صحيفة المثقف

الوجدان العربي وتخمة الهتافات عند الجماهير ..

mustafa alomariثمة أساسات مهمة يرتكز عليها الوعي البراكماتي المصلحي، للتمكن من الهيمنة والاستحواذ على وعي الجماهير والشعوب، هيمنة تحاول الانزلاق الى الغاية المرسومة بالذهن والاندافاع بشكل جنوني نحو تعبئة الحشود خلف هتافات وشعارات وعناوين مهمة، عناوين تتمحور في عقلية الجماهير فتخدرهم وتلعب على مشاعرهم . من أهم العوامل التي ضغطت وأثرت على الشارع العربي وتقهقرت به وحيدته عن الرؤيا العامة للعالم، هو المستوى الثقافي المتدني والإصطفافات التلقينية التي تنشأ معنا منذ الولادة، مع غياب شبه تام للنزعة الابتكارية الفردية التي تحاول ربط الأشياء بمعزل عن قيود وسلطة الوهم الاولي .

إطلعت على بعض القضايا المهمة التي وقعت في البيئة العربية وكيفية تفاعل الجماهير وغضبها، ما نوعية الهتافات وكيفية تسويق الهزيمة الى نصر! ولكي يكون إطلاعي منصفاً ومحايداً، غادرت الى بيئة أخرى تختلف بالسياق والنمط والاتجاه والثقافة عن بيئتي العربية، فهالني اختلاف وتباين النتائج بين البيئتين.

عام 1967 سربت المخابرات السوفيتية خبراً الى الحكومة المصرية، مفاده ان القوات الإسرائيلية ستشن هجوماً على سوريا، عندما سمع الرئيس جمال عبدالناصر الخبر استشاط غضباً، فتحرك وحرك الجماهير، جماهير متراخية، متخلفة عن النبوغ والحصافة والتؤدة، لكنها متيقظة للجلجلة والصخب والصراخ، أرعد عبدالناصر فإحتشدت القوات العربية، ساعية لرمي إسرائيل في البحر.

دعونا نتأمل ونقارن قليلاً بين حركة وفعل الجماهير العربية والإسرائيلية.

فبالوقت الذي كانت جماهيرنا العربية ترقص على شعارات النصر وحفلاتنا لا تبارح مدينة ولا زقاق، كانت الجماهير الإسرائيلية تحشد الرأي العالمي العام، تتأوه بإستياء وتبرم من كارثية الظلم الذي سيحيق بهم . كانت حكوماتنا تنفث الوهم والخديعة في عقول الناس، فتجعلهم يرقصون بدون لحن ويفرحون بدون فعل، بينما هم إستحضروا كل معدات التحفيز العالمي ليكون بجنبهم، وهذا ما حصل بالفعل.

نشبت الحرب وكانت الرزية الفالعة، ان إنهارت جميع الجيوش العربية وخاصة المصرية وذابت كل ترسانتها الحربية وابتلعت الصحراء جيوشنا فأرمتهم في عمق الصحراء ولم يتحقق النصر الموعود .

بالوقت الذي إستخفت الحكومات العربية بوعي جماهيرها وأوهمتهم بإمكانية النصر، الذي صدقته تلك الجماهير، كان الإسرائيليون يستخفون بعقول حكوماتنا وجماهيرنا وقدراتنا الحربية والعقلية وذلك من خلال دراسة مستفيضة عن الإمكانيات الفعلية للجيش العربي، بينما لم يملك العرب أي دراسات او إحداثيات عن الجيش الإسرائيلي.

بمقارنة سريعة بين الجمهور العربي والإسرائيلي، سيتضح ان، الجماهير العربية إحتفلت بالنصر قبل وقوع الحرب، بينما الجماهير الإسرائيلية كانت تحشد للحرب من خلال الاعلام العالمي ولذلك إحتفلت بالنصر الحقيقي.

عندما سُحقت كامل القوات العربية إستمرت الجماهير المصرية ترقص على نغمة التزييف، بينما لم تُخبر ماكنة الاعلام الإسرائيلي، الإسرائيليين بالنصر، الا بعد إنقضاء يوم كامل من الحرب الذي تحققت به مكاسب عظيمة.

دققوا بالمنظر جيداً، ستجدون ان شعوبنا التي تجيد الهتافات تحتفل بالهزيمة، دون الادراك أنها هزيمة، لأنها شعوب مُنقادة ومُلقنة ومحطمة في الذات، بينما الشعوب التي تدرك معنى الذات تعرف كيف تنتصر وتهتدي الى التفوق والتقدم بدون جلجلة. عند الإمعان بهذه الصورة الموحية الى ضحالة الوعي العربي وهشاشته، دب أمل من أن الشارع العربي سيستفيق من هذه النكبة، لكنه لم يكن كذلك، بل عزز في وعي الخصم، من أنه بسيط وخانع، وذلك بعدما إستقال الرئيس عبدالناصر من منصبه، لأنه المسؤول الأول عن هذه الهزيمة الفادحة. وبدل ان تتظاهر الجموع بمحاسبة جميع المسؤولين العسكريين والسياسيين، كان رد فعل الشارع العربي غير الواعي، تظاهرات عارمة تكتسح المدن المصرية، مطالبة بعدم إستقالة الرجل الأول الذي تسبب في النكبة العربية الكبرى.

هناك إشارة مهمة، فحرب 67 وحرب فيتنام متعاصرتان من الناحية الزمنية، متماثلتان في التوجهات والدعم، متخندقتان مع الدولة الروسية، لكنهما مختلفتان بالنتائج والأداء والإمكانيات . هذا الموضوع يحتاج من الواعين دراسة ومقارنة بين الحالتين.

ليست حرب 67 الوحيدة في تاريخ الجماهير العربية، التي أسهمت وبرهنت على أنها جماهير، تجيد الترديد والهتاف، تأريخ ممتلئ ويتكفل بهدم أي منجز واعد او مشروع لنهضة مستقبلية.

ليست هذه محاولة لإسترجاع التأريخ بقدر ماهي نقد له، للإنعتاق منه والتخلص من أوهامه، نقد وان كان فيه إيضاح وإقرار لرفعة وعظمة الخصم وتصريح وإعتراف بتراخ وهراء وركاكة وغباوة شعوبنا الواهمة. لكنه لا يخلو من أسى وحزن للنتائج المتكررة التي إعتادت عليها شعوبنا العربية.

الى متى تبقى جماهيرنا العربية مذعنة ومنقادة؟ سؤال طالما أرق الشعور الواعي في المنظومة العربية، لكنه لم يأخذ الحيز الفعلي والتفاعلي في مساحة الوطن المثخن بالنكبات.

العاملان الاساسيان في تردي واقعنا العام هما:

السياسة السلطوية التي ينهش بها القادة العرب خصومهم من أبناء وطنهم

تفعيل النفوذ الديني للهيمنة على الجماهير وزجه بإشكالية السياسة.

ويبقى السؤال المهم حارناً على عتبات الفعل الواعي، متى ستتوقف الجماهير عن الهتافات والشعارات والولاءات؟

متى سيستفيق الشارع العربي من الوهم الذي نفثه فيه المغرضون، من إمكانية دحر الخصم بالصياح والتهديد والصخب؟

متى سينتبه الشارع العربي لنفسه ويثور على ذاته وينقد قادته السياسيين والدينيين؟

هناك ثمة أمل متبقي لكي تنتفض جماهيرنا على موروثنا القديم وتأريخنا الغابر لكي تنعتق من وهم التفوق والتقدم الى مرحلة المراجعة والنقد والتشذيب، يجب ان ينتبه الفرد العربي، ان التغيير خطوة نحو التقدم ولا يمكن ان نتقدم مالم نغير المنظومة المعرفية التي إعتدنا عليها، يجب ان لا يرهبنا التغيير، بقدر ما يكون همنا هو التطور والارتقاء.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم