صحيفة المثقف

سليمة اسم على مسمى

moamar baktawi2قبل أربعين عاما أُعجبت بسليمة، رأيت فيها الرّقة والجمال والحِلم والدفء والصّفاء والنّقاء والحيّاء والبّهاء والطّهر والطّهارة... بلّورةٌ رمَت بها أمواج بحرٍ لازوردي، عودُ خيزرانة، جوهرة في جيد رئم في أعوامها الأولى. عرفت ثلاثة أنواع من النساء، حفرت أطيافها في ذاكرتي، وما تبقى ليس إلا توابع وفضلة: النوع الأول سليمة، والثاني حورية، والنوع الثالث لا أستطيع أن أسميه.. نكرة، أنا الوحيد الذي أعرت لها اسما. نصفها مغربي ونصفها جزائري، خطبتها على سنة الله ورسوله.. فتاة غامضة، تحبّ مباهج الحياة ونظارتها.. نظرت إليّ في حقارة وأغمضت عينيها.. أغراها شاب في العشرين، أحبته وذهبت معه، وعاشت شبه مشردة، تائهة تبحث عن أثرياء وبرجوازيي الرباط.

قالت في نفسها: "إن أنا اقترنت به سيدوّخني بكتبه القديمة، الصفراء والبيضاء التي يغص بها البيت حتى السطح، وأنا أريد أن أعيش... أن أتمتع بشبابي... أن أحيا بعيدا عن البؤس والكتب والمنغصات... أريد أن ألبس ما أشتهي، وأشتري الأشياء التي تعجبني، وأن أسافر بعيدا.. بعيدا لقضاء شهر العسل.. فالحياة رحلة قصيرة، ولا يمكن أن أحرقها بين جدران أربعة، وبين كثبان من الأوراق. وأنا عاشق الكتب والحروف، تَسبحُ الحروف خلايا في دمي، ومن يعشق الكتب تفرّ منه الملائكة والورد والكأس والجاريات والجارات والجداريات، ويعايش القليل من الأصدقاء ولا يعرف معنى الحب".

سليمة، اسم على مسمى.. شَعْر كموج البحر أرخى سُدولَه علّي ليبتلي فابتلاني فكنت المُبتلى. كنت أجلس على عتبة دار جدّها صيفا وقت الظهيرة، مع أطفال أشقياء أمثالي، وحين تأتي إليه أيام الآحاد والعطل، أتواجد قبلها بساعات في حرّ الهاجرة. لم أكن أعرف القيلولة... تقول لي سليمة: لا تجلس في هذا المكان، فهو متسخ. وتأتيني ب(هيدورة) من دار جدها، فتنفجر طاقتي، ولكني لا أستطيع أبين. كان ينقصني التعبير بدون رمز، وما تعّلمت البوح والكشف حتى ذهبت إلى المدينة التي تبدأ بالميم وتنتهي بتاء مبسوطة.

سافرت عنّي سليمة، وتركتني حزينا. بتّ أياما كئيبا. انتظرتها، أمهلتها... وعادت أخيرا سليمة عليلة. وكيف تمرض ونحن نبضان متدفقان؟ وكيف يمرض نصفي ويبقى نصفي حيّ؟ رآها الأطباء... حزنوا، ونظروا إليّ وانصرفوا... كيف أستطيع... لا... مستحيل. لا تقولوا أنك لن ترى سليمة بعد الآن...لا... لا... يتردّدّ الصدى في الجبال والمغارات والمفازات، تسمعه الوحوش والنمل والفراشات... بحّ صوتي. انتفضتُ كحيوان ذبيح... ذابت لحزني الأزهار والورود، وحنّت لأوكارها العصافير الحزينة. أترى ألم تعد سليمة من هذا الوجود.

 

د. معمر بختاوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم