صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي .. فتنةُ المعرفة وغواية العارف

1485 ahmadalwasهكذا عرفتهُ الترانيمُ، يبحرُ بأشرعةِ المعرفةِ في بحار التراث، فيمنحُ التأويلات فتنتَها، ويمنحَ النصَّ أفقاً جديداً، وعند انكسارِ التردّدِ يقيمُ صلاتَهُ على تخومِ المعنى، عرفتهُ الصلواتُ الخمسُ ولم يهجرها يوماً ليبرهنَ على أن الدينَ هو الإنسان، أنَّ المعرفةَ هي الإنسان، وأنَّ الوهمَ هو السقوطُ في فخِ الجهلِ، هكذا تهجّدَ بالحرفِ وهو يحرثُ بابتسامتهِ قلوبَ العارفينَ، ويضيءُ للمريدينَ طريقاً جيداً بين بين. لا شرقيٌّ حدَّ العمى، ولا غربيٌّ حدَّ التغربِ والاغتراب، يبذرُ في صباحاتِ الإنسانِ بسمتَهُ المضيئةَ ليضللَّ الكونَ بحكمتهِ التي تفضحُ هذي الخرائب التي تركت روحَ الإنسان نهباً للظلام. أسَّس قضاياهُ المعاصرةَ قبل ربعِ قرنٍ، وما يزال يراها نبتةً وليدةً، فيسقيها من ماء المعرفةِ ما يجعلها أن تكون رائدةً في مجال الفكر الإسلامي المعاصر.

مفتونٌ بالرحلةِ .. زوادتُهُ فكرُهُ الإنسانيّ، ومعرفتُهُ، يطيلُ انتظار النهاراتِ ليمنحها وجهَها الأنيق، يعلّقُ فوقَ جيدِ الأيامِ ناقوسَ البشارةِ، وكأنَّهُ عارفٌ بخبايا الإنسان، فيتبعهُ في الغربِ المريدونَ، ويحبُّهُ في الشرقِ الغريبونَ، يكتبُ بأناملهِ البيضاء على عباءة الليل أسماءَ النور، ليفيض الحبُّ بين البشر، يرتقي معراجَ التصوّفِ تارةً، والعرفانِ تارةً أخرى ليقطفَ لنا تفاحةً هي الدليلُ على النجاةِ بالدينِ والإنسانِ والحياةِ والوجود، وهو يدركُ أن الصعودَ صعبٌ بلا تضحياتٍ، هكذا كان الدكتور عبد الجبار الرفاعي في حياتهِ يؤثّثُ لإنسانِ الله في أرضِ المارقين، تائقاً إلى لهفةٍ تسوِّرها الأمنياتُ التي أعار لها حلُمُهُ أجنحةً لعلّها تنقذُ ما تبقى، أو تهرِّبُ ما يمكنُ تهريبهُ، لأنَّ الطريقَ الى الله محفوفةٌ بالجناة.

مُمْعِنٌ في جنونِ البداياتِ، يتأمَّلُ شِرْكَ الطبيعةِ، منذُ أنْ بَدَأ يدجِّنُ أحْلامَهُ حاصَرَتْهُ تخومُ المعرفَةِ، وأخذتْ خطاهُ المكتباتُ بعدَ أن هجرَ ضفافَ (الرفاعي). بدأ يدوّنُ ما يدوّنُ وهو يطوفُ بأحلامهِ الكبيرةِ هذا العالمِ، بحثاً عن معرفةٍ لا تتركُ الأراملَ يحدِّقْنَ في سلال الألم ويعصرهنَّ الشجنْ، لا يكرهُ أحداً غيرَ التعصبِ الذي شنَّ عليهِ حياتهُ، كرهَ الأيديولوجياتِ التي تشبهُ المقص الذي يفرِّقُ ولا يجمعُ .. فأعلنَ دينَ الحبَّ.

أبحرَ في مرافئِ الفلسفةِ قرابةَ نصفَ قَرْنٍ من الزمنِ وفتَّشَ في قضاياها، ولم يشأ أن ينزلَ مرساتَهُ إلى الآن، ولم يبحْ حتى لظلهِ بمخاطر الرحلةِ والطريق، عوَّد نفسهُ أن يكونَ مثلَ شجرةٍ تعوَّدَت الثمرَ كما تعوّدَت الحجرَ في الوقتِ نفسهِ. إنهُ واحدٌ متعدّدٌ، يتكاثرُ مثلَ صدىً في كاتدرائيةٍ في جبلِ المعرفةِ. لا يهدأ في مكانٍ ولا يستوعبُهُ شكلُ الحياة، يرى في دينِ اللهِ طاقةً محبوسةً يتوجبُ إطلاقُها من أسْرِها، لذا لا يؤمنُ إلّا بدينِ الإنسانِ، وهو ذلك الدين الذي تُستردّ به حريةُ الإنسان. ولا يتركُ شيئاً على هيئتهِ، حيثُ يفضحُ النقائضَ في النصِّ، ويعرِّي الحقائقَ وهو يشتغلُ على الكتابةِ، كمَنْ يبني جسَدَهُ وروحهُ بالكلمات، ويضعُ أمامَهُ خرائط َ الطريق، وعندما يبدأ الكتابةَ ينسى ذلك كلَّهُ ويصوغُ شيئاً لا يتصلُ بالخرائطِ ولا بالطريقِ، ذاهباً إلى النصِّ مثل عارفٍ كبيرٍ في أرض مجهولة. تنتابهُ فوبيا من عيونِ الآلاتِ التي تحدّقُ بهِ، والتي لم تزلْ عالقةً في ذاكرتهِ مثل حلمٍ قديم. سرقناهُ في غفلةٍ من نفسهِ، ومن الكتابةِ، ومن الوقتِ أيضاً، لنتحدث معه في الحب والإيمان والدين والدنيا.

 

أحمد جليل الويس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم