صحيفة المثقف

الهجرة

sardar mohamad2الذكريات كرياح الصحارى تهب محمّلة رمالاً حارقة ومارج من لهب يُنفث من مناخيروحش خرافي، بعض الأحايين تكون عليلة بليلة كأنفاس العاشقين تحملتها نسمات آتية من الجبال.

ذكريات واسعة لاتنسى عن زقاق ضيق قذراتخذت فيه مياه الصرف الصحي ساقية وسطه .

عليّ الحذرعند مروري من الفوهات التي يتسرب منها إلى حوض تحت سطح الأرض يؤدي في النهاية إلى مبزل مكشوف يحد الحي .

ليلاً يحمل رجال الحي مصابيح يدوية خوف التعثر، بينما نهاراً يحمل الصبية الحجارة والحصى لقذف جرذ بحجم أرنب يتقافز بحرية فينتهي وليمة شهية للقطط القادمة من السوق في الشارع الرئيس حيث باعة الخضار المعروضة بشكل غير منتظم ويلبسون ثياباً فضفاضة تُشد على خصورهم بأحزمة جلديّة عريضة غالباً ما تكون مبللة بعصير الطماطم .

بين سلال الخضر والباعة والباحثين عن أرخص الأسعار ثمة كلاب لا يعرف عمَ تبحث، ولا يخلوالسوق من تجول الماعز والخراف الباحثة عن قشور البطيخ والرقي وأوراق (السلق والخس) .

وبرغم هذا العيش المزري إلا أن طيبة البشر والتكافل والتعاون يفوق مناطق السكن البرجوازيّة .

إبنة خالي الكبرى والتي ألقّبها اميرة الفقراء كانت تثور إذا سمعتني أناديها بهذا اللقب، وتلاطفها أمي قائلة: لا يزعجك اللقب فبعد زواجكما سيصير هو أمير الفقراء.

كانت أمي ترغب في زواجي منها في أقرب وقت، لا سيما وقد صرت مدرساُ في ضاحية قريبة من بغداد.

صارت ابنة خالي تتقرب منّي مستغلة الفرص المتاحة لتحدثني عن الحياة والمستقبل حديثاً ضحلاً لا أستسيغه فكنت أتجنبها لئلا أثيرالإنتباه، وأسرّت إلىّ أمي خشيتهامن فتيات المنطقة التي عيّنت فيها فمن الشائع تفوقهن بالجمال والرقّة وتعرف أن أمي لا تخفي عنّي أمر كهذا، فتشعرني بغيرتها عليّ .

لبساطة أمي وسذاجتها كانت تصدقها في كل ما تقول، وحاولت أن أقنع أمي بأنها تمثل الحب فمثلها فتاة متمردة لا تحب إلا نفسها، فأشارت أمي إلى أختها الصغرى ولما أبيت قالت :كيف تجازي خالك الذي احتضننا سنين؟، فأحرجتُ وأخبرتها أن ابنة أخيها الصغرى لشدّما تعجبني وودت لورُشحَت لي قبل فوات الآوان فهي واقعة في غرام ابن جارنا الشاب الوسيم والذي سيق للخدمة العسكرية ككل الخريجين وسيخطبها هذه الأيام.

توفى خالي في السجن قهراً لفقدانه ابنتيه، فالكبرى قضت ضحية مجتمع قاهروالصغرى ضحية سلطة قاهرة، وكانتا السبب الذي جعل أبي الأمي يحفزني على مغادرة بغداد تلقاءمحافظة أخرى، لكن صديق لي من الوطنيين التقدميين نصحني بالهجرة إلى الجزائر.

خالي أجهز على ابنته الكبرى بسكين المطبخ ومزق احشاء بطنها ومع كل طعنة يصرخ : أيتها السافلة خذي جزاءك ويطعن.... وطعنة أخرى ثم أخرى حتى قضت وسط صراخ أمها وأمي ونساء الحي.

صرنا حديث الحي والمقاهي والمجتمع الذي يجد في الثرثرة متعة .

 الصغرى الفتاة الشفافة الممتلئة ثقافة وسمرة أخاذة وغمّازتين في خدها التفاحي تحمل الفكر الماركسي منذ أن بدأت تعي الحياة .

سجنت لورود اسم زوجها المجنّد في خليّة شيوعيّة وهذا لا يتفق مع رأي السلطة، وأظهرت في التحقيق ذكاءً أدهش المحققين .

حكم على زوجها بالإعدام، فجعت المسكينة بعد زواج لم يبلغ عامه الثاني.

 وجدت بعد مدة قصيرة ميّتة في سجن النساء .

قال التقرير الطبي (سبب الوفاة سكتة دماغية وهي حامل في الشهر السادس) . مات طفل لم يرالنور، وتخلّصوا من عنفوان انثى عدّت متمردة بذكاء.

لم تقم أعتى الإمبراطوريات بالتخلص من الأذكياء المتمردين بالطرق اللاإنسانية، يذكرأن إياس بن معاوية دخل الشام وهو غلام في عهد عبد الملك بن مروان فتخاصم مع شيخ فقال له القاضي : أما تستحي تقدم شيخاً كبيراً فقال إياس : الحق أكبر منه، فدخل القاضي على عبد الملك بن مروان وأخبره الخبر، فقال للقاضي: أقض حاجته واصرفه عن الشام لا يفسد الناس علينا .

وثبت أنَ ابنة خالي الكبرى فاقدة العذريّة وهذا ما خلّصه من الإعدام و حكم على خالي بالسجن المؤبد إذعدّت الحالة غسلاً للعار.

 ترى كم من عاراقترفه الساسة يحتاج إلى غسل في أوطاننا العربية .

ولا أنسى قريتنا البائسة جداً التي خُلقت كغيرها من قرى العراق لتكون مثالاً لغضب الله، ومن المؤكد أني لا أكفرإذ أقول دمّر الله أكثر من قرية فسقَ مترفوها ولا ذنب للفقراء والكادحين .

بيوت قبيحة، لايحق لي أن أسميها بيوتاً وينطبق عليها وصف زرائب للحيوانات بل تعافها الحيوانات لقذارتها ووصفها بالأكواخ كثير بحقها.

 بنيت من القصب وسعف النخيل والطين لا تحمي من حرّأو برد، وسيّجت بعلب الصفيح الفارغة .

بهطول المطر شتاءً يشق في طين السقف وبين القصب أخاديداً فيقطر علينا وعلى مانملك من ملابس وفرش، فتعمد أمي إلى وضع قدورلجمع الماء المتسلل

 وتلك الليلة لا نوم فيها بسبب المعزوفات التي تخدش السمع جرّاء ارتطام الماء بالماء المتجمع في القدور وهذا العزف النشاز استثمره رجال الأمن في تعذيب المعارضين بجعل القطرات تسقط على الرؤوس الحليقة .

وبسبب تشبع جو الكوخ بروائح كريهة من مخلفات الحيوانات بدوره يخدش الأنوف لكنه لايوازي أنين أنثى حماريخدش الأسماع عند ولادة جحشاً ذا أذنين كبيرين ولولا المطر لجلبتها لترقد معنا فسبق وأن فعلتها مع معزتنا البيضاء خوفاً عليها من جفاف ضرعها.

وسمعت أبي يقول لأمي :لو أستطيع لبنيت كوخاً تحت الأرض يقينا من تقلبات الجو، فردت ما زال الوقت بعيداً لتسكن القبر .

وعندما هجرنا القرية وعشنا في بيت خالي المتواضع في منطقة شعبيّة ولفظة شعبية هذه تزويق للفظة فقراء وكادحين وأحسست بالفارق مع السكن الذي لايمكن بأي حال من الأحوال أن أصفه بغير الحيواني وبرغم صغر مساحته فإنه يعد جنة بالنسبة لأكواخ ترقص مع أقل ريح .

2

هجرت العراق مرغماً وفتحت لنا الجزائر ذراعيها فلابد أن أتحفظ في سلوكي وتصرفاتي سيراً مع القول الشائع " يا غريب كن أديب "

الآن أسكن في حي " لا فيجري " الجميل المطل على البحر المتوسط شمال منطقة شعبية تسمى " الحرّاش " وهذه اللفظة لا تتفق مع الأحياء الشعبيّة في بلدان عربية كثيرة سوى بصخب الباعة الطيبين والأسواق ومريديها .

حي "لافيجري " الفرنسي الإسم والذي يحلو للمتفرنسات لفظة " لا فيجغي " حديث البناء والحراش اسم عربي واعتقد أنه الأحراش .

 يقع في أقصى شرق العاصمة قديم البناء ولكن ناسه تغلب عليهم الطيبة رغم شعورسكان العاصمة بأنها موبوءة بالسراق والفساد وأرى أن هذا الإعتقاد بسبب بعدها عن المركزويقطنها الكادحون ووجود سجن مشهور فيها .

ولكني لم يعتريني هكذا شعورفأنا أتسوق من أسواقها وأتعامل مع أناسها يوميّا في

الغالب، وصادقني أحد باعة الفواكه فكان يخرج لي صناديق من مستوى منخفض عن أعين الناس تحتوي على فاكهة طازجة وهو يضحك مبرزاً أسنانه المتفاوتة حجماُ، وبين دقيقة وأخرى يضع في فمه بين خده ولثته كمية صغيرة من مسحوق لا أعرف ماهو وقد يؤثر كمادة مخدرة ولكني متأكدأنه يعوّض عن السجائر الأغلى ثمناً ومن لطفه يسألني :

يا شيخ (تشم)؟، وبعد معرفتي اللهجة الجزائرية فهمت المقصود من الشم هو مص المسحوق .

يعطي الشم راحة نفسية للذي تعود عليه ومن مساؤئه يحفر حفرة في اللثة فضلاً عن رائحته المزعجة ولعدم تمكني من اللهجة الجزائرية أخلط بين الأسماء المتشابهة .

يسألني: كالعدة تريد مشماش ومشمش ومشيمشة، وصندوق من (دجلة نور).

ويوماً سألني: شيخ، لماذا تُكثر من أكل التمر؟

فقلت: أن الجزء الأول من الكلمة يذكرني بنهر دجلة وهذا التمر لذيذ وشكله يشبه المصابيح، وألحّ في السؤال فأردفت همساً

ياسي قويدر، التمر منشط للجنس . فقال وهو يربت على كتفي :

يرحم (باباك) قلها أولاً .

 أعمل هنا كمدرس في مدرسة ثانوية تقع في أقصى غرب العاصمة وعليّ أن أقطع الطريق الموازي لساحل البحر المتوسط وأستغرق ما يقارب نصف ساعة لكي أصلها .

سيارتي ال (بيجو 204) تحمل لوحة زرقاء عليها حرفا - سي تي – وتعني متعاون فني وهذه تدل على أني غريب وأخبرني صديقي فرحان أنها ذات فائدة في اصطياد الفتيات.

خلال الطريق ألمح عدداً من الفاتنات اللابسات الثياب الجذابة وكأنهن يتبارين في انتقاء آخر الموديلات الفرنسيّة ويتنافسن في تسريحات الشعرمقلدات ممثلات السينما، لكن الحيرة تبدو عليهن لصعوبة الوصول إلى مركز العاصمة بوسائل النقل العامة التي غالباً ما تكون مزدحمة فيفقدهن التدافع أناقتهن .

لم أجرؤ يوماً التوقف لأقل واحدة منهن، ولو أن صديقي فرحان الخبير بإيصال الفتيات حتى أنه يسمى "خراش" وعُنّف وأنّب أكثر من مرة قال لي:

- أتعجب منك، هن يرغن بالوصول براحة ودون ثمن .

لمأقتنع بمزاعم فرحان فهي لا تناسب مانحمله من فكر تجاه المرأة لا سيما العاملة فضلا عن الجميل الذي ينبغي ردّه إلى بلد احتضننا في حين أن بلدنا نبذنا ومع أني لا أغالط نفسي برغبتي في أنثى تشاركني حزني وفرحي وليس كرغبة فرحان لا يهمه غير مشاركة الفراش .

3

إتجهت تلقائي أربع أو خمس من طالباتي تتقدمهن طالبة نحيفة القوام صفراء الوجنات وشعر كأنه الشوك غطته بقبعة حيكت بخيوط صوفية خضر وحمر فبدت كمهرج سيرك .

كنت أبتعد عن التحدث أو الإلتقاء بالطالبات تجنباً لحدوث مشكلة أو غيبة ونميمة تودي بي لاقتراف ذنب لم أقترفه كما حصل مع مدرس زميل إذ اتهم اتهامات باطلة في تصرفاته البريئة مع طالبة وألغي التعاقد معه،

رحت اركز النظرعلى الزهر والأكمام المتفتحة لتوها عبر سور بسيط من الأسلاك الشائكة يمكن لأي شخص برفسة واحدة ازالته .

تعمدت استغفلت قدومهن بينما كنت أراقبهن من طرف خفي والحق رغبت معرفة التحدث معهن، ولما وصلن قربي وتبسمن بادرت إحداهن فأخبرتني بعدم اجتياز السور الوطيء على وفق رغبة المديرة، فقلت بسري أنا لا أرغب إلا باجتياز الأسوار الحصينة، ولاحظت أن أجملهن كانت أقلهن كلاماً وتغنجاً .

طلبت منهن عدم إطالة الوقوف خارج الصف وفي وقت الراحة فغادرنني برضا لمعرفتهن قصدي ووجود مراقبة على حركات وسكنات الطالبات، وعند خروجي بعيد انتهاء التدريس ولحظة فتحتي باب سيارتي تناهى إلى مسامعي صوت يناديني : شيخ .. شيخ . فالتفت إلى مصدر الصوت فرأيت رجلاً يلبس اللباس الجزائري التقليدي بصحبته الطالبة ذات القوام المياد، ولما تقدم وصار قبالتي مد يده المعرقة بأوردة زرقاء وشد على يدي: أنا يا شيخ أب الطالبة فاطمة الزهرة وهي لا تفتأ تمدحك في معاملة الطلبة الأبوية وتثني على طريقة تدريسك .

أجبته: أنا شاكر لك حسن تربيتك لها، وأخبرته أن المدرس في العراق نسميه " مشط " فتبسم عن أسنان صناعية رديئة الصنع فسأل: ما ذا تعنون بهذا يا شيخ ؟

- نعني به م مادة وش شخصية و ط طريقة .

- وأنت تملك الثلاثة ياشيخ .

 - نحن ننادي المدرس أستاذ ويعجبني جداً منادادتكم بلفظة شيخ لما لها من وقع تاريخي .

بلى يا شيخ، عذراً أستاذ..... مبتسماً وانفرجت شفتا فاطمة الزهرة بابتسامة بدت معها أسنانها المنضدة.

 

الفصل الثاني من رواية متشتت

لكاتبها سردار محمد سعيد

نقيب العشاق بين بيخال ونياغارا.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم