صحيفة المثقف

الترجّح

sardar mohamad2رحلت عاتكة وتركتني كبدوي فقد الأثر في صحراء شاسعة لاتعرف نهاياتها، تركتني في شرفتي الصغيرة الأبعاد المطلة على البحرالمتوسط الممتد نحو الساحل الفرنسي، وسبق أن اجتزته برحلة بحرية بوساطة الباخرة (بروفانس) من ميناء الجزائرالعاصمة إلى ميناء مرسيليا جنوب فرنسا، والتي يحلو للجزائريات المتفرنسات لفظها بالغين بدل الراء، وخطرت لي عدة خواطر عندما كنت على ظهر السفينة، منها أن الطريق الذي أسلكه باتجاه فرنسا هو الطريق نفسه الذي سلكه الغزاة الفرنسيون المحتلون ولكن بالعكس وباتجاه (سيدي فرج).

لاتستغرق الرحلة سوى ليلة واحدة وفي الصباح على ظهر الباخرة كنت قدام مطعم صغير للوجبات الجاهزة وامامه بضعة كراسي وثمة فتيات يشترين الفطور الصباحي الذي هو في الأغلب القهوة مع قطعة (كرواسو) فاشتريت واتجهت نحو منضدة وسرعان ما انضمت لي غانيات رشيقات القوام بأرداف بارزة مكورّة وصدور ذات أثداء نافرة يشربن القهوة ويدخّن السجائر وهن يرددن أغنية ل " شارل أزنافور ".

وها أنا أشعر بالوحدة فالشرفة لا تفكر ولا تتكلم ولا تتخاصم ولا تستبد وقد تغني بصوت غير مسموع، فليس لي إلا تذكر غضب عاتكة وكنت أضحك منها حين تقطب حاجبيها فأقول لها:

هذا يزيدك جمالاً، فأرى الفرصة مناسبة لكي أضمها لصدري وأقبلها .

أتذكر خجلها من الشرفة وتقول لي إنها تغار فقلت كيف وهي جماد، فتضحك قائلة انا أحرك الساكن وبغنجي ودلالي أسكن خفق أجنحة النوارس الحائمة، .

لا أرى فيها سوى خيال عاتكة تتأمل الموجات الشديدة الزرقة قادمة بهدوء .

يقل ارتفاعها وزرقتها وتزداد سرعتها فترسم على الساحل الرملي لوحات لا يفهما إلا العشاق .

كأنها تقبلة متنازلة عن قامتها ولونها .

يا للقبلة القاتلة، بلى هناك قبلات قاتلة وهناك فبلات محيية .

قالت مرة: كيف ترسم في هذه الشرفة وتستطيع التركيز على الورق دون أن يشغل بالك شيء آخر؟

قلت: مثلاً حركة الموج؟

- قالت: لا . انا .

وكانت ترتشف القهوة بأناقة وتحرك جسدها بحركة تحاكي الموج، ولكنها أرق منه فتحرك في النفس عاطفة و أشواقاً .

هكذا لم تبق إلا الذكريات، ولا بد هي الآن بين ذراعي زوجها الذي فرضه أبوها .

فرحان صديقي ورفيقي في الشقة يقول: ألهذا المقدارعشقت عاتكة، ولم تستطع أخرى أن تحل محلها في قلبك؟ لقد برى جسدك ذكراها فمتى ترعوي، لقد ضللت ولا أظنك تنسى ولوعلى نلت قمر السماء، أتعجب ما الذي عندها ما ليس عند النساء، وهذه الجميلة البولونيّة طالبة الدراسات العربية والقريبة تبعد عنك بضع أمتارفي البناية المقابلة .

 - عمّ تتكلم يا صاحبي، يبدو أن الخمرة لعبت برأسك فبدأت تتخيل أشياء لا وجود لها، وتعرف أنه لو ضاجعتني حوريات الجنان لما غمرن مهجتي نشوة.

والحق أنا تعمدت الكذب على فرحان ولا أظنه وهو الخبير المتمرس قد اقتنع بتمويهي، والبنت رقيقة وكم رغبت أن تكون معي، ولكن مجرد تفكيري بهذا أتصور أن عاتكة تبرز من الجدران قائلة: لا تجعلني أشك بحبك . ولو يعلم فرحان بهذا لسكب كأس الخمرة على رأسي صائحاً:

أنت الذي لعب وهم عودة عاتكة برأسك .

جعلت أفكربقول فرحان عن وهم أنتظره، هل هو محق؟ نعم فما من داع لمغالطة النفس، أنا بحاجة لشريكة، في آخر لقاء مع عاتكة ظلت تتطلع حتى ارتفعت شمس الشمس في حين أخذني النوم فانتبهت مرعوباً على صوت أنين ورأيت الدمع يندلق على خدها، فسألتها الخبر، قالت: تعال وانظر، تلك النورسة كيف تتبع الموجة القادمة نحو الساحل وكيف تخيب عندما تجدها تصطدم وتتلاشى بالساحل، هذه أنا، هكذا كنت وأراني اليوم متوقفة عند ساحلك .

فكرت: هل بقائي كساحل عرضة للريح والمطر ولا سفينة ترسو عليه ولا موجة تعانقه، ربما فرحان محق، نعم أراه محقاً، أتذكرُّ ريش نورسة نشر على رمله كاف لسد عاطفة متأججة وضرام صدر في الليالي القاسية .

واخيراً أخبرت فرحان بعزم الفتاة البولونية زيارتنا اليوم

- نعم يارجل، نعم، قلها وكن رجلاً إن لم تستطع أن تكون بطلاً، اليوم فرح وحُق لأبي بتسميتي فرحان، أوووو أيضاً سأخلي الشقة لكما، لا يهم سأرتشف إبنة العنب من أقرب حانة، ولا تنس أن ترتشف أنت إبنة الشفاه، وربما كان للشفاه أخت أو أم فأنا مستعد للمعاقرة .

- إذهب فرحان إذهب ودعني في زرقة عينيها البحر الذي عبرته عاتكة نحو بلاد الغال، لعلي أرى عمق حزن لا قرار له وتكون الغانية البولونيّة الآرض التي يطفو عليها البراق الذي يعبر بي الصراط ولعل فجراً يطلع من خلف غيمة سوداء .

 عجيبة هذه الفتاة المتعلمة وتؤمن بالسحر والشعوذة، ولن ألوم بعد اليوم النساء غير المتعلمات، وكنت حقاًأعرف بعض الألعاب التي يسميها الناس سحريّة وهي في حقيقتها رياضة أصابع وبعض الحيل وكانت غايتي الحقيقية لمس كفوف الفتيات والتلاصق معهن جسديّا وربما اثارتهن، وكدت أقع في سوء أعمالي وتكتشف أحابيلي فطلبت مني طلباً غريباً أن تكتب حروف الألف باء البولونيّة وتسألني في سرّها سؤالاً وأحرك قطعة نقد باتجاه الحروف فتحصل على الإجابة باللغة البولندية والمصيبة أنا لا أعرف هذه اللغة وحتى لو كنت أجيدها فأنا لم أسمع السؤال .

وتخلصت من المشكلة بحل أغرب أتى من وحي فرحان، بأن أحرك القطعة النقديّة على الحروف التي تعني كلمة (ما زلت صغيراً وبالبولندية = شوسته سم مافيك) وأخبرها أ ن هذا جواب الجنّي الذي يتلبّسني، وفرحان يعرف البولندية لماماً لأنه عاش فيها أكثر من سنتين .وفعلاً نجحت الحيلة وقضينا ليلة ممتعة بغناء فرحان الجميل ولفرحان صوت شجي وغناؤة عذب لاسيما بعد أن تلعب الخمرة برأسه، وما أن بدأت الفتاة بالتمايل تصاعد غناء فرحان مما دعى جاري السوري أن يطرق الباب علي ويطلب مني عدم الضجيج فهو بحاجة إلى الرقاد فعليه النهوض فجراً ليصلي كعادته، وسمعه فرحان فرد بقوله: متأسفون لما بدر منّا، وأكمل جملته عندما غادر، (صدك احنه سرسرية).

صباحاً بخروج الفتاة أخذت قدح شاي وتوجهت صوب الشرفة، أستمتع بحرارة الشمس ورؤية البحر،

- ياللشرفة الساحرة هذي، بضع يوم فارقتها واشتقت لها، أقسم أنك قضيت الليلة الفائتة بين أحضان البولونيّة جسداً وفي أحضان (عاتكة) فكراً، كنت ليلة أمس منشطراً شطرين، شطر يقضي حاجة دعاك له جسد وشطردعاك إليه عقل، عجبي من هذا التوزع المتناقض، أنت تنظر الموج يقترب من الساحل وكأنك تشعر أنه يحمل عاتكة اليك كفاك أحلاماً، قرأنا في القصص عن فتيات ينتظرن فارس الاحلام ولم أسمع برجل ينتظر فارسة الأحلام، كأن فتاة الليلة الماضية لم يشغفك وجهها الطفولي وعنقها المرمري الخالي حتى من قلادة مزيفة .

- عقلها طفولي والعنق مغلول بحبال الماركسية الفجة،

- لا تستهن بأنثى أكملت الجامعة وهي الآن بطور دراسة أخرى، وحتى لو لم تكن متعلمة، أتتصور أنها لا تحس بذكر يطوّقها بيد باردة ويطوق غيرها بيد ساخنة، لا شك أنها تسأل نفسها ماذا عند الأخرى ما ليس عندها، عنذاك تحس أنها محض عاهرة مجانيّة لا غير . يبدو أن عاتكة دخلت سجن عقلك ولا تستطيع الإفلات منه .

- أتعرف يا صديقي أن هناك ما يفرض على الإنسان ويقنع به ويستسلم ويبرره بالقدر والمحتوم والمكتوب؟

- كنت أعتقد أن نظرية المكتوب على الجبين تتناقض مع فكرك الماركسي، قم بنا قم رفيقي فقد ارتفعت شمس النهار وهاهي صديقتك البولندية، أنظر، أنظرها سائرة كالغزال نحو الحمام، سأغادر الشرفة قليلاً فلا يحق لي رؤيتها عارية، ستبدي لك قوامها وكأنها تقول لك هذا الذي كان في فراشك الليلة الماضية ولم تعره اهتماماً، أيها الخاسرفي ملعب الفحولة .

 - فرحان صديقي !! صدقني إنني أشعر عندما اجلس هنا وكأن عاتكة جالسة جنبي وتحدثني بكلام فيه لذة تفوق لذة الجنس، كأن صوتها نغمات خفية لساحر تتغلغل وتصل الروح منسابة برقة كرقة الماء الزلال، لا تلمني يا فرحان، لاحظ هذا السيّاج الإسمنتي أحسّه ليناً ربما تذكر أنه استندت عليه عاتكة يوماً . دعني أدقق النظر في تعرجاته ونتوءاته لعلي أجد شعرة فكانت تثني رقبتها إلى الوراء فينسدل شعرها عليه . ودعني أسألك ألا تحس بمذاق الشاي فهو اليوم أكثر حلاوة، وانظر البحر فهو أشد زرقة، والنوارس أكثر بياضاً وعدداً، آه وهناك باخرة قادمة شاهد تلك النقطة الرصاصية تكبر شيئاً فشيئاً .

- يارجل هل تشعربحمى، فأنت تهلوس اليوم .

رن جرس الباب، فتحت فرأيت جاري السوري مبتسماً ويحمل طبقاً صغيراً فيه أربع قطع من الحلوى السوريّة

- أعلم أنك وصديقك فقط تسكنان معاً، ولكني أتوقع زيارة ضيف وسوف تحتاجون لأكثر من قطعتين، وهو يبتسم فتبرز لثته الورديّة،

أعطاني الطبق، وأدخل يده في جيب بنطاله وأخرج رسالة

 - الحقيقة رفض ساعي البريد تسليمها لي إلا بتوقيع ولم يكن في شقتكم أحد ليتسلمها ولشعوري أنها مهمة سمحت لنفسي أن أنوب عنكم،

وذهب تلقاء شقته لكنه استدار فجأة وقال

 - رجاء إرجاع الماعون سريعاً .

ولمّا توارى أسرع فرحان نحوي

 - أفتحها يا رجل، أنا عندي شعور قوي أنها من عاتكة، فراستي بالمحبين لا تجارى . لا تقرأ لي ما لا يعجبك، احتفظ بالأسرار لكما وحدكما .

2

فتحت غلاف الرسالة وأنا ألتهم الحروف

أتمناك بخير، كيف أنت في عواطفك، أنا لم أنسك وعدم مراسلتي هو احترام زوجي الراحل حتى لو لم أكن أحبه فأنا لا أكرهه، فُرض عليَّ وأبعدوني عنك ظلماً .

أنا الآن في الجزائر وعدت منذ أيام بصحبة نعش زوجي، والآن بقيت وحيدة بعد أن انتهت مراسيم الدفن، ولا أقول هذا لتعطف علي ّ وإنما لأخبر من كانت له معي عشرة .

المرأة كالثمرة قد يقطفها الشريف والحقير، النظيف والقذر .

في عرفنا الذي يتزوج هم الآباء نيابة عن الأبناء .

الحب في تصوّرهم يأتي بعد أن يعرّي الذكرُ الأنثى ويستّحل ما بين ساقيها، ويربطون الفسلجة بالشرف لذا تراهم يحرصون عليها .

لم يخطر بفكري أنك تعدّني أرملة، ووهبت لغيرك ما يفترض أن أهبه لك، وإنني اليوم فضلة، وسلعة بائرة، فهذا ليس من أخلاقك ولا مبادئك .

رأي أبي كما يفصح عنه: ماذا تريد المرأة؟ ويحيب: أكثر من رجل يسترها وحريص على توفير حاجياتها .

لا يا أبي حاجة المرأة ليس لرجل فحل في فسلجته بل لرجل فحل في حبه وعاطفته، وفحل في إشعارها ببشريّتها .

إذا كنت مازلت أنت أنت فأنا مازلت أنا.

وأنتظر ردك .

التوقيع: التي كانت يوماً حبيبتك ..

 

 

نقيب العشاق بين بيخال ونياغارا .

نهاية الفصل الثالث من رواية "متشتت" لكاتبها سردار محمد سعيد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم