صحيفة المثقف

الفنانون العرب وازمة الهوية

khadom shamhod2ليس هناك اليوم في عالمنا المعاصر الدنيوي شيء مقدس فالكل قابل للنقد والتحليل والاصلاح سواء كان ذلك على مستوى الاشخاص او كتب المعرفة او التاريخ او الفقه او الادب او الفن او البحوث العلمية، فكل شئ في تطور وتجدد، ومنها التراث فهو ليس مجالا للتقديس والخنوع والسيطرة والتكفير والتحجر، نعم يمكن ان يكون قاعدة للانطلاق الى فضاءات اوسع للمعرفة والخلق والابداع ورحابة الحرية والتعايش مع الآخر ..

وقد نشأت علاقة جدلية بين ما هو يعني بمسألة الاصالة والهوية وما بين الانفتاح على الآخر والتبادل في المجلات الثقافية والفنية . ويشير الاستاذ شاكر حسن الى موقفين اساسيين في هذا المجال وهما الموقف الانساني التقليدي الكلاسيكي وكل حيثياته الابداعية بالمحافظة على التقاليد الفنية القديمة، والموقف الثاني هو البحث عن الشخصية الحضارية من خلال الالتقاء بالحضارات الاخرى والاستفادة منها، والذي بدأ ذلك واضحا في مطلع القرن التاسع عشر ..

و بالتالي فالماضي يمثل ذاكرة فكرية ومادية او ما يطلق عليه بالتراث، وهذا الخط التزمت به الاحزاب القومية والعروبية (السياسية) ورفضت الاندماج بهوية القوميات الآخرى خوفا من ضياع الهوية فاصبح الفنان يتأرجح بين الحداثة المعاصرة وبين الهوية والاصالة . وفي نفس الوقت خلقت لنا ازمة في الهوية ..

و في هذا الصدد احب ان انقل نص للاستاذ نجم الدين الدرعي المنشور في صحيفة الحوار المتمدن نشر في 14/3/2013 (الشرقاوي والغرباوي وجواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد، هيأوا لنا تركيبة جاهزة للدخول في مشروع متذبذب بين حداثة فضفاضة وجسد مريض ورثناه بدون وصفة طبية ولا تحليل مخبري ... ..) . اذن هنا ظهر نوع من الاشكالية و التوتر للفنانين العرب ما بين ماهو تراثي وما هو حداثوي ادى بالكثير الى نوع من التوفيقية حيث دمج عناصر حداثوية مع رموز تراثية، وعد ذلك فنا عربيا؟؟؟ .

الفنانون العرب والفن العربي:

هل هناك فرق ما بين الفنانين العرب وما يسمى افتراضا (الفن العربي)؟؟ نحن اليوم نعيش ظاهرة الشتات بمعنى ان الغالبية من الفنانين العرب هم بعيدون عن بلدانهم واستوطنوا في اوربا وامريكا والتي شهدتا حركة الفن الحديث منذ بداية القرن العشرين وقد تأقلموا وتأثروا بالبيئات الجديدة ولكن بقى العراقي عراقي والسوري سوري والمصري مصري وبقت الجينات الاصلية ثابتة لم تتغير . غير انهم اكتسبوا هوية جديدة في اللغة والثقافة والاساليب الفنية الحديثة ونظروا وكتبوا والفوا الكتب، في مجال الفكر والفن الحديث، وهؤلاء يمكن ان نطلق عليهم بالفنانين العرب .

نحن نتمنى ان يكون هناك وعي وطرح عقلاني في مسألة(الفن العربي) الذي لازال البعض يكتب فيه وينظر بشكل عاطفي مفرط؟؟ كما اتمنى ان لا يخلطوا بين الفن الاسلامي و(الفن العربي) كما وقع فيه الدكتور عفيف البهنسي والاستاذ شاكر حسن آل سعيد تعاطفا وارضاءا للحكام والاحزاب القومية والعروبية . حيث طبعت كتبهم ونزلت في جيوبهم الاموال، ولا نعرف هل هم مجبرون على ذلك او من ارادة ايمانية وذاتية؟؟ فقد كانا يتحدثان عن خصائص ومميزات الفن الاسلامي ولكنهما يصفانه بالفن العربي؟؟؟ . في الوقت الذي يذكر شاكر حسن (فلم تحدث نهضة ثقافية حقة في الرسم او النحت (في العراق) الا في الاربعينات (من القرن العشرين) اما قبل ذلك فان فنون الرسم الشعبي على الجدران وماتحت الزجاج كانت اكثر اصالة من تقاليد الرسم على القماش ..) كما يذكر بان الفن العراقي قبل عقد الثلاثينات يكاد ان يكون مجهولا . .. ومن جانب آخر يذكر الاستاذ نوري الراوي (ولاول مرة ظهرت بوادر تلك الاسلوبية الجديدة في تأليف اللوحة الفنية في الصور الشخصية التي رسمها فائق حسن لامه عام 1942 كما ظهرت لوحات اخرى له ولجواد سليم .... الذين وضعوا حين اقبلوا على هذه التجربة قلوبهم على ايديهم واقتحموا آخر حاجب تقليدي وضعه الفن الاتباعي في طريقهم، وقد افلحت هذه التجربة البسيطة في ترسيخ سيما عراقية ذات مداليل غربية .) .

فاذا كان الفن العراقي مجهول الهوية في القرون العثمانية الماضية والمدونات معدومة وكتب التاريخ غير موضوعية ولا تملك المصداقية في الاعتماد عليها، وان التأثيرات الفنية قد وفدت الى العراق وبلدان العالم العربي من الغرب اذن كيف يمكن ان نكون مدرسة عراقية او عربية في عصر العولمة واختلاط الثقافات .. وبالتالي نحن امام فن الحداثة الذي دفع الفنان العراقي الى تقليد الفن الاوربي وهناك محاولة في استلهام التراث الحضاري كما فعل شاكر حسن في استخدام الحروفية وجواد سليم في الاستعانة بمفردات من مدرسة الواسطي .. وهي محاولات فضفاضة حسب قول الاستاذ نجم الدين الدرعي الذي ذكرناه سابقا . واتذكر قول لجواد سليم في احد مذكراته بان ليس هناك مدرسة عراقية في الرسم او النحت وانما هناك فن عالمي .

وهنا يترشح لنا على ان التقاليد الفنية الكلاسيكية القديمة كانت هي السائدة في القرون الماضية ويصفها فائق حسن بالفنون الشعبية الاكثر اصالة .. كما ذكر شاكر ان الفنون في العراق كانت متأثرة بالفن الفارسي والتركي والرافدي والغربي وان احتلال العراق من قبل الفرس والاتراك ساهم في تعميق هذه التأثيرات .. وفي نفس الوقت يتكلم عن الفن القومي والفن العربي ..؟؟ ولكن ربما شاكر اراد ان ينظر لشيئ غير موجود او رؤية مستقبلية . في وقت يستحيل ذلك بعدما تعمق الاختلاط الثقافي والانساني . وهذا يذكرنا بعصري الدولة الاموية والدولة العباسية، الاولى اخذت منهج القومية والتعصبت لها واعتبرت غير العرب من الدرجة الثانية، بينما جاءت الثانية كرد فعل مناقضا للاولى فاختلطت الامم والثقافات والتقاليد الفنية ونتج عن ذلك العصر الذهبي للامبراطورية الاسلامية في الفن والادب والشعر والفلسفة وجميع صنوف المعرفة .

الفن التوفيقي:

 نعم هناك فن توفيقي كما ذكرنا ذلك سابقا او يمكن ان نطلق عليه بالفن المحلي، مثلا يرسم في اسلوب غربي ويضع امرأة ترتدي العباءة او يرسم شناشيل او رموز تراثية اخرى ، وكذلك الفنان المصري يضع بعض الرموز الفرعونية باسلوب غربي وهكذا ... واتذكر قول للاستاذ الناقد والاديب جبرا ابراهيم جبرا: باننا لا ضير ان نأخذ من اساليب الغرب ومختلف انماط الابداع ما داموا هم قد اخذوا منا الفنون الشرقية في الزخرفة واللون والتبسيط ..

وحتى مدرسة بغداد التي تزعمها الواسطي اطلق عليها البعض بالمدرسة السلجوقية لان المتبحر في سحنات الوجوه يجدها مدورة والانوف قصيرة والعيون لوزية والقامات قصيرة . ويمكن ايضا نشاهد ذلك في رسوم قصر الخاقاني في سامراء ايام الخليفة المعتصم .. ولكن مع الاسف هناك عيون عمياء مثلما هي القلوب التي انجرفت وراء التعصب وتركت الموضوعية في الحكم . نحن اليوم بحاجة الى تصحيح المدونات واعادة كتابتها على اسس موضوعية دون تعصب او تحيز بعدما اجتاحت موجة العولمة العالم ودخلت ثقافة الشعوب الى المنازل . نعم نحن نتمنى ان تكون هناك مدرسة عربية لها خصوصياتها وسيماتها ونظرياتها الفكرية التي تبرر وجودها، ولكن اين هي وماهي صفاتها؟؟؟

سابقا كان هناك في حضارة العراق الفن الآشوري الذي اكتسب خصوصيته ومميزاته انفرد بها عن الآخرين، وكذلك الفن الفرعوني والفن الروماني والفن الصيني والفن الاسلامي والفن الافريقي والى غير ذلك .. لقد كانت ارض العراق ولازالت حافلة باختلاط متنوع من الثقافات والاديان والاجناس والقوميات ويظهر ذلك في لغتنا وتقاليدنا وعلاقاتنا وغيرها، يضاف الى ذلك الثقافات المعاصرة التي جائت مع عصر التكنولوجيا وشبكة التواصل .

و يذكر الفنان السوري الاستاذ محمود حماد 1923 وهو من الرواد، بان الفنانين العرب الذين درسوا في الخارج وعادوا الى بلدانهم اصبحوا يلقنون تلاميذهم الفن الغربي وهنا خلقوا ازمة حقيقية في الهوية ..

الهوية الكونية:

لما كانت الهوية تعني بانها ناتجة عن البيئة والمحيط الجغرافي والواقع الذي يعيشه الفنان وما خزنته الذاكرة من افكار وتقاليد وعادات وتراث وتاريخ والى غير ذلك، اذن اليوم نجدها متعددة بحكم حركة الانسان وانتقاله من بلد الى آخر واستيطانه في جغرافيات ومجتمعات بعيدة عن وطنه الاصلي، وقد فرضت عليه الاندماج وتعلم لغات وثقافات اخرى . وبالتالي اثرت تلك على الابداع الفني ورسمت له ملامح خضعت للمتغيرات الجديدة .

اليوم اصبح مفهوم الهوية شامل عام بعد موجة الهجرة الكبيرة وحركة الديموغرافية بين الشعوب خاصة في اوربا . كما نشهد تسارع في التحولات من عولمة الانظمة وثورة المعلومات والانفتاح على الآخر، بحيث اصبحت هناك عوامل خارجية ساهمت في تغيير الهوية وتجديدها . .. بعض المخاوف طرات على عدد من الافراد والجماعات المستوطنة في الخارج دفعتهم لتأسيس عدد من المراكز الثقافية والدينية في اوربا محاولة منهم للحفاض على الهوية الاصلية .. نحن اليوم امام هوية كونية فرضها تطور الانسان في جميع المجالات التكنولوجية والعيش في عالم موحد كقرية صغيرة نتواصل بشكل مستمر ونبني هويتنا ونجددها باستمرار، فكل شئ قابل للتغير ما عدا الجينات . اما التعصب للهوية والتحجر يؤدي ذلك الى الجمود والتخلف ومعادات الآخر بينما الاختلاط والانفتاح يبني حياة متطورة ومتجددة وغنية الثقافة ... وقد كان التعصب للهوية خلق المانيا النازية وتفوق الجنس الآري على غيره فدمر هتلر اوربا . ودمر جمال عبد الناصر العرب ودمر صدام حسين العراق ودمر الصهاينة فلسطين ... الخ .

مدرسة باريس:

في بداية القرن العشرين قدم الى باريس عدد كبير من الفنانين والادباء الشباب من مختلف البلدان الاوربية وقد خلقوا ثورة عارمة وانقلابا على كل الموروث الفني والثقافي القديم وانشأوا مدارس ومذاهب فكرية وفنية جديدة قطعوا فيها الصلة بالماضي، هؤلاء كانوا ينتمون الى هويات واصول وثقافات متعددة ومختلفة من ايطالية، واسبانية، وروسية، وهولندية وفرنسية، وغيرها .. فهل هؤلاء سألوا عن الهوية القومية او الوطنية ام كان همهم الفن التشكيلي والحداثة والفكر الانساني العام؟؟؟ واين هي الهوية الايطالية او الاسبانية او الروسية في الفن الحديث؟؟ ولهذا فقد ذابت الهوية القومية في الهوية الانسانية حيث اشترك الجميع في نشأت المدارس الحديثة وابداعها .. وهذا يذكرنا بالفن الاسلامي الذي اشتركت في بناءه وظهوره امم ومجتمعات لها تقاليد ولغات وثقافات مختلفة وتراث فني عريق .. ... تحياتي

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم