صحيفة المثقف

الثياب الممزقة وهجنة الذوق

mohamad saedsamadiأ- تأصيلُ اللباس: يعتبر اللباسُ من الحاجات الأساسية لبني البشر منذ وُجِدَ، ولعل من أهم ما اعتنى به الإنسانُ الأولُ اعتناءً كبيرا اللباسَ، سواء لحاجةِ اتقاءِ شرِّ الحَر أو البرد أو لغرض السِّترِ وإخفاءِ ما جُبِلَ وَفطِرَ على حرجِ إظهاره وكشفه للناظرين. وهنا يبرز موضوع " النظر" المرتبط ارتباطا وثيقا أيضا بموضوع اللباس والثياب. وهو ما حدا بأحد محدثي وأعلام القرن السابع الهجري أبي الحسن علي ابن القطان الفاسي (562 628هـ) أن يُحرر مصنفا دقيقا وَسَمَهُ ب" النظر إلى أحكام النظر". وفي طالعته مهَّدَ بالقول:" حاسة البصر أحدُ أبواب القلبِ، وأعمر الطرق إليه وعملُها أكثر أعمالِ الجوارحِ وقوعا وتكراراً ما عدا التنفس، وقد تقرر الشرعُ بطلبِ النظر بها في مواطن كثيرة؛ إما على جهة الوجوب وإما على جهة الندب، وليس ذلك من غرضنا، وتقرر الشرع أيضا بالنهي عن النظر بها وإيجاب غضها أو الندبِ إليه في مواطن كثيرة، وإباحته والعفو عنه في مواطن كثيرة..."(1)

وبفعل الحاجة البيولوجية إلى التغطية والستر، نبه الباري تعالى، خالقُ الإنسان في أحسن تقويم وأبهى صورة، إلى عناية بني البشر جميعِهم أولِهم وآخرِهم بحتمية وضع اللباس وبيَّنَ وظيفيته الحقيقية في بيئةٍ يتعايش فيها الناسُ ويتكافلون ويمرحون ويحزنون ويتحاربون ويقضون مصالحهم ويخدم بعضُهم البعضَ، فقال تعالى:" يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ"(2). سيظل اللباسُ عند الأممِ  تحررت الشعوب أم حافظت على قيمها وأصالتها  منذ معصيةِ آدم الأولِ وسقوطِ ثيابه عنه عنوة لا اختيارا وتحرراً إلى يوم الناس هذا ومستقبلِهم، طقساً اجتماعيا وحاجةً بيولوجيةً وأمراً إلهياًّ صريحاً يحفظ للجماعات خصوصياتِها الإنسانيةَ وجماليتَها المطلوبة.

فاللباسُ حسب صريح الآية يُدلل على وظيفتينِ أساسيتينِ هما: السترُ والريشُ؛ السترُ لما تتأبَّاه الأفرادُ والجماعاتُ وتعافهُ النفوسُ أن يتعرض للظهور أمام أعين الآخرين، أيا كان هؤلاء، قرابةً أو غرابةً.

والريشُ: التجمُّلُ والتزيُّن، وهو استشعارٌ بالعمق الجمالي الذي فُطِرَ عليه بنو آدمَ في تحسين مظهره واختيار المناسب لوظيفة الستر وحماية الجسد من الضرر المقرون بجمالِ المنظرِ ورعاية المقامات والمناسبات...قال ابن منظور في لسان العرب:" والريشُ والرِّياشُ: الخصبُ والمعاشُ والمالُ والأثاثُ و اللباسُ الحسنُ الفاخِرُ،... وقال محمد بن سلام: سمعتُ سلاماً أبا منذر القارئ يقول: الريشُ الزينةُ، والرياشُ كلُّ اللباس"(3). ومما جاء في آيِ الكتابِ المحكمِ في الحثِّ على التزين بالرِّيشِ من الثياب؛ مع الملاحظة أن النداءَ جاء لبني البشر جميعا قوله تعالى :"يا بني آدم  خذوا زينتكم عند كل مسجد"(4).

وتؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي أهمية اللباس وطريقته وألوانه وفخامته ورِقْعَتَه ودورَ كلِّ ذلك في الانسجام والتوافق المجتمعي والتصنيف الطبقي، ومدى الوعي بالخصوصيات الثقافية والأعراف والطقوس والموروثات و مراعاة المناسبات والمقامات...

وعقَّبتِ الآية الكريمة أنَّ لباسَ التقوى والتزينَ والتحليَ بقلائد ودررِ الفضائل والمُثل والتوَقِّي من الرذائل والمهلكات هي أجملُ ما يلبسه المرء ويستتر به، ذلك خير.

ولقد أمسى التجوُّزُ في اللباس والتفريطُ في قيَمِهِ وحدودهِ، خاصة عند المرأة،  حتى ظن البعضُ أن الأمرَ ليس ذا بالٍ وذا محاسبةٍ؛ يقول الدكتور يوسف القرضاوي:"...ومثل ذلك من أفتى بأن لبس الثياب القصيرة التي تكشف عن الذراعين والساقين، أو الشعر، والتي تشِفُّ وتصِف  على ما نرى عليه ثياب الحضارة الوافدة على المجتمع الإسلامي  ليس أكثر من صغيرة من الصغائر يُكَفِّرُها أداء الصلوات ونحوها... ولو سلمنا أن لبس الثياب المذكورة من الصغائر، ينقلها إلى درجة الكبائر، كما هو مقرر عند العلماء، حتى قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"(5)

ب-   تهجين الذوق:

إذا تقرر أن اعتبار الذوق يشكل ركنا في أدبيات فن التجمل باللباس عند الأممِ، فإن الجماعات في مختلف أعصارها وأمصارها صانت لهذه الفضيلة والقيمة الجمالية حُرمةَ المراعاة ومكانةَ الاعتبار في المقاسات والألوان والشكليات؛ ورسخت تقاليدَ نمطية محددة لمقامات الحزن والأسى ومناسبات الفرح والمسرات، وألبسةَ خاصة بالبيوت والحجرات، وأخرى خصَّتها لمقامات استقبالات الأعيان والكبار وتشريف الضيوف. وكانت دائما الجماعاتُ تحافظ على قيم اللباس المشتركة ومعايير الذوق المراعية  لأعراف البلدان وتقاليدهم وخصوصياتهم وآدابهم في المناسبات والأيام المعظمة عندهم...

لقد أضحت مظاهر اللباس اليوم عند فئة من الشباب والشابات تنحو منحى الشذوذ والتهجين، مما يفسر فعلا الدَّرَكَ الاستلابي والاستهلاكي لثقافة الموضة الموجَّهة والمخَطَّط لها من صُناع الهندسة الفكرية والقِيمية في العواصم الغربية. وبدأت تظهر في البيئة العربية والإسلامية فئاتٌ تصنع جماعاتٍ نفسيةً مغايرةً لقيم الجماعة الواحدة؛ وتصنعُ لنفسِها غربة ً داخل فضاءات عمومية أو خصوصية، تُسَبِّبُ حرجا كبيراً للناظر والمنظور إليه؛ إذِ الْأصلُ في الحرية الاجتماعية التعايشُ والمراعاةُ واستحضارُ ما تبقَّى من القيم المشتركة بين الناس بمختلِف أجيالها، " فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ."(6)

وأضحت مؤسسات التربية والتعليم العالي فضاءً لخروقات تتجاوز المبادئ البيداغوجية والالتزام بقواعد جماعة الأقران والزملاء؛ وانعكست وضعيةُ الألبسة وخاصة الممزقة سلباً على سير العملية التعلمية التعليمية، بسبب عدم الاحترام المتبادل وانتهاكِ أعراف اللباس والهندام التربوي، كإبراز أجزاء حساسة مثيرة لألوان من الشغب والسخرية والكلام النابي، تُعكر صفاء الدرسِ وتُحوِّلُ الصفوفَ الدراسية من أمكنة مناسبة لاكتساب التعلمات والمعارف والمهارات والقيم إلى فضاءات موبوءة ومُقلِقة ومزعجة، تُفوِّتُ فرصَ التلقي المرح والهادئ والتركيز المطلوب للعديد من الطالبات والطلبة...

بل إن سكينةَ المساجد وقداستَها، وهي المخصوصة بالتوجيه الإلهي للحرص على أخذ الزينة المطلوبة المراعية لخصوصية ظرف التعبد، أصبحت أيضا تعرف حضور ألبسة شبابية ممزقة لا تناسب البتة حرمة المكان ولا معايير الستر للعورة المطلوبة أثناء أداء الصلوات، بلهَ إخلالها بالحياء العامِ المستهجن في الفضاءات العمومية. أذكرُذات ليلة رمضانية كان يصلي بجانبي أثناء تراويح الفجر شاب لا يتجاوز العشرين سنة، أثار انتباهي أثناء جلسات بعد السجود تتوسع الأجزاء الممزقة من السروال حتى تبدو أطرافه بشكل مثير، فلما نبهته بلطف كبير، استحيى واعتذر لأنه لا يعلم بحدود العورة في الصلاة، وأخبرني أنه كان مع صديقه في سمر ليلي ولما اقترب الفجرُ آثَرَ تنفلَ صلاة التراويحِ مع مقرئ جميل قبل أن يدخل بيته للخلود للنوم، وبعد التسليمِ من أداء ركعتين لاحظت أنه أخذ قميصا زائدا وانتصَفَهُ ساترا ما بدا من فخذه، وتيقَّنْتُ أن أبناءنا تغمرهم البراءة والحياء رغم المظاهر الزائفة التي يَحشرهم فيها محيطُ الأقران ووسائلُ الإعلام والمناهجُ التربويةُ المحبِطةُ للقيم ...

يجبُ التنبيه إلى أن اللباسَ ذوقٌ وتجملٌ، تُراعَى فيه المقاماتُ والمناسباتُ، وتُحترم فيه القواعدُ والفوارقُ، والخصوصيات والحرياتُ، والأماكن العامة المشتركة وحُرمات البيوت الخاصة، وهذا الوعيُ يجعل المرءَ يتحرك في حياته دونما حرج أو إحراج، بل في احترام وتوقيرٍ وانسجام تام مع أبناء جماعته وأقرانه.

أصبح العالمُ قريةً صغيرة يربطها رابط الشبكة الرقمية التي سرَّعت التواصل البشري، ونوَّعت الثقافات ومجالات الترفيه والاستهلاك، لكن ذلك يجب أن يبقى في حدودٍ تحفظُ قيم الجماعة واستقرارها النفسي والأمني والروحي والوطني.

 

د  محمد سعيد صمدي/ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

.........................

(1) النظر في أحكام النظر بحاسة البصر:14 / عناية الدكتور فتحي أبو عيسى/  ط1/ 1994/ دار الصحابة للتراث/ طنطا.

(2) الأعراف:26.

(3)  لسان العرب/ مادة ريش.

(4)   الأعراف: 31

(5)  تحرير المرأة في عصر الرسالة:1/16/ تأليف ع الحليم أبو شقة رحمه الله/ تقديم محمد الغزالي وتقديم يوسف القرضاوي/ط1/1990/دار القلم للنشر والتوزيع/الكويت.

(6)   هود: 116

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم