعة أخطاء" وسار ليتركني مع هذا السؤال الكبير . من هو المستفيد، الفاسدين؟ السياسيين؟ مصادر صنع القرار؟ سمعت رجلا يحدثني بصوت خجل.. "عفوا" التفت اليه فأشار الى الامام وسألني مبتسماً " ألا تنوي الهبوط من الطائرة؟ نظرت الى طابور الناس المحصور خلفي والطائرة خالية تماما أمامي .. سحبت حقيبتي وحملت افكاري المتضاربة، وقلت في نفسي " مسكين أنت أيها العراقي ضائع في كل مكان" التفت ثانية فوجدت الطابور يضحك فضحكت معهم.......

 

محمد سيف المفتي  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم