صحيفة المثقف

ولادة يسوع المسيح الإعجازية بين الإيمان والحقيقة والاسطورة!

تحل علينا في هذه الايام، ذكرى الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية، وبهذه المناسبة الجميلة، اتقدم الى جميع الاخوة المسيحيين باجمل التهاني القلبية، مع اطيب الاماني للجميع بدوام السعادة والسرور والسلام.

في سرديات التاريخ الانساني، تتكرر ظاهرة الولادة الاعجازية لمجموعة من الابطال في تراث الكثير من الامم، وهذه الظاهرة كانت متواجدة بشكل لافت في التاريخ القديم، فنجد هناك اشخاص كانت ولادتهم بغير الطرق التقليدية، اما عن طريق الولادة العذرية، او عن طريق الولادة بدون تدخل بشري، وهؤلاء الاشخاص تحولوا الى رموز دينية واحيانا قومية، ومنهم من تحول الى نصف اله او اله كامل!

والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أوزوريس، وحورس، وميترا، وهيراقيلس، واتيس، وكريشنا وغيرهم

وعلى الرغم من ان القصص التاريخية التي تحكي عن هذه الشخصيات تميل في غالبيتها الى النمط الاسطوري، الا انه لازال البعض منها تعتبر لدى كثير من الناس على انها حقائق ثابتة، يقوم عليها ايمان ومعتقد راسخ، كما هو الحال مع (كريشنا) في الديانة الهندوسية.

من المهم جدا ان نميز باستمرار بين (الحقائق الايمانية) و( الحقائق التاريخية) في عملية البحث التاريخي، فالحقائق التاريخية المستندة على معطيات البحث التاريخي المنضبط، والمعتمد على وسائل علمية كثيرة، هذه الحقائق يتم التعامل معها على انها يقينية او شبه يقينية، حسب مستوى وثوقية الادلة الموصلة اليها، ويتم التعامل معها على هذا الاساس ضمن اطار انساني شامل.

أما الحقائق الإيمانية، فهي سرديات او افكار وتصورات تخص(فقط) المؤمنين بها، و تلزمهم، ومن حقهم التعامل مع معطياتها ضمن إطار ايمانهم، ولكل مجموعة من البشر (حقائقهم الايمانية) الخاصة بهم، والتي قد تعتبر لدى غيرهم مجرد اساطير لا اصل لها، وهذه الظاهرة موجودة بشكل واضح في كل الاديان والمعتقدات، وكل فريق يعتبر ايمانه هو الحقيقة بينما ايمان غيره اسطورة!

في التاريخ المسيحي، تشكل ولادة يسوع المسيح العذرية، ركنا مهما من اركان المعتقد، وعليه تترتب نتائج مهمة سوف يتشكل منها البناء الأساسي للثيولوجيا المسيحية، لذلك اعتبر حدث ولادة يسوع الناصري، هو الحدث الأهم في تاريخ البشرية، و بقرار حكومي من الامبراطورية الاكبر والاقوى (الرومانية)، تم لاحقا، تقسيم تاريخ البشرية الى ما قبل، وما بعد ميلاد المسيح.

ان قصة ميلاد يسوع الناصري، والمروية لنا ضمن سرديات النصوص الدينية (فقط) تتشابه احيانا وتتلاقى احيانا اخرى مع قصص الميلاد الاعجازي للشخصيات الاخرى التي سبقت يسوع الناصري، وخصوصا تلك القصص التي كانت رائجة ومتداولة في ارجاء الامبراطورية الرومانية، ضمن التراث الروماني والاغريقي، مثل تحول الشخص المولود الى كيان (انساني/الهي) ومثل توقيت حدوث الميلاد، والذي يكون في نهاية شهر ديسمبر، وكذلك قصة تضحية البطل المولود اعجازيا بنفسه من اجل بقية الناس!

ورغم هذه التشابهات التي تكررت بشكل لافت، الا اننا سنتعامل مع قصة ولادة يسوع الناصري العذرية على انها حقيقة ايمانية ( نحترم كل من يؤمن بها ونحترم حقه بالايمان بما يشاء)، ونتابع تسلسل سرد تلك القصة كما وردت في النصوص، وسنحاول التحقق بمنهجية البحث التاريخي( فقط) في المناطق التي تتقاطع فيها تفاصيل هذه القصة مع الاحداث التاريخية الثابتة والمشهورة.

ومن خلال السير على نفس المنهجية التي نتبعها في هذه السلسلة، من تتبع النصوص حسب اقدمية زمن كتابتها، وكذلك من خلال مقارنة الخبر الوارد في احد الاناجيل مع الاناجيل الاخرى، سنجد امرا يدعو للتوقف والتأمل!

وهو ان قصة ولادة يسوع المسيح العذرية لم ترد في اجزاء العهد الجديد الاقدم زمنيا، وليس لها ذكر الا في انجيلين فقط!

فلو تتبعنا رسائل (شاؤول/بولس) وهي الجزء الاكبر والاقدم من العهد الجديد، لا نجد أي ذكر للولادة العذرية الاعجازية، بل ان هذا الرجل الذي كان اهم داعية مسيحي، وانشط شخص في نشر الايماني الجديد في زمن المسيحية الاول، لم يتطرق لهذه الحادثة المهمة والفريدة والمعجزة الكبرى، التي لا تتكرر، وكل ما ورد في رسائله حول ولادة يسوع الناصري هو جملة مقتضبة تقول:

(وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ) غلاطية 4/4

وهذه العبارة ليس فيها ذكر لولادة عذرية، او اي حدث اعجازي.

وعندما نذهب الى الاناجيل القانونية، نجد ان الانجيل الاقدم من ناحية التسلسل الزمني في الكتابة، وهو إنجيل (مرقص) لم يتطرق الى ولادة يسوع الناصري، ولم يذكر اي شيء عنها !

اول اشارة وخبر عن ولادة يسوع الناصري، وردت في الانجيل الذي تلى انجيل (مرقص) وهو الانجيل المنسوب الى (متى)

وقد ذكر الاشخاص (المجهولين) الذين كتبوا هذا الانجيل خبر الولادة العذرية، في سياق يظهر للقارئ على انه حدث يقع ضمن إطار تحقق نبوءات العهد القديم في شخص يسوع، وهذا النهج واضح جدا لدى كتبة هذا الانجيل، حيث نجدهم يجتهدون في اجتزاء وتحوير، واحيانا فبركة مقاطع من العهد القديم، لكي تبدو كأنها نبؤات تم تحققها في شخص يسوع!

وهكذا فعلوا ايضا مع نبؤة الولادة العذرية المزعومة، والتي لا اصل لها، فقاموا وبكل تمحك وجرأة بتغيير لفظة كلمة عبرانية تعني (شابة) الى لفظة تعني (عذراء) واقتطعوا نص من العهد القديم، لاعلاقة له بقصة المسيح، يقول

(ها هى العذراء تحبل وتلد ابناً يدعى اسمه عمانويل)

والطريف اننا نجد الى اليوم بعض المدافعين عن هذا التزوير المفضوح، مستندين الى ان كلمة(العذراء) موجودة في مخطوطات الترجمة السبعينية التي قام بها اليهود، متناسين ان كل مخطوطات هذه الترجمة الموجودة حاليا هي عبارة عن نسخ متاخرة تمت بعد القرن الميلادي الاول، ولا يوجد اي نسخة اصلية للترجمة السبعينية التي كتبها اليهود انفسهم!

والاشد طرافة، ان هؤلاء المتنطعين يتجاهلون عامدين، امرا بسيطا جدا، وهو ان اليهود الذين كتب العهد القديم بلغتهم وضمن مفاهيم ثقافتهم، والذين ينتظرون (المسيح المخلص) الى يوم الناس هذا، لم يكونوا، في يوم ما، ينتظرون ان يولد المسيح المنتظر، من خلال ولادة عذرية، اذا لا وجود لمثل هذه العقيدة في نصوص كتابهم (العهد القديم)!

الانجيل الثاني الذي ذكر خبر الولادة العذرية، هو انجيل( لوقا) والذي يأتي بعد انجيل (متى) بالتسلسل الزمني، وقد اورد القصة بشكل مختلف وضمن سياقات سردية تتباين مع القصة الاولى المذكورة في (متى)

بالنسبة للانجيل الاخير زمنيا( انجيل يوحنا) لم يرد فيه اي ذكر لولادة المسيح، وانما نجد كتبة هذا الإنجيل قد انتقلوا الى مستوى اخر جديد، وهو محاولة اضفاء صفات وابعاد لاهوتية على شخص يسوع الناصري، وهذا امر يمكن تفهمه ضمن سياقات تطور القصص الاسطوري والذي يتميز بأن الأسطورة تتضخم وتزداد هالتها مع مرور الزمن!

وبالعودة الى مقارنة خبر ولادة يسوع الناصري في الانجيلين الوحيدين الذين ذكرا هذه القصة، نجد هناك بعض التباينات والاختلافات اللافتة، فكل انجيل ابتدأ بذكر سلسلة نسب ل(يوسف النجار) زوج السيدة (مريم) الذي ينحدر من سلالة الملك (داوود) وهذا الامر هو شرط من الشروط التي يجب ان تتوفر في شخص المسيح القادم، ورغم ان (يوسف النجار) ليس له اي علاقة بميلاد يسوع العذري، ولا ينحدر يسوع من صلبه، الا ان كتبة الانجيلين وضعوا سلسلتي نسب فيها بعض التباين!

في انجيل (متى) نجد ان امر حبل السيدة (مريم) بشكل تلقائي وبدون تدخل بشر، هو (سر عائلي) محدود جدا لم يطلع عليه احد سوى مريم ويوسف النجار الذي اخبره الملاك عن طريق (الحلم) بعد ان شك في زوجته العذراء التي بدأت عليها علامات الحمل!

اما في انجيل (لوقا) فنجد ان هذا السر، قد اطلع عليه ايضا زوجة النبي (زكريا) والتي تمت بصلة قرابة الى مريم!

ونجد ايضا ان كتبة هذا الانجيل قد لاذوا بالصمت حول النبوءة المفبركة في انجيل(متى) ولم يذكروها رغم اهميتها!

ونلاحظ ايضا اهتمام كتبة هذا الإنجيل بربط حدث ميلاد المسيح الاعجازي، مع حدث إعجازي آخر، وهو ميلاد (يوحنا المعمدان) ابن النبي (زكريا) والذي ولد، هو ايضا، بطريقة اعجازية من اب شيخ عجوز وام عجوز عاقر.

ولو رجع القارئ الكريم الى تفاصيل القصتين في (متى) الاصحاح 1و2 وفي (لوقا) 2، 1 سيجد ان كل الذي يرويه الانجيل الاول، لا وجود له في الثاني، وكل مايرويه انجيل لوقا لا وجود له في انجيل (متى) !

ومن هذا نستنتج ان قصة الميلاد العذري التي تروى لنا، هي قصة (ثالثة) ناتجة من دمج رواية القصتين معا!

انجيل(متى) مثلا، يحكي لنا عن الاحلام التي رآها يوسف، وينفرد بذكر قصة الرجال الحكماء المجوس، والنجم الذي يسير ويتوقف امام بيت الطفل المولود، وعن مذبحة الاطفال المزعومة التي امر بها (هيرودس)، والتي بسببها حدثت الرحلة المزعومة للعائلة المقدسة الى مصر.

وفي الوقت الذي لانجد لهذه الامور ذكر في انجيل(لوقا)، نلاحظ ان الاخير قد انفرد هو ايضا بذكر احداث غفل عنها انجيل(متى) مثل التعداد الذي امر به القيصر، والرحلة الى بيت لحم، وقصة المزود والرعاة، وزيارات الملائكة للسيدة مريم وكذلك الى قريبتها (اليصابات) زوجة النبي (زكريا)

في انجيل (لوقا) نجد ان الملاك الذي أخبر السيدة (مريم) ببشارة حملها العذري، قد اخبرها بنبوءة مستقبلية مهمة وهي

(وها انت ستحبلين و تلدين ابنا و تسمينه يسوع.هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى و يعطيه الرب الاله كرسي داود ابيه

و يملك على بيت يعقوب الى الابد ولا يكون لملكه نهاية) لوقا 31/1

 وهذه النبؤة لم تتحقق ابدا، فقد، تم صلب يسوع، ولم يجلس على كرسي (ملك) داوود، ولم يتملك على بني اسرائيل !

بعدها نجد ان الملاك قال لها عبارة مهمة، قد تعرضت لاحقا إلى التحوير والتأويل المتمحك الساذج

 (فاجاب الملاك و قال لها الروح القدس يحل عليك و قوة العلي تظللك فلذلك ايضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله)

 حيث نجد ان بعض المسيحيين يعتبرون ان حلول الروح القدس على مريم هو دليل على ان حبلها هو بالابن (الطبيعي) لله!!

وباعتبار ان حلول الروح القدس على مريم هو الحافز الذي أدى الى بدء عملية الحمل والنمو الطبيعي للجنين!!

وهذا تفسير غريب ومضحك بنفس الوقت!، لانه يجعل من الروح القدس هو البديل عن الدور الذكري في عملية الحمل!

والاشد غرابة، ان هذا الامر يستدعي ان يكون يسوع الناصري (المولود من الله) هو ابن مريم وزوجها في نفس الوقت!

لأن يسوع حسب الميثلوجيا المسيحية هو نفسه (الله) وهو نفسه (الروح) القدس، وكلهم اله واحد !!

ان حلول الروح القدس، والذي يعني بشكل واضح حلول بركة الروح القدس على مريم، لتحفظها وتباركها وتجعلها تحظى برعاية وعناية الله العلي، لم يكن امرا تفردت به السيدة مريم، فقد حلت بركة الروح القدس ايضا على (اليصابات) وكذلك زوجها (زكريا) وابنهما (يوحنا) المعمدان

فقد أخبر الملاك عن يوحنا المعمدان انه

(لانه يكون عظيما امام الرب و خمرا و مسكرا لا يشرب و من بطن امه يمتلئ من الروح القدس) لوقا 15/1

( وامتلات اليصابات من الروح القدس) لوقا 41/1

(وامتلا زكريا ابوه من الروح القدس و تنبا قائلا) لوقا 67/1

فحلول الروح القدس، بل وامتلاء الانسان بالروح القدس، لا يعدو كونه ترميز الى حلول بركة وقداسة الرب على ذلك الإنسان، وفي حالة السيدة مريم، حلت عليها بركة وقداسة الرب الذي اختارها لحمل وولادة انسان مقدس من الله (قدوس) مثلما كان بعض انبياء الله مقدسين ايضا، كما اشار الكتاب الى بعضهم، مثل هارون

 (وَهارُونَ قُدُّوسَ الرَّبِّ) مزمور 106، وبذلك استحق المولود الجديد تسمية (ابن الله) التي كانت تطلق على جميع بني اسرائيل بشكل عام، وعلى الأنبياء والصالحين البارين منهم بشكل خاص، مثل يعقوب و افرايم وداوود .

ان تعاملنا مع قصة ولادة المسيح الاعجازية من ناحية كونها قصة ايمانية، لا يعفينا من مطابقتها مع الاحداث التاريخية المثبتة، وذلك بسبب ان هذه القصة تطرقت الى بعض احداث التاريخ، مما استلزم، مقارنتها مع تلك الاحداث التي تقاطعت تفاصيل القصة معها، والتي بينت، بعد مقارنة تاريخية متأنية، ان تلك القصة تحوي بعض التناقضات وبعض الاحداث التي لا اصل تاريخي لها!

فقصة الاكتتاب (التعداد السكاني) الذي أمر به (اغسطوس قيصر) في جميع ارجاء امبراطوريته المترامية الاطراف، هذه القصة لا اصل لها ولا يوجد ما يدعمها من النصوص والوثائق الرومانية!

وكذلك قصة امر (هيرودس) بذبح كل الاطفال دون سن العامين! هي مجرد قصة مخترعة وربما مقتبسة من قصة النبي موسى !

ومن تناقضات قصة الميلاد العذرية مع الحقائق التاريخية، حسب رواية الاناجيل، اننا نجد تلك الاناجيل تشير الى ولادة يسوع المسيحي في فترة حكم (هيرودس) وان الميلاد حصل حينما كان الحاكم (كيرينيوس) واليا على سورية، بينما المصادر التاريخية القديمة، والتي ارخت للدولة الرومانية، وكذلك النقوش المكتشفة، تؤكد ان (كيرينيوس) لم يعتلي سدة الحكم في سوريا قبل عام 6 ميلادي، اي بعد وفاة (هيرودس) بحوالي عشرة اعوام !! 

وختاما، لابد من الاشارة، الى ان مما يثير الانتباه، هو ان يسوع الناصري، نفسه، لم يتطرق الى موضوع ميلاده الاعجازي ابدا، طوال حياته، وفي جميع حواراته وأحتجاجاته مع خصومه، وكذلك في أحاديثه الخاصة مع تلاميذه!

 

د. جعفر الحكيم

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم