صحيفة المثقف

ذكرى كتاب ونبوءة "مقاصة"

salam khadomfarajكنت قد فرغت توا من قراءة كتاب جاك لندن العقب الحديدية حين قررت ان انتحر !!!

 رغم أنى كنت أعيش حالة حب جميلة وواعدة.. لكن مضمون الرواية أثر بي بشكل غريب.. الرواية تتناول نضال الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية خلال العقد الأول وما تلاه من عقود.. بالمناسبة الحزب الشيوعي الأميركي لم يكن اقل قوة وجماهيرية من حزب البلاشفة في روسيا.. لكن نبوءة الكاتب تتحدث عن تفتت منظمات الحزب وتحوله الى حزب صغير ومجموعة من المنظمات المخترقة من قبل قوى الرأسمال.. والغريب ان الرواية وقد كتبت عام 1908 (كان الحزب الشيوعي الأميركي حينها قويا ومؤثرا ويمتلك صحيفة) تتحدث وبما يشبه الخيال العلمي عن المستقبل على لسان امرأة هي حبيبة بطل الرواية (المناضل) ورغم موت البطل تستمر الراوية بالسرد عن مستقبل اليسار في اميركا حتى تصل الى ثمانينات القرن !!! وفيها تسود ثقافة التنصت على كل شيء .. ورغم موت المؤلف (جاك لندن) مبكرا الا ان احداث روايته تستمر في سرد وقائع تحدث في المستقبل//

 في اعتقادي ان جورج اورويل تأثر بشكل ما بجاك لندن وروايته هذه عندما كتب روايته المستقبلية الموسومة بــ(1984) فقد كتبها في عام 48 .. لكنه قلب احاد وعشرات التاريخ .. لينتج رواية غريبة تدور احداثها في المستقبل أيضا.. هذا النوع من السرد أسس لما يعرف بالديستوبيا ..هو سرد يعني بالنبوءة و الحديث عن مدن غير فاضلة . مخربة . مدمرة. ناسها اشبه بالمسوخ.. وإذا كانت الرأسمالية قد اخذت زمام المبادرة من الاقطاع والكنيسة فليس غير الديمقراطية من منقذ حسب اورويل.. وليس غير الاشتراكية حسب جاك لندن.. ولكن كلاهما يتوقع فشلا ذريعا لكل من اللبرالية النبيلة والاشتراكية النبيلة..وليس غير الخراب الروحي والإنساني واذا كان بعض السرياليين قد كتبوا عن نوع من الخراب الجميل فان كلا من اورويل ولندن تحدثا عن مستقبل مدمر.. وإذا كان اورويل البريطاني الرجعي قد تملق الرجعية الإنكليزية واخترع نوعا من الاشتراكية الفاشية ليمرر فكرته فإن جاك لندن بقي مخلصا لاشتراكيته وتقدميته وتحدث عن خراب شامل تسببه الرجعية في اختراقها وتدميرها لكن ما هو نبيل وتقدمي واشتراكي.. ومن الطريف ان رئيسة وزراء بريطانيا تاتشر وهي تهنيء الإنكليز بمناسبة بداية عام 1984 قد علقت بجملة دالة (حمدا لله ان نبوءة اورويل لم تتحقق وها نحن نعيش في عام 1984 ونحن نرفل باللبرالية ونعيش دولة الانسان لا دولة (البك براذر).. الأخ الأكبر..

بالنسبة لي .. لم أقرأ رواية اورويل الا متأخرا.. لكن رواية العقب الحديدية وقد قرأتها عام 1977.. جعلتني افكر بالانتحار بطريقة غريبة.. رغم حاجة عائلتي لي ورغم قصة حب جميلة كنت اعيشها.. في ذلك العام كنت قد قدمت استقالتي من الحزب الشيوعي فقد كنت على غير وفاق مع تاكتيكه في طريقة دخوله ما سمي جزافا بالجبهة الوطنية.. لم اكن معترضا على الجبهة ولكن على كشف كل تنظيمات الحزب بما فيها العسكرية والطلابية والنسائية بحجة ان الحليف ينبغي ان يعرف كل تنظيمات الحليف الآخر !! في وقتها انطلت علينا حتى نحن قواعد الحزب تلك اللعبة القذرة.. ولكن بعد ان تبين ان القوم قد قرروا تصفية كل القواعد والإبقاء على قيادة هيكلية إرضاء للسوفيت ثارت ثائرتنا ورحنا نفكر بطريقة نتخلص من خلالها من كابوس التصفيات.. بالنسبة لي لم اجد غير الاستقالة منقذا من مصير محتوم.. وقد فعلت....

 لكن رواية جاك لندن أعادت حنينا طاغيا للنضال.. فماذا افعل وكل شيء يوحي بضرب الجبهة وتدميرها؟ في تلك الأيام كان الحزب الشيوعي العراقي يمر في ظرف سيء للغاية.. لكن اخبار العالم تشي بانتصارات واعدة في إيطاليا يوشك الشيوعيون على استلام السلطة بتحالف بسيط مع الاشتراكيين . كذلك في فرنسا وغيرها من البلدان الغربية اما البرتغال فقد حدث انقلاب شيوعي ناجح ضد الفاشية وتحررت كل المستعمرات البرتغالية في افريقيا وتبنت الماركسية اللينينية !!! .. كنت في العشرينيات من عمري .. وكانت افكاري تتوزع بين الحاجة الى اللهو والحب والجنس وبين مسؤوليتي تجاه شعبي تتناهبني قصائد مظفر النواب (عن البراءة والعار الذي يلحق بمن يعطي براءة من الحزب !!) وقصيدته التي تسربت الينا (وتريات ليلية) وقصائد محمود درويش واحمد فؤاد نجم.... لكن حزبنا قد طوقنا بجبهة هي اشبه بالانتحار الجماعي.. وسط هذه الرؤى كتبت قصة قصيرة من وحي رواية جاك لندن العقب الحديدية.. استفدت من تقنية السرد المستقبلي (الديستوبيا) لكني ميزت نصي جاعلا من نهايته .. يوتوبيا

 وإذا كانت الديستوبيا تعني مدينة غير فاضلة وناسها مسوخ فقد جعلت قصتي وقد كتبتها عام 77 تبدأ احداثها عام 2001 وقد اصبح العراق مدينة فاضلة تسوده الرفاهية والحرية (يوتوبيا).. حتى ان الناس لم يعودوا يرددون شعار الشيوعيين وطن حر وشعب سعيد.. لأنهم قد دخلوا فعلا مرحلة السعادة والحرية فلا حاجة لهم بعد بالشعارات !!!

 محور قصتي القصيرة.. يتلخص(في عام 2001 واثناء محاولة إعادة بناء دار بعد تهديمه تعثر حفيدة خطيبة الراوي المعدوم عام 77 والتي لم تتزوجه بالطبع على مخطوطة لقصة قصيرة تدور احداثها عام 1977 !!!. , حبكة القصة تتلخص باعتقال فتى في العشرين من عمره لم يرتكب ذنبا سوى انه يحمل في رأسه أفكارا .. وثمة وصف للحظة إعدامه .. والتي طلب فيها تدخين سيكارة واحدة .. وقد لبي طلبه !! والقصة كتبتها ربما بعد يومين من نشر خبر اعدام مجموعة من الفتية المحسوبين على الحزب الشيوعي من بينهم سهيل وبشار لاعب المنتخب الوطني.)

عرضت مخطوطة القصة على محيي الدين زنكنه الروائي الكبير.. فأعادها لي قائلا.. سلام !!! يا سلام !! نريدك قاصا ندخره للمستقبل لا منتحرا.. القوم يعدمون على أبسط من قصتك هذه.. وعرضتها على قاسم الدفاعي صديقي الاثير فبكى وقال .. الخراب قادم..واولاد الأحذية سيسحقوننا.. ولكن طز بيهم.. انشرها !!!

الانتحار بقصة افضل من الانتحار ببطل عرق..

 وقرأها محمد الدفاعي..المناضل اليساري القديم.. فقال.. ابني سلام.. والدك قد توفي قبل اقل من عام. وعائلتك تحتاجك اكثر من الحزب ..انصحك بتمزيق ما كتبت ولا تعرضها على بشر..

 وعرضتها على سعيد ونادر وكثيرين ممن اثق بطيبتهم.. وأخيرا عرضتها على (حسين الجليلي) مسؤول الثقافة والنشر في تنظيمات ديالى فقال لي ما يقرب من قول محمد الدفاعي.. لكنه أضاف ما زلنا معهم في جبهة ونحن نحاول تقريب المسافات لا توسيعها.. وقصتك مؤذية لك وللحزب ولعموم الرفاق.. قلت له اريد نشرها في طريق الشعب.. فقال سأعرضها على الرفاق في القيادة وسترى انهم سيرفضون .. بعد يومين اعادها لي قائلا : الم اقل لك ؟؟ كان رفضا قاطعا من الجميع .. انه انتحار يا رفيق.. ثم سألني عن والدتي وعائلتي الصغيرة وطلب مني ان اهتم بشؤونهم.. هذا ملخص قكرتي عن محاولة انتحاري المضحكة تلك.. لست نادما حين كتبت قصتي المستمدة تقنيتها من جاك لندن.. ولست نادما على عدم نشرها وتمزيقها.. لكن المهم في مقاصتي هذه .. هو مصير قصتي الأثيرة الغريبة المستقبلية تلك.. لم أطع أيا ممن طلب مني تمزيقها رغم محبتي لهم جميعا.. فما كنت اعرضها الا لمحب.. .. سيدة واحدة اقنعتني بتمزيقها فورا..

 كنت في تلك الأيام اقضي اغلب اوقاتي في العاصمة الحبيبة الجميلة بغداد.. كانت ترافقني أحيانا في تسكعي في شوارعها فتاة طيبة شيوعية.. كانت تجمعنا صداقة وزمالة جميلة وكنا على وشك ان نصبح حبيبين.. لكن الغد لم يكن مضمونا.. هي قرأت قصتي وأعجبت بها ايما اعجاب.. بل اوشكت ان تقبلني وهي تنهي قراءتها.. لكنها حذرتني من نشرها..

 ذات يوم التقيت بها في حديقة وارفة الظلال غناء.. وتجولنا معا.. همست لي بأغنية كانت شائعة : عين بعين عالشاطيء تلاقينا..

فأجبتها على الفور : غير الأمن ما واحد عرف بينا.. وضحكنا معا.. أصل جواب الاغنية.. غير القمر ما واحد عرف بينا.. لكن انكشاف كل الشيوعيين امام أجهزة الامن جعلني أقول لها ذلك بمرارة.. لكن كل ذلك لم يمنع ضحكتها الحلوة واستمرارها بالغناء :تلاقينا ومشينا والنسيم يهل..يميل الزلف وياه وترد بينا...

كان من الممكن لنا ان ننسى الحزب والنضال وان نفكر بمستقبلنا الشخصي .. لكن تراث الحزب نفسه كان يمنعنا من التفكير بذلك.. نوع من احتقار الذات وموت الضمير كان يعني ترك الحزب في محنته.. رغم ان الحزب كان مكشوفا بشكل مريع !!!

(مشينا وظل على عيوني خيال يحوم مثل الطيف.. وبوسط القلب آآه على شفافي مرارة حيف..) بس بعيون حيرانة تحاجينا..]..

 قالت لي (سوسن ... وهذا اسمها السري ..) عندي فكرة نزور مجلة (....) ونعرض قصتك على الدكتورة.. واكيد ان نصحها سينفع.. قلت لها.. ومن ادراك اننا سنجد الدكتورة؟ قالت لنحاول.. لن نخسر شيئا.. هي أيضا رفيقتنا رغم انشقاقها هي وزوجها عن حزبنا.. لكنها تبقى مرجعا محترما وناصحا : فاعجبتني الفكرة..

 عند صعودنا السلم شعرت بخوف غريب.. فكرت ان الامن قد يداهمون المجلة لحظة وجودنا.. وكنت افكر بمصير سوسن .. سيما ان قصصا رهيبة عن فتك رجال الامن يتداولها أعضاء حزب السلطة اكثر مما نتداولها نحن . على اية حال. كانت بقية أغنية سوسن ترن في اذني ونحن نصعد السلم المؤدي للشقة التي تشغلها سكرتيرة التحرير ..

(لا اشجعك جزافا فأنت كاتب قصة موهوب.. لكن ما كتبته مريب ومؤذي ومدمر !! ليست شجاعة منك ان تساق الى المحاكم او منصات الإعدام.. ان كنت ماركسيا فعليك ان تحفر في الصخر من اجل شعبك.. الثورية ليست في الانتحار.. الثورية في البناء.. الثورية ان تكون مهندسا جيدا او محاميا تتبنى شؤون المحرومين.. او طبيبا تعالج المرضى من الأطفال والامهات والاباء.. ان تكون شيوعيا حقيقيا.. لا يعني ان تهتف جملتين ثم تموت.. بل هو نضال قد يستغرق كل عمرك الممتد .. قاطعتها.. ولكن.. دكتورة ... انهم يهدمون كل شيء.. انهم قتلة.. انهمــ رفعت يدها وكأنها تأمرني بالسكوت: لقد قلت ما عندي.. وليس من مزيد.. ان الشعب لا يموت.. حتى وإن تطلب الامر ان تكون (سيزيف) تحمل الحجارة لأعلى الجبل وتسقط الف مرة.. ينبغي ان تعيد المحاولة.. لا ان تنتحر.. كانت سوسن فرحة برد الدكتورة.. وقد خرجنا راضيين مبتسمين.. وقد مزقت أوراق قصتي ونثرناها معا في نهر دجلة... الدكتورة وحدها اقنعتني بترك فكرتي الصبيانية بالانتحار..

 فارقت سوسن.. ولم تفارقني ذكراها.. هجرت بغداد وبعقوبة وتنقلت في اكثر من بلدة.. هجرت السياسة والكتابة.. لكني لم اهجر القراءة.... أعطيت براءة من الحزب تحت وطأة تعذيب مر.. ولست نادما.. فالحزب ليس مدرسة لتخريج الشهداء والمعاقين.. الحزب ان لم يخلق في بيئة صحية ترتضيه وتتقبل أفكاره وتحميه لا حاجة للناس به.. هذا ما اقنعت نفسي به.. حينها فقط استطعت من تأسيس اسرة مرت معي بظروف شتى متقلبة بين العوز والحرمان والسعادة والرفاه.. مات كثيرون من رفاقي واصحابي .. لكن فاجعتي بموت قاسم الدفاعي المبكر كانت رهيبة.. لكن هول ما كنت امر به من مآسي جعلني اتقبل الامر فيما بعد.. ثم اخبرت بموت خليل الشاعر قتلا .. وأسر سعيد.. وهجرة نادر وعشرات من زملائي ورفاقي ونداماي واصدقائي.. صبري هاشم الشاعر البصري وحنش (أبو كاظم) صديقي وابن خالتي.. وجمال الحجاج ومنير الحجاج. وشريف الحجاج الذي غيب (وهو صديق احمد مطر الشاعر الكبير)... وجمهرة من الشهداء.. رهيبة هي الحياة وسيزيف لم يعد يتحمل..

 في عام 2004 كنت اطالع عددا من اعداد جريدة طريق الشعب.. ماذا تتصورون اني قد قرأت فيها وماذا فهمت؟؟ طالعتني صورة سوسن الجميلة الوديعة. واسمها الأثير /المحبوب / والقريب مني .. سوسن لم تكن قد كتبت مقالة او نشرت خبر زواجها او زواج ابنتها.. سوسن نشرت الجريدة صورتها واسمها من ضمن الف شهيدة وشهيد من شهداء الحزب الشيوعي.. سوسن تم اعدامها في عام 82.. وكنت حينها امضغ الغبار جنديا في حرب الخليج الأولى.. كنت قد نسيتها تماما وسط تلك الحرب... لكن النبوءة.. نبوءة (أقصوصتي) المكتوبة عام 77 والتي تبدأ احداثها عام 2001 والتي مزقناها ونثرناها معا في دجلة ؟؟!! اعتقد ان كتابة حرف زائد بعد هذا.. سيكون.. محض .. .... .....

(وبوسط القلب.. آآه .. على شفافي مرارة حيف ....).

 

سلام كاظم فرج -  بابل

 2014

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم