صحيفة المثقف

التيئيس .. ليس رسالة المثقف

qasim husansalihمن عادتي أنني استطلع الرأي في القضايا التي تخص الوطن وتهم الناس، ولأن اهم حدث يعيشه العراقيون الآن هو انتخابات(2018) التي انفردت بثلاثة احداث: كثرة وتنوع القوائم الانتخابية، وأنشقاقات وتفكك قوى كانت مؤتلفة، واتحاد قوى كانت مختلفة، فانني توجهت بأكثر من استطلاع عبر وسائل التواصل الاجتماعي بينها رأيهم بما يمارسه محللون سياسيون ومثقفون يعمدون الى اشاعة سيكولوجيا التيئيس بأن الحال لن يتغير.

توزع المستجيبون على ثلاثة اصناف:

الاول، يائس تماما بأن (التاريخ القريب والبعيد يؤكد .. نفس الطاس ونفس الحمام)، وان (تحزيب الشعب سيعيد نفس الوجوه الى دفة الحكم )، وان (الشعب مغيب وعيه، مخدّر، مسّير، مغفّل، جاهل)، فيما بررها آخرون بأمور فنية تتعلق بقانون الانتخابات الذي (فصلته الاحزاب الدينية على مقاساتها)، وفي لجنة المفوضين التي تمثل هذه الاحزاب، لتصل حالة التيئيس الى قولهم بأن القوائم الجديدة والمرشحين النزيهين، عليها من الآن أن(تمسح ايدها بالحايط) .. ويشكّل هذا الموقف نسبة الثلثين من المستجيبين.

الموقف الثاني، يرى امكانية التغيير، لكنه يتباين في نسبة حصوله، بين نسبة لا تتعدى الـ( 1%)، وآخرون يرون بأننا (سنتخلص من بعض الوجوه الكالحه حتما، فحظوظ المالكي واتباعه الفاسدين قليله، وهنالك امل في اختراق هيمنة احزاب الاسلام السياسي في وسط وجنوب العراق) ..

اما الموقف الثالث فهو بين من لا رأي له وغير مكترث بما يجري، واصفا الانتخابات بانها لعبة سخيفة وان من يشارك فيها (سخيف او جاهل). ومع هذا الموقف يدخل ايضا جماعة الذين يدعون لمقاطعة الانتخابات، وان من يشارك فيها يعطي الشرعية لبقاء الفاسدين.

ومن هذا الاستطلاع نخرج باستنتاج هو ان اكثر من (80% ) يائسون من امكانية التغيير!.

وتذكرني هذه النتيجة بتجارب سيكولوجية اجرتها جامعات اميريكية وبريطانية، خلاصتها أن الانسان اذا تعرّض الى اضطهاد وبذل جهده ولم يجد فرصة للخلاص منه، فانه يستسلم ولن يحاول حتى لو توفرت له الفرصة، وتفسير باحث اميركي من جامعة ستانفورد (فيليب زمباردو )بأن الأشخاص العاديين بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، مُعرّضون للانصياع والطاعة العمياء، عندما يتعرضون لنظامٍ أيديولوجيٍّ يحظى بدعمٍ اجتماعيٍّ أو تأييدٍ مؤسسيٍّ .. فهل هذا هو الذي حصل للعراقيين؟ وهل فعلا ستعيد انتخابات (2018) نفس الفاسدين؟

التغيير .. سيحصل

يتهمني مثقفون ومفكرون بينهم الصديق الدكتور كاظم حبيب بأنني متفائل بافراط. واعترف بذلك لسببين، الأول اننا نحن السيكولوجيين دعاة أمل .. وان رسالتي السيكولوجية هي اشاعة التفاؤل بين الناس، والثاني ان الرهان على العراقيين مضمون ان فرزنا بين الجماهير البنفسجية وبين جماهير اوسع تضم وطنيين وتقدميين وديمقراطيين ودينيين منفتحين وخمسة ملايين عقل عراقي في بلدان الشتات.

الشيوعيون والصدريون .. انموذجا

وتوكيدا لصحة تفاؤلنا .. نورد شاهد اننا في ايار 2013 شاركنا بندوة فكرية عن (الحوار العربي الكردي) عقدت في النجف، فالتقينا (نحن العلمانيين: حيدر سعيد، عزيز خيون، ناظم حسن، عراقي مقيم في اميركا، وأنا) برجال دين يمثلون مرجعيات مختلفة بينها التيار الصدري، دعونا فيه الى التقارب بين الفريقين في حوار صريح، اثمر في 2015 بجلوس الصدريين والعلمانيين معا في خيم المعتصمين قبالة المنطقة الخضراء في مشهد يسجل سابقة تاريخية حققت ما كنا دعونا اليه قبل اربع سنوات.

وفي 20 نيسان 2016 كتبنا مقالة (العلمانيون والدينيون .. هل يلتقون في تحالف انتخابي؟ الصدريون والشيوعيون انموذجا) .. وها قد التقوا! .. ما يعني ان تفاؤلنا بحصول التغيير الذي يصفه البعض بأنه (مفرط)، ليس ابعد او اكثر استحالة من تحالف يحصل بين تيار ديني نجفي مرجعي وحزب شيوعي كان قد حكم عليه اعلى مرجع نجفي بانه (كفر والحاد)!.

صحيح ان عوامل اعادة انتخاب نفس الوجوه موجودة، لاسيما في عدم عدالة قانون الانتخابات، ونفوذ احزاب السلطة في مفوضية الانتخابات، وما تملكه من مال ووسائل دعاية واغراء، فضلا عن مستفيدين من الفاسدين وطائفيين وعشائريين منتمين لـ(الجماهير البنفسجية). لكن عوامل التغيير موجودة ايضا، اهمها ما حصل من انشقاقات في صفوف حزب الدعوة الحاكم بقائمتي العبادي والمالكي، وانسحاب كتلة الفتح التي تضم بدر وعصائب اهل الحق والمجلس الاسلامي الاعلى بعد تحالف مات في ساعة ولادته، وتبادل اتهامات بالفساد بين رجال دين معممين، ودعوة رجال دين لمقاطعة الانتخابات، وما حصل من تحالفات اخرى جمعت بين خليط غير متجانس وضمت فاسدين، ابرزها تحالف السيد اياد علاوي مع السيدين صالح المطلك وسليم الجبوري الذي تحول من الأخوانية الى المدنية! وظهور كيانات تعدت الخمسين بينها من اطلق على نفسه مسميات:(تجمع القلعة)، (عراق الأرض)، (التيار الوطني العشائري)، (برلمان الشعب)، .. و(ثأر الله!).

وصحيح ايضا ان القوى المدنية الديمقراطية توزعت على اربعين حزبا وكيانا سياسيا وشهدت خروج الحزب الشيوعي عن التيار المدني الديمقراطي .. لكن الأخطر منها هو قيام مثقفين ومحللين سياسيين بأشاعة أن امكانية التغيير مستحيلة، بعضهم يتلقى مكافاءات من احزاب السلطة ويمارس لعبة اعلامية خبيثة هي انتقاده لأحزاب السلطة وتمريره رسالة تيئيس للعامة من الناس بأن التغيير لن يحصل.

ان اساءة احزاب الاسلام السياسي للدين، والسقوط الأخلاقي للغالبية من السياسيين، وقناعة العراقيين بأن مجلس النواب العراقي هو الأفسد في تاريخ العالم، وما تعرضوا له من خيبات عبر اربع عشرة سنة موجعة، ونسبة بطالة بين الشباب تعد الاعلى في المنطقة، ونزول خمسة ملايين عراقي الى ما تحت خط الفقر في بلد يعدّ بين اغنى بلدان العالم، ومجيء ساسة لصوص اعتبروا ثروة العراق غنيمة لهم فتقاسموها .. هي اسباب تكفي لتجعل غالبية الناخبين يأخذون حيفهم منهم بمعاقبتهم في عدم اعادة انتخابهم، ان اجدنا فن الأقناع وأبطلنا فعل التيئيس.

ان الرهان على العراقيين مضمون بدليل تعرفونه شهدته بنفسي وشاركت فيه، هو التظاهرة المليونية التي اقتحم فيها العراقيون المنطقة الخضراء ودخلوهم قاعة البرلمان وفرار اهلها بين من احتمى بالسفارة الأمريكية ومن هرب مذعورا ومن توسل بالمتظاهرين ذليلا.

ان المثقف الملتزم بقضية شعبه هو منشّط فكري لمن هو مخّدر او مغيب وعيه، وعليه في هذه الأيام التي تسبق الانتخابات أن يوجه خطابه الى العامة بلغة بسيطة لا بمفردات نخبوية مثل(الأسلاموية، الماضوية، الجدل الديالكتيكي ..)، لأن العامة وليس النخبة هي التي تقرر النتيجة.ورسالتنا الى المثقفين والمحللين السياسيين والمفكرين العراقيين، لاسيما الذين في الخارج، هي ان اشاعة سيكولوجيا التيئيس في الأوقات التي تسبق الانتخابات، تؤدي بالجماهير غير الواعية الى المسايرة، وتخدم بالنتيجة بقاء استفراد الفاسدين بالسلطة والثروة. وعلى من لديه يقين بان الأمور يراها محسومة لصالح بقاء الفاسدين، فليحبس يقينه في صدره او يتداوله مع خاصته، لا ان يشيعه في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي .. ويديم بقاء حكومة يعرف انها عار .. وأنه مسؤول عنه ان واصل اشاعة التيئيس.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

22 /كانون 2/ 2018

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم