صحيفة المثقف

أثر المكان في رواية خان الشابندر..

rasmiya mhybesخان الشابندر هي الرواية الأولى التي أقرأها للروائي العراقي المغترب محمد حيّاوي الذي عرفته روائيًّا وقاصًّا منذ تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يهاجر إلى بلد اغترابه هولندا. كان قد أنجز آنذاك مجموعة من الروايت والأعمال القصصية اللافتة قبل أن ينغمر في دراسته وعمله في الغربة، ثم يعود بقوة في روايتين مهمتين صدرتا عن دار الآداب، الأولى "خان الشّابندر" موضوعة هذه المقالة والثانية "بيت السودان" التي وصلت العراق مؤخرًا ولم تسنح لي الفرصة لقراءتها بعد.

تدور أحداث رواية "خان الشّابندر" في حيٍّ فقير من احياء منطقة الحيدرخانة الشعبية في قلب العاصمة العراقية بغداد، وهو حيٌّ بائس يسكنه المهمشون والمسحوقون وتعرّش فيه الرذيلة. قد يدهشك أسلوب الكاتب في تناول الأحداث والتغييرات التي طرأت على المجتمع العراقي والبغدادي على وجه الخصوص، فأغلب مجريات الرواية تدور في حي شعبي مهجور وبيت منزوٍ وسط الخراب الذي هو الشخصية الرئيسية في العمل، تتخذه بائعات الهوى سكنًا ويمارسنّ فيه مهنتهنّ في أغواء الرجال وتشرف على المبغى امرأة متوسطة العمر تدعى "أمّ صبيح" يتلخص دورها في تقديم الفتيات لمن يدخل المبغى من الرجال وتسهّل له كافة الأمور والمغريات ليصبح زبونًا دائمًا لديها. تبدأ الرواية باقتباسة جميلة للشاعرة الأفغانية الشابّة التي قتلها رجال طالبان "رحيلة موسكا" تقول فيها (جسدي طازجٌ مثّل أوراق الحنّاء.. أخضر من الخارج لكنه لحم نيء من الداخل). وهي عتبة تمهد الدرب للقارئ وتقوده إلى وليمة الجسد التي قادنا إليها محمد حيّاوي بحرفيَّة عالية، حيث بطل الرواية الصحفي العائد من الخارج الذي قاده صديقه إلى هذا المبغى وتركه هناك محاطًا بنسوة يمتهنّ البغاء، تحاول كل منّهنّ اغواءه بطرق خبرنّها طويلاً ووسائل تدربنّ عليها لاصطياد الرجال، بعد أن قذفتهن ظروف الحياة إلى هذا المكان حين سُدت في وجوههنّ جميع الأبواب، نتيجة الحروب والقتل الذي فتك برجالهنّ، فكل واحدة منهنّ لها قصة خاصّة وضعتها امام خيار محير، أما الموت او هذا المصير الذي هو موت آخر. أما الخان نفسه والحي الذي يقع فيه، فهو عبارة عن خراب مطلق، ذلك الخراب الذي اعترى جسد بغداد المنتهكة بعد العام ٢٠٠٣ نتيجة الاحتلال وسيطرة الأحزاب والكتل والمليشيات عليها. تلك المدينة التي أحالتها التفجيرات اليومية إلى ركام.

يبدأ ذلك الصحفي المغترب متمنّعًا في البداية للدخول إلى ذلك العالم، لكنّه لا يقاوم إغراء هند وضويَّة وغيرهن من فتيات "أم صبيح"، ليكتب من خلال هذه التجربة ما عاشه من متع جسديَّة مع هند التي تخاطبه في مفتتح الرواية حين ترى تمنّعه وتبريره الأمر بأنّه جاء لغاية أخرى كما يزعم: (إن أحببتنا ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالمًا). فهل صدقت نبوءة هند التي عاش معها تجربة خاصّة أنسته "نيفين" تلك المرأة الوحيدة خارج نطاق المبغى التي يرتبط معها بعلاقة عاطفية كادت أن تؤدي إلى الزواج، لولا دخوله الخان الذي نسف هذه الرغبة لدى "نيفين" وجعلها شخصية هامشية لا أثر لها إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، فهو يحن إلى "هند" على الرغم من وجوده مع "نيفين" ويحاول العودة إلى هناك على الرغم من حطامه الجسدي.

لقد ترك ذلك المكان بصمة قويَّة على روحه وجسده، ولم يتمكن من الإفلات من تلك الرغبة التي تعاوده كلّما وجد نفسه بعيدًا، الأمر الذي يدفعنا للسؤال عن ماهية المكان وكيفية توظيفه عبر السرد ومنحه هويَّة عميقة ومؤثرة على الاحداث. فالمكان هنا (خان الشّابندر) هو الشخصية الرئيسية في الرواية، والعودة إليه أو البحث عنه وسط الركام، هو الحبكة التي تشدّ القارئ وتقوده مع شخصية الصحفي في زوايا ومنعطفات الحيدرخانة وشارع المتنبي ومنطقة القشلة .إنّ البيئة هنا لم يعد لها ذلك السحر، بعد أن فقدت بغداد جماليتها الخاصّة حسب الراوي، فهو عالم مظلم عبارة عن ركام هائل من الأنقاض التي تركت بصماتها على روح الانسان وجسده المنتهك، فهل كانت نظرة الكاتب المغترب العائد هي نظرتنا نحن الذين لم نفارقها ونغض الطرف عن خرابها وما اعتراها من تغيير؟

1209 RASMIAخارج المبغى يمثل لقاءه بالطفلة "زينب" التي تبيع الكعك لإعالة أخوتها اليتامى التي تمثل نموذجًا آخر للمسحوقين، ويمثّل تمسكها بشخصية الراوي توقها إلى الأبوّة التي حرمتها منّها الحرب. لقد استطاع الكاتب، بواسطة شخصية "زينب"، أن ينطلق في سردٍ واقعي شمل وصف تلك الطفلة الفقيرة المشردة التي يتجسد يومها في البحث المحموم عن لقمة العيش، وفي مشهدٍ بالغ الروعة حين يقودها الصحفي عبر الشوارع لترشده إلى شارع المتنبي وهي الخبيرة بالأزقّة والدرابين التي تمارس فيها مهنتها كبائعة للكعك، وقد سألها ان كانت جائعة فأكدت له انها تعودت على تناول وجبة واحدة في اليوم مع اخوتها، وحين دخلت معه المطعم خجلت من تناول الطعام لأن عيون الفضوليين تنظر إليها باستنكار، وقد سألته السماح لها بأخذ الكباب معها إلى أخوتها، وهو مشهد إنساني مؤثر يدلُّ على وعي الكاتب وانحيازه لهذه الشريحة من الناس، شريحة الفقراء الذين سحقتهم الحرب وتماهياتها وغياب سلطة القانون والانهيار الفاجع للدولة.

في تلافيف العمل الروائي، لم يغفل الكاتب قضية التطرق لنفوذ الأحزاب والمليشيات التي بسطت نفوذها على مناطق بغداد، حيث كانت "أمّ صبيح" تدفع لهم لتضمن سكوتهم او غضهم الطرف عن عملها، بالإضافة إلى ما خصصته لهم من حصة في أجساد الفتيات وفق حجج يلجؤون إليها بين الحين والأخر، وهي قضية مهمة جدًّا وإشارة ذكية من خلال شخصية "ملّا جليل" ذلك الشيخ الذي يمثّل السلطة الدينية وضمان حقّها في تقاسم المنافع وتتبادل الأدوار، مستفيدة ـ تلك السلطة ـ من نفوذها في حماية الرذيلة سرًا ومحاربتها علنًا. إنّها رواية عراقية صرف تُعبّر عن مرحلة ما بعد الاحتلال في العام ٢٠٠٣ وما تلاه من موبقات بنجاح منقطع النظير

 

رسمية محيبس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم