صحيفة المثقف

الجمجمة

qusay alsheekaskar"ليلة رأس السنة أخبرني د. صالح رزوق أن أخاه الطبيب زاره في شقته ومعه جمجمة لامرأة اشتراها عندما كان طالبا يتدرب عليها والآن تخلى عنها إذ اقتنى واحدة من البلاستك سيزين بها عيادته الجديدة وبعث لي الدكتور صالح صورة الجمجمة عبر الفايبر"

 إنها بعشر ليرات قال أخي ذلك وهو يقهقه، لكنها الآن لا تساوي شيئا، وأضاف وهو يلقي بالجمجمة على المنضدة جنب الحاسوب إنها لامرأة . بالتأكيد أنثى لم تعد تفيدني اشتريتها يوم كنت طالبا أتمرن عليها وأكشف أسرارا أخرى لأمراض خفية اعترت صاحبتها .. أما الآن فقد اقتنيت واحدة من البلاستك لعيادتي.

ربما .. عددتها مزحة .. وفي زمن الحرب يتحول كل شيء إلى مزحة .. أخي الطبيب اشترى بعشرة ليرات يوم كان طالبا من شخص ما جمجمة امرأة ما يدرسها. وقتها كان الدولار بخمسين ليرة، أمس أصلحت جهاز الحاسوب الذي كلفني ثلث راتبي الشهري، فانتبهت إلى أن المزحة جعلت الدولار بمائتي ليرة، والجمجمة ذات النقرتين الواسعتين والفم المفتوح بسن كامل وآخر شبه منخور لا تخيفني، إنها مازالت بعشر ليرات أو أقل .. كل عام أحتفل بعيد رأس السنة وحدي .. كان أخي منذ أن اختفى ابني في بداية الحرب الأهلية، وغادرت زوجتي إلى العمل مع أهلها في الإمارات، يطل علي أكثر من مرة في الأسبوع يتأكد من أنني حيّ، وغالبا ماكان يحضر لي شطائر عملتها زوجته .. كنت قبل موجة العنف ولهيب الحرب وضربات الطيران والقذائف أتلذذ بكسرة خبز وكأس شاي. ألتف بالغطاء الذي أشعر أنه يدفع عني البرد إلى الفجر ثم أشعر خلال ساعات الصباح برجفة وقشعريرة، مع ذلك لم أغادر الشقة، وإن تصدع خزان الماء، وتسربت منه قطرات إلى السطح، فتآكل السقف وتساقطت منه بعض كسرٍ فوق فراشي .. عرض أخي عليّ ّأن أعيش معه فأعرضت، ورغبت أيضا عن أن أعيش في بيت والدتي وأخي الآخر .. لا أريد أن أترك شقتي فيستولي عليها غرباء .. يحتلها آخرون كما يفعلون بالشقق الخالية من سكانها. ذات يوم داهم بيتي مسلحون يتقنعون بملابس الشرطة المحلية، واستولوا على عشرين ألف دولار ذخرتها للسفر أو أدفعها فدية .. لعل ابني لم يهاجر بل اختطفته عصابة ما سوف تطلب مني فدية عاجلا أم آجلا .. شكوت إلى الشرطة المحلية، فأخبروني أن هؤلاء لصوص ادعوا أنهم من جهاز الأمن .. في مقر الأمن جعلوني استعرض صفا طويلا من اللصوص وسألوني إن كنت أعرفهم .. تبينت أكثر من واحد غير مع ذلك ادعوا أنهم صرفوا النقود .. وفي العمارة راح الناس يثرثرون أن هؤلاء اللصوص شركاء مع جهاز الأمن .. الحادث الغريب جعلني ألازم شقتي فلا أجرؤ على المبيت في بيت أخي ولا في بيتنا الكبير منزل والدتي .. أما هذه المرة فقد جاء أخي وفي باله أن أذهب معه إلى منزله لنحتفل بعيد رأس السنة هناك .. قال لي إن الحرب انتهت وعادت حلب إلى الأمان، ولن يقتحم آخرون البيت .. لا أدري من أين راودته تلك الثقة العالية .. سنمر على المقبرة نضع الجمجمة هناك، لعل أحدا يدفنها أو نكلف الحارس إذا ماوجدناه بدفنها .. وحين هم برفع الجمجمة من على المنضدة التقطتها قبله. قلت له: لن أخرج قط .كل نهاية عام كانت تمرّ دون أثر، أما هذا العام فستكون معي هذه المرأة ..

وحالما غادر أخي شعرت أن هناك أجواء جديدة انطبعت في شقتي. ليس لأن الحرب انتهت. ولا الزمان المخيف الذي انتظرت نهايته ست سنوات. لا آسف على عشرين ألف دولار ضاعت. كأن كل شيء رجع .. بل لأني أحتفل هذه السنة مع شخص آخر. كائن حي تلخصه جمجمة. مرآة ليست على الحائط أرى فيها شكلي بعد مائة عام أو يزيد .. أي شخص غيري يمكن أن يعلِّق عليها عينيه فيرى فيها صورته بعد سنوات طويلة .. كل العالم سيصبح هكذا .. أجلس قبالتها وأتمتم .. بين حين وآخر التفت من نافذة الغرفة إلى حي تسكنه غالبية مسيحية .. الأنوار هناك تتراقص، فأتفاءل بين سنة تنصرم وأخرى تأتي، لابدّ أن تظل مولدة الكهرباء تعمل طول الليل إلى أن يطل فجر ظل لسنوات ينهك غطاء يلفني .. اتصلت بالبيت الكبير هنّأت أمي وأخي المحامي، واتصلت ببيت أخي الطبيب، كلمت أولاده وزوجته .. قال لي إنّه لم يخبر والدتي بقصة الجمجمة، وإن زوجته وبّخَته وسوف يمر عليّ غدا لأتغدى عنده .. ابتسمت في سري فمعي أنثى تصمت وتتركني أتحدّث وحدي .. ثم أغلقت الهاتف .. لا أريد أحدا يزعجني هذه الليلة .. عام جديد ذو طعم آخر .. لست وحدي في آخر ليلة من عام 20017 وهذا مالم يكن يحدث خلال ست سنوات .. لاشيء يثير الخوف .. الطيران سكن وقذائف المتصارعين تآكلت فصمتت .. من يصدق أن عالم الصخب والرعب والحرب البشعة ذات الهلع ابتلعها فم واسع أدرد بقي عالقا أعلاه سِنّان أحدهما متصدع والآخر سليم صحيح كماهو العاج .. هذا الجبين لا تليق به إلا عينان عسليتان .. اللون الأزرق ربما لا .. ولعلهما تبتلعان العواصف والسيول مثلما ابتلعت الحفرة أسفلهما أدوات الحرب، أما أنا فقد أدركت أني لست الساهر الوحيد في هذا العالم .. قد أضحك من نفسي كلما رأيت جمجمة فارغة الفم، خلت أنها تزعق، مثلما يصرخ المحتفلون أو النائحات .. الفكرة هربت من رأسي، فالجمجمة أمامي ذات سنين .. عمارتنا تعبق بالضوء وتسيل من جدرانها ضجة صاخبة .. يقابلني الحيّ المسيحي المتراقص الأضواء .. فرح في كل مكان، كل هذا حدث لأن معي امرأة عادية تنصت لي .. ابتلعت عيناها الواسعتان غضب الطبيعة وفمها الحرب .. أجل من حسن حظي أنها احتفظت ببعض أسنانها، في حين راح كل من حولي يتكلم .. يحدثني عن أشياء غريبة .. الروس .. الطيران .. السلاح الجديد الذي يقضي على داعش .. الجنود الإيرانين .. مقاتلي حزب الله .. الموقف الصيني .. تهديدات ترامب .. قنينة الغاز الفارغة .. العامل الذي أصلح لي سقف البيت .. كل العالم أخذني بالحديث وأنا ساكت.

وفي أقلّ من دقائق قطعت عليّ حديثي نقرات خفيفة على الباب.قد يكون أحد أخويّ تحسس الهاتف المغلق فجاء يطمئن، أما أنا فأخذتني المفاجأة من الجارة الأرمنية "باتي" ساكنة الطابق الرابع التي تركت حلب قبل ست سنوات وعادت هذا العام.

قالت: إنه لمن قلة الذوق أن تحتفل وحدك بعد ست سنوات عشت فيها ليالي رأس السنة وسط الظلمة ودوي الانفجارات.

ابتسمت ابتسامة باردة كأنها تعويض لامرأة تركت أمها وعائلة أختها وهاجرت إلى أرمينيا لعلها تستعيد جنسيتها فخابت وتحولت إلى كازاخستان. وخسرت فيها كل شيء، فهل تعوضها ابتسامتي عما فقدته؟. قلت : أولا أنا تركت الكحول من قبل الحرب ثم إني لست وحدي. هل تصدقين أن معي امرأة ما، ولا يعنيني أن أعرف أكثر؟.

 لم تصدق واندفعت إلى الصالة .. خلت أن ملامحها انتكست فعادت ست سنين إلى الوراء. غادرت الستين فجأة إلى عمر أصغر، في لحظات التمستني مغامرا يخون زوجته. وضعت من دون أن تدري قنينة النبيذ على المنضدة جنب الكومبيوتر، وتحسست الجمجمة براحة يدها وهي تتنفس بارتياح:

من البلاستك؟

 قلت لا إنها حقيقة، فنظرت إلي نظرة شك وقالت : كيف؟.

- ياسيدتي سأختصر لك الموضوع. هذه ججمة اشتراها أخي يوم كان طالبا. تصوري عشر ليرات .. الآن يمكن أن تقتني جثة كاملة بلحمها وعظامها دون أن تدفعي شيئا ..

أذهلتها المفاجأة فتركت قنينة النبيذ على المنضدة و انصرفت. تناست أني تركت الشراب، فشيعتها إلى الباب، وسمعتها وهي تهبط تتحدث إلى جارها أبي جودت الثرثار الذي يعرف كل شيء ولاشيء .. شظايا كلمات وصلتني من حديثهما العابر القصير.لم أعد أعنى تلك اللحظة بأي شأن ماعدا الجمجمة .. ربما ضايقتني باديء الأمر ضجة انبعثت من العمارة وستستمر إلى الفجر .. ثم فصلني حضور رأس السيدة المجهولة عما يحيط بي .. حتى الأضواء المتراقصة عن بعد أمام نافذتي من الحي المسيحي ماعادت تبهرني ولايهمني أن تطول الضجة في عمارتنا .. انتشلني هذه المرة صوت جرس الباب .. هل رجعت ثانية تلك المسيحية الشقراء ؟. أمر مضحك أنهالم تبحث عن زوج قط .. ولا تفكر بالزواج، ولو فعلت لما فكرت أن تقترن بمسلم أو من أي دين كان .. مرّ عليها ستون عاما نسيت خلالها الزواج وبدت مثل سمك السلمون .. فهل تروم الهجرة مرة أخرى، أم تذكرت زجاجة النبيذ؟ توقعاتي هذه الليلة بين عام ينصرم وآخر يقبل كلها خاطئة. ظهر أمامي وجة أبي جودت.وقال لي وهو يندفع نحو المنضدة: هل صحيح معك جمجمة حقيقية، ووضع يده عليها. ظننت " باتي" تبالغ، وانتبهت إلى أن أبا جودت جاء يحمل شيئا ما .. وضعه على المنضدة .. وعقب وهو ويقول: لن نتركك وحدك هذا العام, سيأتي الجيران هنا. كل منهم يحمل طعامه وشرابه. أنا أخبرتهم عن الجمجمة .. هذا أول عام ننعم فيه بالهدوء والأمان بعد ست سنوات ..

لعلني فهمته خطأ، وعليّ أن أتأكّد، ست وثلاثون شقة في العمارة .. إن حالفني الصواب أراه يقصد جناحنا و هو من ست شقق .. هذا أيضا كثير .. قد يأتي واحد أو اثنان من كل شقة .. " هايك " ابن أخت " باتي " جاء يحمل قنينة ويسكي ومعه آلة أوركوديون. "منصور أبو فادي " أقبل وحده . يقال إن ولده الأصغر تمرد عليه والتحق بداعش فحرمه من ميراث خص به ابنه الأكبر وبنتيه .. وبعده وصل "عمران " السفير السابق وكان يتحدث عن نفسه بزهو: ياجماعة أنا سني زوجتي علوية من الساحل لفننا العالم، لم يبق بلد لم نره، الهند اليمن.روسيا. الصين. يا سلام لو لا إنها لا تعاني من الضغط وداء السكر لجاءت تسهر معنا .. كلنا نعرفه سفيرا سابقا لف العالم كله مع زوجته العلوية. أما هذه الليلة فقد تربع على الأرض مقابل الجمجمة .. وراح كل من يدخل يتحسس براحته الجمجمة على الطاولة.كان كل منهم يحدث الآخر عن نفسه وعائلته كما لو كانت حمحمة المرأة الوحيدة التي معي تستنطقهم فيتذكرون كل شيء. وبين فترة وأخرى تعزف الأوركوديون لحنا يستغرق دقائق فتضج الشقة بالغناء والحركة والزعيق .. حتى أطل الفجر وأنا جالس أمام الكومبيتر مأخوذا بخدر لذيذ، راودني بعده نعاس أثقلني عن أن أغادر موضعي إلى الفراش، فأحطت دون أن أحس رأسي بذراعي، واستغرقت في نوم عميق كأني فقدت طعمه منذ زمن طويل .. لا أحلام ولا كوابيس .. الشيء الأجمل أني تحدثت حديثا طويلا ولم تقاطعني امرأة معي في البيت .. في المنام نفسه وجدتها تصغي إلي، لكن عند اليقظة أعرضت عن حديث ضيوفي الذين قدموا فرادى دون أن أدعوهم، منهم من تربع على الأرض وآخرون هبطوا على الكراسي والأرائك .. وثرثروا فأدركت – وأنا أتمعن في ضيفتي الوحيدة- أن أحاديثهم سالت مثل نبع صاف .. قد تصخب فترتفع فلا تخيف .. ليس عن قاطع رأس ولا قذيفة تحوم حولي .. أو ذي حزام ناسف بلحية كثة ولباس قصير يفجر نفسه في باب عمارتنا .. بل عن أنفسهم.

ثم فجأة ربتت يد على كتفي. استيقظت و نظرت إلى الخلف. كان أخي يقف ورائي مباشرة.

كيف دخل؟.

هل نسي الضيوف إغلاق الباب؟.

وهل أخذوا كل شيء معهم.

حتى رائحة الطعام و بقاياه.

كانت الشقّة نظيفة منهم تماما كما لوأن الأرض انشقت وابتلعتهم.ولم أكد أتخيل أنها ستسعهم .. ساكنو جناح كامل كيف استوعبهم بيتي ؟ وفي النهاية انسلوا منه مثل اللصوص .. لعلّها حقيقة أصبحت خيالا أو أضغاث حلم تحولت إلى لحظة حقيقية .. رحت أشرح له كل شيء.لكن كان على آخر المغادرين أن ينتبه ويغلق الباب !

 قلت ذلك لأني أعرف جيدا أن أوّل القادمين أبوجودت الثرثار، وآخر من دخل هو ساكن الطابق الأرضي، طارق الأغا الطالب في السنة الرابعة بكلية الآداب أرسله والده ليرى الجمجمة عوضا عنه. عندها نظر إليّ أخي نظرات مبهمة .. تجاهل كلامي .. كأنه لم يسمعني .. وقال لي: إننا سنذهب إلى بيته لنتناول الغداء ثم نمضي إلى البيت الكبير حيث والدتنا. وقبل كل شيء لابد من أن نمرّ على المقبرة لكي نلقي الجمجمة هناك .. فجأة كما لو أني شعرت بوخزة ما .. وخزة أوحت إليّ أني سأفقد السنة الجديدة ولما ينقض منها نهار.ساعات مرت على اليوم الأول من لعام الجديد ومازال ينبض بالحياة من خلال بريقه. فامتعضت من عرض أخي وقلت: بل ستبقى الجمجمة معي وإن عاد ابني ورجعت زوجتي .. دعها تقم معنا هنا وما عليّ إلا أن أقتني عارضة من زجاج ألقيها فيها!

 فنظر إلي نظرات مبهمة الملامح، ووضع يده على كتفي وهو يقول: يبدو أن صخب البارحة جعلك تغفو مكانك وتنسى الباب مفتوحا. هيا إذن!!

وكنا نهبط إلى الشارع!

 

قصة قصيرة

قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم