صحيفة المثقف

الهروب من العاطفة صوب الفن.. قراءة إنطباعية في مجموعة شغب انثوي لرسمية محيبس زاير

salam khadomfarajوأنا اتصفح مجموعة الشاعرة رسمية (شغب انثوي..) باغتتني صورة شعرية غريبة [ومنذ الولادة وأنا أركض في سوح معارك خاسرة / أسير في جنائز لا تنتهي / ...من قصيدة جنوبية صــ (20).]... وبعد الانتهاء من قراءة كل قصائد المجموعة اكتشفت ان تلك الجملة تشكل المعادل الموضوعي لكل قصائد المجموعة وهمزة الوصل بين كل تلك الانثيالات الشعرية.. تقول رسمية في نص عنوانه (وحشة..):

كم تراهن هذه الريح على زعزعة ثقتي بالأغصان..

لكني أهرب قبل ان تتكدس الأوراق الخاسرة..

فقلبي ليس رصيفا..

ان له صفات برية اكثر مما يجب..

الوحشة صديقة خائنة تتغذى عليه سرا..

لكن ليس لها جدار / لأكتب عليه قصائدي..

 المخيلة لدى الشاعرة هنا غريبة ومدهشة ...نحن نرى الريح دائما ونرى الأشجار والاغصان وهي تقاوم عصف الريح كظاهرة عادية من ظواهر الطبيعة لكن الشاعرة هنا تعطينا انطباعا ان الاغصان صديقتها بل ملاذها ومصيرها الشخصي يتوقف عليها وعلى اوراقها.. وترى في الريح خصما يراهن دائما على هزيمتها واندحارها.. ورغم ثقتها بالأغصان لكنها وجدت نفسها تدخل في رهان مصيري مع الريح التي تصر على زعزعة تلك الثقة... وبالرغم من ذلك نراها تهرب خشية ان تتكدس الأوراق الخاسرة المتساقطة بسبب قوة عصف الريح..والسؤال الذي يفرض نفسه هنا.. تهرب الى أين؟؟ وقبل ان تجيبنا تبرر بعض جوانب ذلك الهروب بقولها ان قلبها ليس رصيفا وإن له صفات برية اكثر مما يجب.. هذا الاستخدام المفرط للرموز هو ما يسمية اليوت بالمعادل الموضوعي او الأداة الرمزية المعبرة عن تجريدات معينة كالعاطفة او الموت او الإرادة..واذا كان الشعر وفق اليوت هروب من العاطفة من اجل تحويلها الى فن.. فإن رسمية في مجموع قصائدها وفي هذه القصيدة جسدت تلك المقولة وان اتخذت شكل المواجهة المشاكسة والمشاغبة مع الآخر...لكنها جسدت مقولتي اليوت بجدارة فترميزاتها تتشظى وتتنافر لتلتقي فيما بعد وتتصالح .. من هنا نجدها قد غادرت معركة الريح والاغصان لتحدثنا عن قلبها.. وعن الوحشة التي تتغذى عليه سرا.. لأنها صديقة خائنة... ثم لتخبرنا ان تلك الوحشة أيضا ليس لها جدار يمكن ان تكتب عليه قصائدها.. فكم هي قاسية ومخادعة وفاتكة تلك الوحشة.. تلك الوحشة التي جلبتها انهيارات الأوراق الخاسرة والاغصان التي ربما ستخذل الشاعرة وتوقعها في مهاوي الوحشة. انها ديناميكية الدوران حول قناعين مختلفين.. قناع الرهان مع الريح وإمكانية الفوز فيه.. وقناع الوحشة التي قد تفتك بكل شيء بعد ان تساقطت كل الأوراق وتكسرت كل الاغصان.. وكل تلك الرموز والاقنعة يمكن ان تكون معادلا موضوعيا للواقع الاجتماعي المعاش او السياسي او العاطفي و يكتنز الكثير من التشفيرات والإحالات في السياسة والاجتماع..

في نصها الموسوم بـ(قصيدتي ليست عارية) تناص متقاطع مع عنوان نص قديم لحسين مردان عنوانه (قصائد عارية.). والتناص متقاطع لفظا لكنه يلتقي في الإدانة لزيف واقع معاش يستحق المشاغبة .. وإذا كان حسين مردان متمردا واضحا ومباشرا فإن شاعرتنا تعلن تمردها بشكل مختلف تماما فهي تقول وبحياء طفولي رغم ادعاءها الشغب (حقائبها تتسع لكل الهموم / لها علاقات مشبوهة مع اللصوص / والمحكومين بالسجن المؤبد في زنزانة الحب / لها قلب يتفتت في العاصفة / وروح اكثر شراسة من زهرة / لاقدرة لي على إحصاء أصابعها / التي تجوب في ليل افكاري.. لها رأس لا يأبه بالنهايات / عناوينها اكثر من ان تحصى...) في كل قصائد رسمية في مجموعتها هذه نرى ان القصيدة هي البطلة وهي الموضوع وهي الانثى وهي المراد وهي الصديق وهي الخصم.. وتلك سمة واضحة في قاموسها الشعري.. القصيدة ليست عارية لأنها تتحدث ببساطة عن قصيدة او مشروع قصيدة ..بعكس حسين مردان شيخ المتمردين وشيخ المشاغبين.... الذي لا يأبه بما سيقوله النقد او الناس فهو يتحدث عن امرأة بعينها وعن تجربة خاضها (تكاد ترتجف الجدران صارخة / إذا تعرت أهذا الجسم للدود..).. ان مجرد التناص اللفظي مع قصائد مردان العارية مغامرة انثوية تتجاوز مفردة الشغب..

 في نصها (عسل مخزون) توظف قناع شهريار والأنثى ..في هذا النص ثمة نوعان من المشاغبة الانثوية ونوعان من البطولة.. بطولة إيجابية تتجسد في الشاعرة نفسها حين تقول.. التاء مربوطة بسرير شهريار..والنون متهمة بدم الف نبي. تاء التأنيث ونون النسوة على مذبح الرجل القاسي التي تواجهه الشاعرة بطريقة مختلفة عن مواجهة شهرزاد المسالمة الصبورة.. هنا مواجهة واقتحام وهجاء لكل الأيام القتيلة على مذبح القمع االذكوري.. البطلة الإيجابية (الشاعرة) تستبدل دور البطلة الصابرة المتأنية التي اعتمدت ترويض الملك بحكاياتها..في هذا النص تمثل الشاعرة الجديد مقابل الموغل في القدم.. والمواجه مقابل الخانع.. ومقدار الدهشة في النص انه يتقمص في ذات الوقت قناعين متوازيين ومختلفين في قناع واحد.. فالأنثى المشاغبة المحتجة هي نفسها: التي دماءها تسيل تحت سريره الملطخ بالقبل..وهي التي تنتظر من نافذة الليل حكاية طويلة تؤجل شهوة الملك المتغطرس المفتون برائحة الدم.. وهي نفسها ذات الدمع والعسل المخزون في جرار احلامها.. تداخل الصوت الشعري ثنائي النغمة هو ما عزز ثقتي برسمية كشاعرة متفردة.. فهي الإيجابية والسلبية في ذات الوقت بنغمتين مختلفتين (نغمة متمردة / ونغمة خانعة)..شهرزاد التأريخ.. وشهرزاد اليوم المحتجة رغم بقاء وتشابه الأوضاع.. فالذكورية ما زالت مهيمنة.. لكن إمكانيات الثورة واردة ولو عن طريق الشعر..هنا وجدت رسمية تقع في مشكلة رهيبة وشباك يصعب التخلص منها.. لكنها تخلصت منها بمعجزة الإبداع.. ... كيف؟.. مشكلة الشاعرة في النص تكمن في عدم القدرة على التكيف الاجتماعي مع بيئة ظالمة وهابطة فكريا..وفي الوقت نفسه تشعر بالمسؤولية.. هذا الشعور بالمسؤولية تجاه الانثى والناس والبلاد.. حمل بذور الإيجابية فكانت الضحية وكانت القاضية والمترافعة والمدافعة عن تاء التأنيث .. هي نفسها التي تنام واحلامها قنابل موقوتة.... ببراعة الشعر وضعتنا امام مفترق طرق لنوعين من الانثى..تلك التي تتأثر بالاحداث ولا تؤثر.. وتلك التي تتأثر وتؤثر وتنتج مفهوما جديدا لمعنى الشغب.. اختلافها عن غيرها انها غريبة عن بيئتها لأنها ثائرة.. بعكس الغريبات اللائي لا يشعرن بغربتهن الراضيات بما يقرره شهريار او وزيره.. ان الهروب من العاطفة لإنتاج مثل هذا النوع من الشعر يضعنا في صميم العاطفة.. وقد كانت المجموعة بحق تحمل من الدهاء الشعري والإبهار الكثير..

في معظم نصوص المجموعة المح إشارة لمفردة تتكرر لتكون هي المعادل الموضوعي لأغلب القصائد.. هذه المفردة هي كلمة قصيدة.. هذه الكلمة اجدها هي البطلة وكمثال على ذلك نصها الأخير المعنون (شغب انثوي) تقول: الا تكف هذه الانثى عن ملاحقتي؟؟

تمسك عصا الكتابة / لتوقظ جمر الشهوات / بعطرها الصناعي / وثيابها القصيرة / والكحل الذي يسيل / فيشربه زبانية الليل / مكتوبة بجمر الأحرف / تكمن خلف اصابعي / مصبوغة بفحم الأنوثة / ودمعة العاشق / عاجزة عن انجاب قصيدة واحدة / إلا من سفاح !!!

 مفردة (القصيدة) هنا هي الرمز المفضي لإنجاب قصيدة فتكون هي المعادل الموضوعي للنص.. وليس السفاح كما يبدو..السفاح هنا افتراضي فالشاعرة / وهنا تكمن براعتها / تتقمص السائد تارة.. وتثور عليه تارة أخرى.. وفق نظرة البيئة ان الحب يعادل السفاح .. والشعر لا يأتي بدون حب. وبدون عاطفة... وهنا يبدو السفاح كمصير محتوم لانتاج القصيدة..في حين ان المتلقي عليه ان يعرف انها تعني الحب الإنساني مشوبا بإحتجاج متطامن ومشاغب وانثوي.. وماكر !!!!

واعتذر للشاعرة والقراء فكل نص من نصوص المجموعة والتي تتجاوز الثلاثين قصيدة يحتاج الى دراسة مفصلة.. لكنني اكتفي بما ذكرت كنماذج قيمة ورائعة..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم