صحيفة المثقف

ما وراء الباب.!!

MM80إياكِ أن تحدقي في عينيه، حين تلتقين برجل، هل تفهمين، ادخلي؟

سحب إبنته الشابة إلى الداخل، فيما كان المارة يسحبون أنفسهم سحبًا وهم يصعدون الدرج الحجري القديم باتجه منازلهم، وبعضهم يترك حاله يتنفس وهم ينحدرون إلى أسفل، نحو الرصيف المبتل بماء المطر، الذي تحفه أشجار البلوط .

أغلق الباب الخشبي ذي اللون الأخضر الداكن، ثم سار على رؤوس أصابعه وهو يخشى أن تستيقظ زوجته المقعدة، التي تعاني من داء المفاصل المزمن .

تمتم مع نفسه، وبصق على الأرض بغضب .. ليس كل ما يريده يتحقق، وتذكر بأن أقنعة الخارج تفقده صوابه .. وحين دخل مكتبه المطل على الفناء الخلفي كان أمامه شباكُا خشبيًا صغيرًا تظلله عريشة من زهور بلون بنفسجي تتداخل فيها أوراق خضراء زاهية وخاصة حين يسقط عليها شعاع الشمس في هذا الوقت من المساء .. باب خشبية موصدة وشباك خشبي لا يفتح دائما إلا لدخول نسيم الصباح مع تغريدة ذلك الشحرور الذي يعشش بين أغصان الشجرة الظليلة بعيدًا عن عيون السنانير التي تتربص في كل حين .

جلس إلى مكتبه الخشبي الأنيق الذي يكسوه جلد ناعم مصبوغ باللون الأخضر، وأخذ يتفحص أوراقه التي طالما ضمت موضوعات متعددة تخص بحثه في طبيعة التكيف والتحول بالقدر الذي يكفل له التركيز الذهني على الأساسيات، ولكنه سرعان ما وجد نفسه مُنجرًا إلى ثانوياتها ومشتتًا في الزوايا الصغيرة التي لم تعد لها من قيمة تذكر، وحين أراد العودة إلى تركيزه الذهني غابت تلك الموضوعات وبدأ مسلسل الضياع من جديد.. هنالك أشياء تضعه في مجال التشتت الذهني، هي مفردات وأحداث وهواجس وتوقعات لا حصر لها تهاجمه حين تتكثف وتتجمع أمامه وتحيط بتفكيره وتشدد الخناق عليه، فيما تتشكل أفكاره الأساسية في خيارات ليست كثيرة ولكن كل منها محاط بملايين المفردات الثانوية التي يصعب حصرها في قالبٍ إلا بتركيزه الذهني، المعرض للأنتهاك .

تكور حول نفسه وبات لا يشعر بشيء سوى كونه جزءًا صغيرًا يتحرك في حيز تحيطه جدران اربعة وسقف خشبي وباب مغلق طوال النهار وشباك يفضي الى عالمه الخلفي، وكلما اراد ان يطل يرى المشهد ذاته، شجرة السنديان وسقوف القرميد الاحمر والمدخنة التي يحط عليها غراب ينعق دائمًا ثم يفر، فيما تبدء سمفونية العصافير في المساء تملأ الغرفة بالضجيج، الذي لا مفر منه، وحين يخرج الى الشارع عندها يختلط الضجيج في ذهنه بضجيج آخر ليشكلا عالمًا من الضجيج لا تجد فيه فسحة للصمت ابدا .. عدا بعض الهواء المنعش يجعله يقظًا، فيما يتولد لديه إحساس بحركة الأشياء من حوله، الناس والمركبات وصراخ الباعة والطيور، التي تحط جماعات تفتش عن أي شيء، ومع ذلك فأن عالمه يظل محاصرًا بين جدران أربعة وباب موصدة على الدوام ونافذة خشبية يتحسس من خلالها الطبيعة كما هي شاخصة، شجرة السنديان وسقوف القرميد ومدخنة المبنى والغراب والحمام وضجيج العصافير والشارع المكتظ بالأصوات، فيما يسمع أنين زوجته وهي تتألم من داء المفاصل المزمن .

أخذته قيلولة المساء وغط في نوم عميق .. في تلك الأمسية الشتائية الماطرة وجد نفسه يحاول أن يخرج من مكان مظلم له مخرج واحد ضيق .. حاول أن يحرر يديه فأعاقه كتفه، وحين حاول أن يمسك بالجدار الحجري ألتصقت يديه، فحاول أن يخلص يداه برأسه وجسمه ألتصقت ركبته وكتفه وجبهته .. وكلما حاول أن يحرر جزءًا من جسده ألتصق الباقي بذلك الجدار، الذي تنبعث منه خيوطا لزجه لا يعرف من أين تسيح حتى بات يشعر بالأختناق، حينها صرخ فوجد نفسه في وسط غرفته التي يملؤها الظلام وصوت زوجته ...

- أين أنت يا أبا ياسر .. يا إلهي .. لقد تعبت من الصراخ، أين أنت بحق السماء ؟!

- أجابها بشيء من التلعثم .. كنتُ ملتصقًا بجدار مرعب، ولم أستطع فك أسري، ها أنذا أستيقظت تمامًا .. قولي ماذا تريدين؟!

- لا شيء، سوى، ثم .. ألتزمت الصمت .!!

- سوى ماذا ؟

- أريدُكَ أن تكونَ بقربي .!!

- وأنا من يكون بقربي ؟!

- دعكَ من هذا يا رجل .. لقد حلمتُ البارحة .. إنه لم يكن حلمًا حقيقيًا ولا تخيلات حقيقية، إنما هي خليط من هذا وذاك .

- يا إلهي، بدأنا نسير على حافة الوهم .. قاطعته بشيء من الغنج الأنثوي ..

- مالك لا تصغي إليً، لم أعلق بشيء حين كنت ملتصقًا بالجدار، وكنتُ أعرف إنكَ كنتَ وحيدًا تحاولُ الفرار من وحدتكْ .. من ذلك الحيز الضيق الذي تلوك فيه أطنان من الكلمات التي تنساح من كتبك واوراقك وحتى ذاكرتك التي أعرفها جيدًا ترجعك إلى عقود بلمح البصر.. هل تنسى ذلك ؟ ماذا لو غابت هذه الذاكرة، هل تكون عندئذٍ موجودًا؟ وكيف تدرك وجودك؟ فأنا مثلاً، أدرك وجودي رغم أني عاجزة عن المشي تمامًا، ولكن ماذا بشأنك لو غابت ذاكرتك؟

- ولكن، حتى لو غابت عني ذاكرتي، فهذا لا ينفي وجودي، وذاكرتي جزء من هذا الوجود .. هل تدركين ذلك ؟ .. وتابع حديثه،

- يا ألله، لماذا لا تكفين عن الأسئلة الأفتراضية ياإمرأءة، إنكِ تثيرين توتري كلما سمعت منك كلمة (لو) .. وقبل أن يكمل ...

- إنك لا تجيبُ على هذه الأسئلة .. ولكن كيفَ أبدأ معك؟ .. أنتَ والغرفة عالمًا واحدًا أليس كذلك، وماذا بشأن الخارج، ألم يكن له وجود ؟ هل هو عالم إفتراضي؟

- تمتمَ، بعد أن أطرق رأسه، ما الفائدة من الحديث عن شيء بيننا خال من المشتركات .. وقبل أن يكمل حديثة قالت :

- من فضلك، حين تخرج من عالمك، أغلق ورائك الباب.!!

 

د. جودت العاني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم