صحيفة المثقف

التناقضات والمغالطات التاريخية في قصة ولادة يسوع الناصري

jafar alhakeemنستكمل في هذا المقال تتبع تفاصيل قصة ولادة يسوع في المصدرين الوحيدين اللذين تطرقا لهذه القصة (انجيلي متى ولوقا) مع محاولة عرض تفاصيل القصة على الشواهد التاريخية وكذلك سنحاول مطابقة تفاصيل القصة في المصدرين المذكورين.

انجيل(متى) كان هو المصدر الاول والاقدم زمنيا لقصة الولادة، حيث يبتدأ ذكر تفاصيلها من الاصحاح الاول، ويستمر بها الى نهاية الاصحاح الثاني، ومن متابعة سرد القصة في هذا الانجيل، تتبين لنا عدة امور ذكرها الاشخاص (المجهولين) الذين كتبوه وهي:

ان والدي يسوع كانا يسكنان في مدينة بيت لحم، وقد ولد يسوع فيها (متى 1/2)

ولد يسوع ايام حكم الملك هيرودس، بعد ذلك يصل رجال مجوس من الشرق، إلى أورشليم حيث يسألون عن مكان ملك اليهود المولود توا، والذي رأوا نجمه وهم في الشرق!

يستوضح الملك هيرودس الأمر من رؤساء وكهنة اليهود، فيخبره العلماء اليهود أن ثمة نبوءة بظهور ملك يولد في بيت لحم، يرسل الملك هيرودس الرجال المجوس ليذهبوا ويجدوا الطفل المولود ثم يعودوا ليخبروه عن مكانه!

يذهب المجوس الى بيت لحم، ويقودهم النجم المتحرك في السماء مرة أخرى!

يتوقف هذا النجم فوق البيت الذي يسكنه آل يسوع. يقدم الحكماء هدايا من أجله ثم يحذرون (في حلم) من العودة إلى الملك هيرودس كما قد طلب منهم،فيسلكون طريق آخر عند عودتهم إلى وطنهم!

يصاب الملك هيرودس بالغضب والهلع خوفا من الطفل الذي سيسلبه ملكه، فيرسل جنوده ليذبحوا كل طفل ذكر من سن عامين فما دون في بيت لحم وما حولها. لكن الملائكة تنذر يوسف في (حلم) رآه، فيهرب ومريم ومعهما يسوع من المدينة قبل أن تبدأ المذبحة ويسافرون إلى مصر.

يبلغ يوسف فيما بعد وهو في مصر في (حلم) أن هيرودس قد مات، وأن بمقدورهم العودة، لكنهم حينما يكتشفون أن أرخيلاوس، ابن هيرودس، هو الحاكم على اليهودية، يقرران ألا يعودوا الى (مكان سكنهم) بيت لحم، ويذهبوا عوضا عن ذلك إلى الجهة الشمالية من الجليل، إلى مدينة تدعى الناصرة. وهناك في هذه المدينة يترعرع يسوع!

من تفاصيل قصة انجيل(متى) نعرف ان والدي يسوع كانوا يسكنون مدينة بيت لحم، وبعد رحلتهم الى مصر لم يستطيعوا العودة اليها، فتوجهوا بدلا عن ذلك الى مدينة الناصرة!

ان القصة التي سردها السادة كتبة انجيل (متى) امتازت بأمرين لافتين، لا يمكن لأي باحث اغفالهما !

الامر الاول:

هو عدم معقولية بعض الاحداث، والتي لا تتسق مع المنطق السليم، مثل، طلب الملك هيرودس من الرجال المجوس الذهاب والبحث عن الطفل المولود ثم العودة اليه لاخباره عن مكان الطفل، وهو جالس ينتظر!

فهذا التصرف الساذج، لا يمكن تخيل صدوره عن ملك حاسم، حذر، وماكر وكثير الحيلة، كما تصفه المصادر المسيحية!

فهل كان هيرودس عاجزا عن ارسال جنوده مع المجوس، او على الاقل مراقبتهم عن بعد، وتتبع (النجم) الذي تطوع ليكون دليلا للمجوس، كي يرشدهم لبيت المولود الجديد؟!

ومثال آخر، وهو رد الفعل الباهت والغير مكترث من رؤساء و كهنة اليهود حول خبر ولادة المسيح الموعود!

فكما هو معلوم، ان اليهود كانوا ينتظرون بفارغ الصبر ولادة المسيح المخلص لهم، والذي سيشيد لهم مملكتهم ويخلصهم من نير ظلم الامم، والاحتلال الروماني، ومع ذلك، نجد قصة انجيل(متى) تذكر ان اليهود ورغم تأكيدهم لهيرودس نبوءة ولادة الطفل في بيت لحم، لكنهم لم يكلفوا أنفسهم ويعملوا اي شئ ليتحققوا من صحة خبر ولادة مخلص شعب اسرائيل!

رغم انه كان يكفيهم مجرد رفع رؤوسهم الى السماء ومتابعة النجم الذي يسير امام المجوس!!

الامر الثاني:

هو ان الكتبة المجهولين لانجيل (متى) وعلى طريقتهم المعتادة في هذا الانجيل، كان تركيزهم منصبا على ربط احداث القصة بنبؤات من العهد القديم، ليثبتوا ان كل مجريات الاحداث، انما هي تحقيق لتلك النبوءات!

ومن اجل ذلك قاموا باقتطاع عبارات وجمل من العهد القديم، واخراجها من سياقها، واحيانا اخرى قاموا بفبركة نبؤات مكذوبة ليس لها وجود في نصوص العهد القديم!

فمثلا، نجد الانجيل يذكر النبوءة التالية :

(أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ) سفر ميخا 5

ورغم ان هذا الكلام الوارد في سفر (ميخا) يتحدث عن زمن سابق في فترة حروب الاشوريين، ولا علاقة لها بزمن ولادة يسوع، مع ذلك، هذه النبوءة اصلا لم تتحق بيسوع، الذي اقتاده بنو اسرائيل الى الموت صلبا، بدلا من ان يتسلط عليهم كما ينص صريح الكلام في النبوءة !

ولم يكتف كتبة الانجيل بذلك، بل قاموا باختراع قصة حدث مكذوب لا وجود له بالتاريخ، ولم يذكره او يشير اليه اي مصدر تاريخي، بل ولا حتى بقية اجزاء العهد الجديد، واعني، حادثة مجزرة أطفال بيت لحم ( المزعومة) والتي امر بها هيرودس حسب ادعاء انجيل (متى)

هذه الحادثة المفبركة، سطرها كتبة الانجيل لغرض ربط قصة الولادة مع عبارة وردت في سفر ارميا تتحدث عن بكاء (راحيل) على اولادها، ليجعلوا من هذه الجملة نبوءة اخرى !

(صوت سمع في الرامة نوح و بكاء و عويل كثير راحيل تبكي على اولادها و لا تريد ان تتعزى لانهم ليسوا بموجودين)

وكذلك نجد كتبة الانجيل قد اوردوا جملة مبتورة من العهد القديم ليوهموا القارئ، انها نبوءة اخرى تتحدث عن يسوع!

(وكان هناك الى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني) متى 15/2

بينما نجد ان هذه الجملة في العهد القديم تتحدث عن اسرائيل(يعقوب) الذي بتر كتبة الانجيل اسمه من الجملة!!

(لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي) سفر يهوشع 11/1

واخيرا قام الكتبة المجهولون باختتام القصة، بنبوءة مفبركة لا اصل لها و لا وجود في العهد القديم، ليربطوا من خلالها سبب توجه العائلة المقدسة الى مدينة الناصرة بعد عودتهم من مصر !!

 ( واتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء انه سيدعى ناصريا) متى 23/2

وعندما نذهب الى المصدر الثاني الذي تطرق الى قصة الولادة، انجيل (لوقا) نجد ان هذا الانجيل يتحدث عن صدور قرار من الإمبراطور الروماني أغسطس بوجوب أن يتقدم كل فرد في الإمبراطورية للاكتتاب العام من أجل التعداد، وقد جرى هذا الاِكْتِتَابُ حين كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيا على سُورِيَّةَ. وكان على كل فرد أن يعود إلى وطنه الأصلي لكي يتم الاكتتاب. ولأن أجداده كانوا من بيت لحم(، اضطر يوسف الى السفر برفقة مريم خطيبته من المدينة التي يسكناها (الناصرة) إلى مدينة اجداده ( بيت لحم) وبينما هما هناك، تلد مريم وليدها يسوع، فتقمطه بقطع من الأقمشة واضجعته في مزود

(إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي النزل)، بعد ذلك بثمانية أيام يختن يسوع. وبعدها يقدم يسوع إلى الرب في الهيكل ويقدم والداه الأضحية التي عينتها الشريعة الموسوية من أجل هذه المناسبة، وبعد تأدية كل ما طلبته منهما شريعة الرب فيما يتعلق بميلاد الابن البكر، يعود يوسف وزوجته مريم الى مدينتهما (الناصرة) حيث سيتربى يسوع (انظر لوقا 2)

ومن هذه القصة نلاحظ، عدم وجود اي ذكر لاي نبوءة سابقة حول الطفل الموجود، ولا يذكر الانجيل شيئا عن هروب العائلة الى مصر، وليس هناك ذكر للمجزرة الفظيعة التي أمر بها هيرودس، وبدلا عن ذلك نجد ان كتبة هذا الإنجيل يخترعون قصة الاكتتاب الذي امر به الامبراطور، وهذا الخبر التاريخي لاصحة له، حيث لم تورد المصادر التاريخية التي أرخت للامبراطور اغسطس انه امر باي اكتتاب في الفترة الزمنية التي ولد فيها يسوع الناصري!

ان سبب اختراع قصة الاكتتاب، هو لغرض إيجاد مبرر لسفر يوسف ومريم الى بيت لحم، من اجل تجنب ذكر الحقيقة التي لا تخدم كتبة الانجيل، وهي ان الطفل يسوع قد ولدته مريم في مدينة الناصرة التي تسكن فيها مع زوجها!

وهذه النقطة بالذات ابرزت لنا تناقضا كبيرا، مع القصة التي سردها انجيل(متى)، الذي ذكر ان مريم ويوسف يسكنون في بيت لحم، وقد اضطرا لاحقا الى الذهاب الى الناصرة بعد العودة من مصر!

بينما انجيل(لوقا) يذكر لنا ان مريم ويوسف كانوا يسكنون في الناصرة، واضطرا للسفر الى بيت لحم للاكتتاب!!

ويذكر لنا انجيل(لوقا) تفصيلة مهمة ومثيرة في قصة الولادة، وهي ذهاب مريم وزوجها مع وليدهما الى اورشليم، لغرض إتمام الطقوس اليهودية الخاصة، بالمولود الجديد

(ولما تمت ايام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به الى اورشليم ليقدموه للرب) لوقا 22/2

ويحدد لنا الانجيل فترة سفرهما إلى أورشليم، وذلك بعد اكتمال (تطهر) مريم من النفاس

وهذه الفترة حسب الشريعة اليهودية محدودة بثلاثة وثلاثين يوما بعد الولادة، لأن جنس المولود ذكر!

(كلم بني اسرائيل قائلا اذا حبلت امراة و ولدت ذكرا تكون نجسة سبعة ايام كما في ايام طمث علتها تكون نجسة

وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته.ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوما في دم تطهيرها كل شيء مقدس لا تمس والى المقدس لا تجيء حتى تكمل ايام تطهيرها) سفر اللاويين 12/2

و يخبرنا الإنجيل ان مريم وزوجها و وليدهما، وبعد اكتمال الطقوس الخاصة بالمولود الجديد، قد قفلوا راجعين الى مدينتهم التي يسكنون فيها ( الناصرة)

(ولما اكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا الى الجليل الى مدينتهم الناصرة) لوقا 32/2

وهذا يعني ان مريم وزوجها يوسف وطفلهما، قد ذهبوا الى اورشليم بعد فترة (ثلاثة وثلاثين الى اربعين) يوما من ولادة يسوع، قدموا القرابين الخاصة بالمولود، ثم رجعوا الى مدينتهم الناصرة

لكن، الامر الذي يثير العجب والاستغراب، ان انجيل (متى) كان قد اخبرنا ان مريم وزوجها وطفلهما، في هذه الفترة كانوا هاربين في مصر، لكي يتجنبوا المجزرة التي امر بها هيرودس لاطفال بيت لحم، كما قدمنا سابقا!

وهذا يعني ان عائلة يسوع كانت في مكانين مختلفين ومتباعدين، في نفس الفترة الزمنية!

من هنا يتضح لنا، استحالة التوفيق بين هاتين القصتين اللتين تضمنتا تفاصيل ينقض بعضها بعضا، وان التصديق بقصة انجيل (متى) يستلزم تكذيب قصة انجيل(لوقا) والعكس صحيح!!

واذا اضفنا الى ذلك الاحداث التاريخية المغلوطة، والتي لا يوجد لها اصل ولا حتى اشارة في المصادر التاريخية التي ارخت للامبراطورية الرومانية، مثل اكذوبة مذبحة اطفال بيت لحم، والاكتتاب العام في زمن الامبراطور اغسطس والحادثة الكونية الفريدة المتمثلة بالنجم السماوي الذي كان يسير مع المجوس، فسوف نجد ان كل هذه المغالطات والتناقضات تهوي بالقصة الى الدرك الاسفل من ناحية المصداقية و الوثوقية التاريخية !

 

د. جعفر الحكيم

حوارات في اللاهوت المسيحي 25

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم