صحيفة المثقف

فوضى المسمّيات

 rajaa baktia(للآن أحمل زيتهُ على القمح الّذي أنتقيه من المخابز، لكنّي لا أعثر على نكهة الزّيتِ الّذي عثرتُ عليهِ بين يديه..)، رجاء.ب

بدأت أعتاد فوضى الأخلاق الفالتة الّتي تمشي على قدمين. وأعتادُ، دهشة المفاجأة الّتي يتركُها أصحابُها فيّ بعد أن تسحَلَ عنهم ملابس الصالونات، وأتأكّد أنّ ملابس أخرى سحلبيّة النّسيج تتفتّحُ تحتها. لا عناوين لشراميحها، وتستمدُّ بقاءها من نداءات أصحابها المتسوّلة، والعيون، عيونها المبيضّة من شدّة العتَب.

بقيتُ من الّذين يقتل براءتهم الكذب. من الّذين لا يفهمون انمساح الأخلاق حدّ تسوّل أصحابها العزّة. ولا يعرفون معنى المداهنات. أبدا لم يجرّبوا أن يصفّقوا لمتحدّث يعرض حقائق نجاحاته وهي فشل مُحقّق  في حركات يديه وامّحاء عينيه. وأبداً لم يحصلوا على جوائز غير بريئة، ولم يركضوا خلف مكر المتنفّذين في أيّ سلطة ليسلّموا على أصابعهم الرّخوة ويشدّوا على عروقها المعقوفة لكثرة ما استدارت إلى الخلف كي تتأكّد أنّ عروة البنطال الّذي تتعلّق به لن تعود إليها ثانية. وبقيتُ أنا الّتي لم تُجِد دهن الأيّام الفاتنة بزيت الزّيتون والتّمتع بمذاقاتها الماتِعة، وأنا أوقن أنّ في قاع الموقد المشتعل أسفل روحي حجارة كثيرة رَجَمَت فرَحي طوال لحظات ألقي من صناديق الإبتسامات المستعارة، والدّفء البارد، وسكتّ!

 سكتّ لئلا أثير قحاب المُدُن الغريبة ضدّي، وأنا وحيدة بلا أهل يناصرونني وبلا شعب يقول هي لنا. ولكثرة ما أساءت المدُن لتاريخي المبلول بزيت الزّيتون الصّافي بدأت أجمّع التنّك، تنك الزّيت الفارغ لأدربكَ عليه كلّما رجَمَتني رذيلة بصابونها، أغنية السّاحر الّذي فقدَ لَحنهُ حين أطفأ لون اللّيل ببدعة، فصار أسود ككفّيهِ الحائرة.

زيت على قمح

ليتني تعلّمتُ في جيلٍ صغيرة أنّ البشر لا يحتفون كأبي بشحمِ المركبات وزيتها المعكّر كي يكسبوا قوتَ أطفالهم بكرامة. وأعتقد أنّهُ أبي هو من أساء تربيتي وعكّر مزاج قيمي، حين أصرّ أن يدّخر حقيقة كاذبة في رأسي تقول، أنّ كرامة البشر فوق كلّ شيء.

بعد هذه الحقيقة اكتشفتُ أنّ الكرامة كالزّبدة تُدهن عل خُبز مسروق أيضا وتقنعِ منتقدي فسادها بأنّ الفقر وضيق ذات اليد يجيزان الحرمنة الّتي تمارسُها. حين عدتُ إلى أبي واتّهمت يديه الرّاشحة بزيوت المركبات الزّراعيّة الّتي اصطّفت بباب ورشته بالدّور. بالكَذب نهرني قائلا، "الكرامة كالخبز لا تُباعُ بالسرّ يابا" وقدّم لي قطعة خبز علّمَتْ أًصابعه السّوداء عليها، وقطعة من خبز القمح الصّافي نقيّة، وسألني أيّهما أجمل، همستُ أمام الرّجال الّذين تحلّقوا حوله، "الخُبزة الّتي ختمتَ أصابعكَ عليها أجمل". ضحك ضحكته المنتصرة، وقال، "هكذا البشر، يابا، زيتٌ على قمح"

للآن أحمل زيتهُ على القمح الّذي أنتقيه من المخابز، لكنّي لا أعثر على نكهة الزّيتِ الّذي عثرتُ عليهِ بين يديه.

فأينُ هو الحقيقيّ والمغشوش؟ وماذا نفعل كي نكسب جولات المعرفة عن بعد مع الأصدقاء، وأناس الصُّدف؟ ودون أن نتورّط بالتّجربة؟

حَرْمَنة وبعد...

أتذكّر جيّدا دفتر الصّكوك المصرفيّة الّذي أقنعتني صديقة قديمة، وثقتُ بها، أنّه كلّ ديوني إليها، رغم أنّي أذكر جيّدا أنّ المبلغ الّذي استعرتُهُ منها لم يتجاوز ثلاثة صكوك لا غَير، سدّدتُ أحدها. كان المبلغ المتبقّي في ذمّتي لا يتعدّى منزلتين، وهي أصرّت أنّه ثلاث منازل. لقّمتها كلّ ما كان بحوزتي من ورق نقدي، وأنا أعرف أنّها سرقت مدّخراتي كلّها. أعطيتها كلّ ما كنتُ أملك ونحن نخرج دائخين من حفلة الحرب الّتي نذكرها جميعا مع حزب الله في الجنوب سنة 2006 .شربتُ قهوتها وأنا أحدّق في عينيها كي أقتنع أنّها شبعت من مال ليس لها، وأنّها خسارة النّصف المتبقّي من السّنة. حافلا بالإنجازات المعنويّة كان، والحضور الإعلامي الزّخم. سكتّ يومها حفظا لأيّام وفاء، ولو كان الثّمن أموال لا تستحقّها، سحَبَتْها منّي أمام صمتي، فقط لأنّها صديقتي. ملعون أبو الصّحبة الّتي تشرِّعُّ باب السّرقات المجانيّة والكذب الأخرس، حتّى نتفادى سماع عوائه. فأينَ المغشوش وأين الأصليّ فيما حدث؟

ذات التّجربة المُعيبة حدثت لي مع صديقة غريبة. اعتقدَت أنّ صمتي على مسلسل استغلال أحمق امتدّ أسبوعا كاملا، يعني أنّي بلهاء وساذجة. كنت أعيش هزيمة يوميّة في مدينة انتصرت بأقواس نصرها، ومقاهيها وسواحل قلبها الفاتنة. كلّ ما في المدينة يلمع كالذّهب إلا قلبها، المرأة الّتي تعرّفتُ إليها، يَخبو ويُعتِم. قلبٌ أحالته التّجارب الممزّعة إلى مصنع أحذية، وأعني أنّهُ يصنّع علاقات بمستوى خامهِ، الّذي يُخرِّج قوارب تبحر على الأرصفة السّاخنة. جشعها جعل من قيمة الورق النّقدي الّذي أحمله مجرّد ورق لتغطية عراء الأرصفة كلّما دعت الحاجة، يومها صدقا تمنّيت أن أكون بثراء الوليد بن طلال كي أذكي البراءة بالنّقد الحر تمهيدا لغرباء مستقبليّين ستَجعلهم مشاريع استغلال ممتازة. تأكّدتُ وأنا أراها تنفض يدها من كلّ مقهى نذهب إليه أنّ الطبع الإنسيّ غلب على الطّابع المرجو. وكلّ ما تقدّمه لها تحتاجهُ، حتّى الماكياج الّذي تستعمله اختارها ولم تختره، بدليل الحبوب الّتي تفزّ في وجهها كلّما وضعتْهُ. قلت لها في طريقي إلى مطار العاصمة، بعد أن مررنا عند الثّانية فجرا لعبة ليّ الذّراع كي تسحب منّي آخر قرش قد أحتاجه لضرائب ما; "تذكّري، يا عزيزتي، أنّي تركتُ لك البودرة والميك أب، والسّومك، ومستحضراً طبيعيّاً جدّا في ورَقَتِهِ، لا يزال، ضدّ البثور المُفاجِئة، الّتي لن تخرج في وجهِكِ إذما حرِصتِ على الوفاء لمستحضراتي الّتي تركتُها في غرفة النّوم " فهدأت حين شعرت بالإنتصار.

حين وصلتُ إلى مطار بلادي بكيت لسبب لا أعرفه، ولم أحدّد إذا كنتُ أشتاق لفصول استغلالها، أم لانعتاقي من ضرائبي الباهظة مقابل كلّ خطوة خطوتها معها، وندمت لأوّل مرّة مُذ فكّرت فيها لأنّي لم أصرّ على دفع أجرة الغرفة منزوعة المفتاح منذ اليوم الأوّل، كسبا لخصوصيّتي.

امرأة غريبة الأطوار تشلُ النّهار بمزاجها الحار. قد تفتك حتّى بعلاقاتها الحميميّة على الرّيق صباحا. بارود صباحي يقتلُ كلّ أسباب فرح جئتَ كي تهنّىء العاصمة به. ولا أريد أن أتذكّر بعد الآن أنّي سأقيم في علب مفتوحة على التّجاوزات وموت اللّياقة. لم أنجح للآن أن أفعّل ردود فعلي الحارقة تجاه من يخترق حدود القلب الّذي أمنحه له. للآن لم أنجح بقطع اليد الّتي تمتد إلى براءة قلبي وتنزعه بتلك المُرونة المائعة الّتي أجادتها الصّديقة المستعارة.

أجيدُ أشياء كثيرة أخرى، لكنّي لم أنجح في مدّ عينيّ خلف كتفين مفتولتين بالنّضال. أناضل لكن بطريقتي في كسب ذاتي الملغومة بأزمات قضّيتي، وأحيانا تضيع المسافات بيننا، فأصمتُ طويلا حتّى لا تضخّم أبواق الآخرين صوتي. أين تضيعُ الهويّات إذا، ونحن نلهث خلف وصايا تلميعِها؟ وكيف تستحيلُ المسمّيات إلى كلّ هذه الفوضى في الثّقافة، الأدب تحديدا، وأعراسهِ غير المبرّرة غالبا من قبل المنتديات الفقيرة في مصادر متحدّثيها، الزّخمة في تتويج أدباء نسمع بأسمائهم فجأة، كأنّما جاءوا من رعود الغيم. في أماكن كهذه لدينا أصوات تأتي لتغنّي لكلّ تفاهة تُكتَب، وليس لكي تتحدّث. ولدينا عارضات نصوص لا تُجِدنَ فنّ المشي على وترِ الحرف ولا خيوط المطر، فتلتغي مهاراتهنّ بعينيّ. المعادلة بسيطة لحّن تعرّجات الشّتاء تُتشظّاك الحياة حضورا. فهل كنتُ واضحة، وأنا أحزّز برتقالة الأدب الّتي تنبعجُ، هذه الأيّام، من سخافاتها وحفلاتها ومنصّاتها، وشَعرِها الّذي يطولُ دون مبرّر، وزنا وشكلا ويفقدُ بُعديهِ، مذاقه ولونه؟ هل نعزّي غيابنا أم غياب الوحي الّذي انتظره حتّى كتّاب النّثر،  كالمازني والعقّاد، وحافظ إبراهيم، وطه حُسين، أوَبعدَ ذلك نجرؤ على إعلانِ حارسات وحرّاس للضّاد، والحروف تمشي تحت الكَعبِ كَرْجَ ماء؟ أيّ خُواء يُلاحقِ كُعوبنا، وقد نسينا ممّن نمتلىء؟ أيّ هزيمة تعيش اليوم في رأس انتصارنا الكاذب في كلّ شيء. لا أريد أن أُجمّل في وقت خطأ، بل سأنشرَ غسيل ثقافة من ورق، وعلق..

 

غَزْل: رجاء بكريّة - حيفا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم