صحيفة المثقف

ايقاظ المعاني الكونية المشتركة بين الأديان

abduljabar alrifai2تشتدّ الحاجةُ لدراسة الأديان ومقارنتها في الحوزات وكليات الدراسات الدينية، لأنها المعاهدُ المسؤولةُ عن التكوينِ العلمي والتربيةِ الدينية لتلامذتها، وتأهيلِهم لممارسة تدريس الدين وتبليغه والكتابة فيه، وإدارةِ الشأن الديني، وهي مهمات ذات أثر هائل في بناء الحياة الروحية والأخلاقية في المجتمعات، وكلّ تعصّبٍ أعمى في فهمِ الدين وتفسيرٍ عنيف لنصوصه المقدسة من شأنه أن يبدّد الحياةَ الروحيَة ويهدر الحياةَ الأخلاقية.

وكانت حوزةُ النجف سباقةً في العصر الحديث في التعرف على الأديان الابراهيمية، فقد كرّس الشيخُ محمد جواد البلاغي "1282 – 1352هـ" جهودَه لنقد اليهودية والمسيحية، بالعودة إلى التوراة والأناجيل والتنقيب عن التحريفات الغريبة عن الروح الوحيانية فيها. وعلى الرغمِ من ريادةِ البلاغي في تدشينِ هذا الحقل البالغ الأهمية في الدراسات الدينية، غير أن المنهج الكلامي هيمنَ على كتاباتِه، ففرض عليها أن تتحدث لغةَ المتكلمين، وتحاكي استدلالاتِهم ومحاججاتِهم على إبطالِ دعوى الخصم، لذلك لم تتحرر مقارناتُه للأديان الابراهيمة من منهج المتكلمين الدفاعي النقدي، فكان يُنقّب في نصوصِ الديانتين اليهودية والمسيحية عن المنحولِ والمحرّفِ واللامعقولِ.

لكن المسارَ الذي دشنه البلاغي توقف ولم يتواصل في الفترة اللاحقة، اثر عدة عوامل، لعل أبرزَها تغلبُ دراسة الفقه وأصوله على الدراسة والتدريس في الحوزة، والافتقارُ إلى التكوين في اللغات الأخرى، وما تعرض له رجالُ الدين والحوزة من تهجير وقمع وحصار جائر من نظام الحكم في العراق.

وفي حوزة قم استطاع صديقُنا السيد أبو الحسن نواب أن يؤسّس جامعةً للأديان والمذاهب، تتسع لدراسةِ وتدريسِ ومقارنةِ الأديان الابراهيمية وغير الابراهيمية، باعتماد كتبها المقدّسة ومدونات أتباعها، بل اهتم السيد نواب بالبحث عن متخصصين من رجال هذه الأديان خاصة، لتعليم كتبها ومدوناتها، فدعى مثلاً للتدريس يهودّياً ايرانياً متخصصاً في التلمود لتفسيره للتلامذة الذين يدرسون الأديانَ الابراهيمية في جامعته.

وهنا تأتي أهميةُ كتاب السيد وليد البعاج، وهو رجل دين ينبغي أن نحتفي بشجاعته، إذ يحاول أن يمضي لوحده في مغامرة قد تقلّص فرصَه مستقبلاً، لأن ما يؤثر في مصائر الدارسين ويفرض مكانتَهم الدينية في الحوزة هو تكثيفُ دراستهم في مجال الفقه وأصوله، وعدمُ تبذير أوقاتهم في أي مجال آخر.

ربما ينزعج من مبادرة البعاج بعضُ زملائه من رجال الدين، وهم يرونه يمضي عدة سنوات متفرغاً لدراسةِ عزرا، والتعريفِ بأهمية دوره كمؤسّس بعد النبي موسى للديانة اليهودية. غير أن السيد وليد كان يدرك أن مثلَ هذه الدراسة لم تعد اليوم هامشيةً أو ثانويةً، يضيعُ فيها عمرُ التلميذ كما قد يتوهمُ بعضُهم، ذلك أن كلَّ من يتخصص في دراسة الفقه وأصوله عليه أن يتعرف على فقه وأصول المذاهب الأخرى داخل ديانته، ويتعرف على شرائع الأديان الأخرى، والابراهيمية منها خاصة، وكيف أن اتساعَ حقل هذه الدراسات في الحوزة وكليات الدراسات الدينية من شأنه أن يضيء للدارسين المعانيَ الروحية والقيمَ الأخلاقية الكونية المشترَكة بين الأديان، ويبين أثرَ ذلك في وعي رسالة الأديان في العالم، وفتحِ قنوات التواصل والتفاهم بينها، بالشكل الذي يمكّنها من العيش معا في فضاء التنوع والاختلاف.

لم ينصرف الباحثُ في هذا الكتاب لنقد معتقدات اليهودية أو الردّ على مقولاتها المركزية، كما هو الحال في الكثير من كتابات دارسي الأديان من رجال الدين، بل كان مسكوناً بالتعرفِ عليها من كتبها المقدسة ومدوناتها، والكشفِ عمّا هو وحياني فيها، بوصف الأديان الابراهيمية تنتمي لعائلة إيمانية واحدة، لأنها تؤمن معاً بالله، وتتوحد في رسالة كونية مشتركة، وتقوم على قيم أخلاقية انسانية كلّية، وتستقي من منبع إلهي واحد، وإن وحدتَها تتّسع للتنوع، وتنوعها لا يتنكّر للوحدة.

الجميلُ في الكتاب أن المؤلفَ ظلّ يحاول، في موارد متعددة، التفتيشَ عن محطات اللقاء بين الأديان الابراهيمية - أو "الدين الابراهيمي" على وفق المصطلح الذي يفضله في تسميتها - ليكشفَ عن الجسور المشتركة بينها، ويُذكّر بالأبعاد الايمانية والمعاني الروحية والقيم الأخلاقية الكونية لهذه الأديان. ولم يهتم المؤلفُ بما ينبش ذاكرةَ حروب هذه الأديان، وما يختبيء في أرشيفاتها من كراهياتها. وكأنه في كلّ ذلك ينشد الكفَّ عن ثنائية أنا / أنت، والانتقال إلى الـ"نحن"، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى "الـعائلة البشرية"، بوصفها مقصداً إنسانياً أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكل الأديان.

وشدّد الباحثُ على ضرورة الارتقاء بالحوار بين الأديان، والانتقال به من الكلام المكرّر إلى اعتماد القيم الأخلاقية والانسانية، والبناء عليها بوصفها أسساً للبحث العلمي في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. وفي ضوء موقفه هذا رفض مواقفَ كلّ من يستخفّ بمعتقدات دين آخر أو يسفهها، وسوغ ذلك بأن التفكيرَ في كلّ ديانة يمتلك حججَه وأدلتَه وقناعاتِه داخل تلك الديانة، ولا تصحّ مناقشةُ هذه الحجج والأدلة والقناعات من دون أن ينخرطَ المناقشُ في أفق تفكير الديانة ويستوعبَ نصوصَها وتراثَها.

وفي محاولة منه إلى تطبيق منهجه الذي أوضح فيه أن كلَّ الآراء محتملةٌ، حسب منطق البحث العلمي، تنبه الباحث إلى أهمية إعادة المناقشة فيما اشتهر بين مفسري القرآن في قضية رفع النبي عيسى للسماء حيّاً، فأشار إلى بعض الآيات التي يمكن أن يستفاد منها احتمالُ موت عيسى، ثم رفعه للسماء بعد فترة.

وأود أن أشهد للكاتب بأنه بذل جهداً يستحق الثناءَ في أن يكون أكثرَ حياداً وأقلَّ تحيزاً، ما أمكنه ذلك، مع ضرورة التنبيه إلى أنه يصعب أن يظلّ الباحثُ محايداً في كل معالجاته، فكيف إن كان ذلك الباحثُ رجلَ دين، تشبّع بمناخات ديانته ونذر كلَّ حياتِه لها.

ولا أريد أن استقرئ المواردَ التي أصاب تفكيرَه فيها شيءٌ من الوهن أحياناً، واكتفي بالإشارة هنا إلى مثال واحد،كان فيه الكاتبُ وفياً لمخيلته أكثرَ من وفائه لمنهج البحث العلمي، عندما قام بمقارنة بين السبي البابلي لليهود والسبي الكربلائي. وهي مقارنةٌ متكلفة، تفشل حقائقُ التنقيبات الأثرية ومعطياتُ الجغرافيا التاريخية في التدليل عليها.

 

عبد الجبار الرفاعي

....................

* من تقديم لكتاب: "عزرا في الديانات الابراهيمية". تأليف: وليد البعاج. الكتاب تحت الطبع.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم