صحيفة المثقف

دراسة في مسرحية.. الجاحظ وتابعه الهيثم للمسكيني الصغير في عناصرها وإشكالاتها

moamar baktawi2تقديم: يقسم الصغير المسكيني مسرحيته (الجاحظ وتابعه الهيثم) إلى خمس لوحات دون إعطائها عناوين خاصة. وتتميز اللوحة عنده بتقديم عدد من الشخصيات والأحداث. وتحتل اللوحة مساحة ورقية أكبر من مثيلتها عند الكاتب عبد الكريم برشيد.

وإذا كان الفصل في الدراما اليونانية، والكلاسيكية لا يشكل إلا جزءا من الوحدة الكبرى للنص، ويتميز بوحدة زمنية محددة - لحظة من النهار، أو يوم كامل أو أكثر-، فإن الوحدة الصغرى (اللوحة أو الحركة أو النفس..) في مسرحيات الهواة تتحدد باعتبارها وحدة شبه مستقلة ودالة بحدثها وزمنها وفضائها. وقد جاء هذا نتيجة التأثر بالاتجاهات والمذاهب المسرحية المعاصرة..

ومن منطلق مبدإ الجدل القائم بين الفن والواقع، فإن التركيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت منذ الستينات، ستؤثر حتما في البحث عن لغة تعبيرية جديدة في المسرح، وفي باقي الفنون التعبيرية الأخرى. وقد حاول المثقفون والكتاب المتطلعون إلى التغيير، ابتداء من سنة 1959 اجتياح الساحة الفنية والأدبية، ونشر نصوص ذات محتويات تستهدف التوعية السياسية والاجتماعية. وأصبحت قضايا الشعب الأساسية هي الموضوع المفضل في القصة والرواية والمسرح.

فقد أدرك الكتاب الرافضون للوضع السائد، أن المسرح أداة جماعية، وهو ألصق الفنون بالمجتمع، وأكثرها عكسا لروح الجماعة وتجاوبها معها. وعلى حدّ تعبير رشاد رشدي فإن" المسرح والمجتمع بينهما علاقة هندسية، قد تكون عكسية وقد تكون طردية... بمعنى أنه حينما تزيد الضغوط بشدة على المجتمع يظهر المسرح... ويبرز ويتقدم ليظهر دوره المهم في تغيير المجتمع."(1) 

ويقول د.حسن المنيعي "إن المسرح لم يعد يتحرك في فراغ خلال الستينات، بل عرف ازدهارا (كبيرا) بعد أن أخذ شكله المعاصر، عبر إسهامات الفرق الاحترافية التي كانت تتجول في المدن والأقاليم، إلى أن تجذّر لدى الجمهور الإحساس بأهمية المسرح وبرسالته النبيلة". (2)  فبعد أن أخذ المسرح المغربي شكله المعاصر خلال سنوات الستينات، وأصبح كل فصل في المسرحية يأخذ دلالته بناء على تأسيس عالم سينوغرافي تخلّص النص من مستوى القراءة الأدبية، ليأخذ أبعاده فوق الخشبة عبر لغة درامية جمالية توظف العناصر المسرحية في بناء عرض فنّي متكامل، يُراعي الخصوصيات الجمالية والدرامية للمسرحية، "و بتوفر العناصر الأساسية تخلص النص - سواء كان اقتباسا أو تأليفا- من وضعيته المتقلّصة، أي كمجموعة كلمات مخطوطة فوق صفحة بيضاء، ليأخذ مكانه فوق الخشبة عبر لغة درامية جمالية تقوم على الديكور بألوانه، وأشكاله الزخرفية التي تحدد إطار الحدث". (3)

وتحت تأثير مثل هذه الرؤية الثورية في الإبداع المسرحي، انطلق بعض المسرحيين في التجريب، والقيام بجولات عبر المدن والقرى المغربية لنشر هذا الفن الجديد. وقد راودهم حلم تأسيس مسرح شعبي يُقام في الساحات العامة، والميادين، وفي كل مكان ويكون قابلا على الانفتاح على الجماهير.

وتحت تأثير المسرح السياسي لبسكاتور، والمسرح الملحمي، والمسارح التجريبية المناهضة لشكل المسرح الإيطالي، سادت موجة رفض المسرح الأرسطي ببعده الميتافيزيقي، والانخراط في كتابة مسرح جدلي لا يقوم على التطهير والتوحد والمحاكاة - وهي أهم عناصر المسرح الأرسطي - وإنما يقوم على رفض الواقع الزائف وعدم التصالح معه، ومخاطبة عقل المتلقي وإحساس التمرد والثورة القابع في داخله.

وثورة بريخت على مضمون المسرح الأرسطي الدرامي، قادته إلى الثورة على "القدر المأساوي، والبطل التراجيدي وكل ما هو فردي أو بطولي، بل وكل ما هو أرسطي أو تقليدي"،(4) وعلى شكل هذا المسرح، وقوانينه وأسسه الجمالية والفلسفية، وفي مقدمتها الوحدات الكلاسيكية (وحدة الزمن، والمكان، والحدث) التي اتسمت بالاستقرار والثبات طيلة قرون عديدة، حتى ترادفت مع مسار القدر الأزلي. في حين ترى النظرية البريختية أن جماليتها، وأسسها في تغير وتجدد، يواكبان التغير في المضامين لأنها في آخر المطاف تصور حالات تحتاج دائما إلى تصحيح.

وبالفعل، فإن مسرح الهواة من خلال نصوصه الرامية إلى التوغل في الواقع، والكشف عن تناقضاته، ووسائل الإحباط فيه وفضح أساليب الاستلاب والقهر والتهميش، استطاع أن يتجاوز المحاكاة الحرفية للواقع، والابتعاد عن الواقعية السطحية. فالتجأ إلى المبالغة والخروج على المألوف في سياق الزمن، والنبش في التراث، وفي الموضوع السياسي والاجتماعي والثقافي، وإعادة تكوين ملامح الأفراد والأشياء رغبة في الوصول إلى بلورة رؤية للعالم تختلف عن الرؤية التي سادت مسرح التأسيس والمسرح الاحترافي.

وكان ظهور هذه الكتابة المسرحية المغايرة متزامنا مع صعود الجيل الجديد المتشرب بثقافة مغربية جديدة ممتدة ومتصلة بالثقافة العربية التي أفرزتها الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والثقافية لمرحلة ما بعد الهزيمة. ويرى د .عبد الرحمن بن زيدان أن من نتائج تأسيس هذه الكتابة الجديدة في المسرح المغربي، إحداث طفرة نوعية في النتاج المسرحي. وقد تمثلت صورتها في:

*ـ نقد الموروث وتفتيت مكوناته.

* هدم ما كان قائما في جوف النصوص الموروثة، لأن الدلالات العميقة لهذه النصوص كانت إعادة واستنساخا ولم تكن إبداعا.

* نقد المؤسسة وما فرخته من كتابات.(5)

لقد بدا مسرح الهواة، منذ انطلاقته، أنه جاد في تأسيس خطاب مسرحي قوامه رفض الحاضر والدعوة إلى تغيير الواقع. وبعد أن راكَم تجاربه المسرحية أبّان تطوره الكمّي عن تطور نوعي، يثير الانتباه ف"أصبح واعيا بقوته، وتحرّر سيّاسيا من الوصاية المؤثرة للوزارة، برفض اتبّاع نموذجها، بل وبالعمل في اتجاه مناقض لذاك الذي ترغب فيه الإدارة."(6) فأعلن التحدي والتمرد بتناوله مواضيع هامة: كالظّلم الاجتماعي، والقمع السياسي، والرشوة، وتزوير الانتخابات، وأزمة التعليم، والفقر المطلق، والبطالة، والحياة في أحياء الصفيح.. وغير ذلك من المواضيع التي كان المسرح المدعوم من طرف الدولة يتحاشى التعبير عنها. 

وكانت مسألة التعامل مع الجمهور، وزاوية النظر إليه من القضايا التي خالف فيها المسرح البريختي المسرح الأرسطي. فهذا المسرح الأخير يدفع الجمهور إلى الاندماج مع الخبرة السيكلوجية للشخصيات، ويحصر اهتمامه في القضايا ذات الطابع الخلقي الفردي، وليس القضايا المرتبطة ببنى اجتماعية أشمل. أما الأول، فينظر إلى الجمهور باعتباره خبرة تستكمل أدوات إدراكها العقلي والوجداني مع كل عرض مسرحي، مما يمكن هذا الجمهور من التدخل لتصحيح ما يعرض عليه من آراء، وعلاقات وهمية خاطئة.

من المسرحيات التي سوف ندرسها للوقوف على خصوصية خطاب مسرح الهواة، ومكوناته وجمالياته النصوص الآتية: (الجاحظ وتابعه الهيثم)  المسكيني الصغير.

وقد تنبه الهواة عند اختيارهم لعناوين مسرحياتهم، إلى أن ما يبدأ به الكاتب سيؤثر في تأويل ما يليه. لذلك  فإن العنوان باعتباره عتبة النص المسرحي، يؤثر حتما في تأويل النص الدرامي."كما أن الجملة الأولى من الفقرة الأولى لن تقيّد فقط تأويل الفقرة، وإنما بقية النصّ أيضا، بمعنى أنّنا ( نفترض أن كل جملة تشكل جزءا من توجيه متدرج متراكم يخبرنا عن كيفية إنشاء تمثيل منسجم) "(7)

والجاحظ، وابن الهيثم، - باعتبارهما شخصيتين رئيسيتين - يتحكمان في الواقع المسرحي، وفي الشخصيات الأخرى، انطلاقا من العنوان الذي يعد في الدراسات السميولوجية " نصا خارجا عن النص الدرامي"( 8 ).

1- صورة السلطة وعلاقتها بالمواطن

وسنتناول صورة السلطة من زاويتين: الأولى من خلال علاقتها بالمواطن. والثانية من خلال علاقتها بالمثقف، صورة الحاكم وعلاقته بالرعية: 

أول صورة للحاكم تطالعنا في هذه المسرحيات، هي صورة الحاكم المستبّد، الذي لا يعير أي وزن للرعية. وهو الشخص الذي يجمع المال، والجاه، والسلطة معا في يد واحدة، وينغمس في مجالس اللهو والمجون، الباحث عن  اللذات، المنشغل بمجالس الأنس والخمرة عن معاناة الشعب. ويظهر الخليفة في مجلسه الخاص، طالبا أحلى الطرب لطرد الهمّ والأكدار.

الخليفة:               قد يروقك الليلة مجلسنا الخاص. (للجارية) تابعي    

                        يا زمرد.. أصلحي الأوتار أطربينا.. أزيلي عن  

                                  مجلسنا الأكدار               

الجارية:                 (تعزف وتغني) أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري

الخليفة:               (ضاحكا بهستيريا) إني والله يا جاحظ.. أغار   

                                 من هذا البعير المنحوس الذي يقلدني في الحب..

الجاحظ:             لا تخف يا مولاي.. فمقلدكم أبكم..(9)   

تفيض أريحية الخليفة في مثل هذه المجالس، فيوزع الأموال على الندماء من الشعراء والجواري بسخاء. ولا تفوته معارض العطور، والأزياء، والنساء، والحفلات التنكرية، التي تقيمها شركات.. وجهات متخصصة في صناعة الجمال في العواصم الغربية.

مبعوث الخليفة:          أيها السادة المتنكرون.. طابت ليلتكم.. بأمر من الخليفة     المستنصر بالله.. أغلقوا بورصة المزاد.. فقد اشترى الخليفة المستنصر بالله منكم دار العطر  وفروعها.

الجميع:                          (تصفيق) عاش الخليفة المستنصر بالله.. (10)

وبنفس الرؤية والإحساس بالضياع والتلاشي، يشعر الشاب المحامي في  مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم). فبسبب وقوفه إلى جانب أحد العمال المطرودين، والدّفاع عنه بالحجج الدامغة ضدّ ربّ المعمل المستغِل، يتعرض للطّرد من المحكمة، ويحكم عليه هو الآخر بالسجن.

الشاب:                     .. لكن لا تنس يا سيدي وموكلي العزيز أنا لا املك   

                                    مكتبا.. مكتبي في عيون الناس.. (صمت) آه كيف أستطيع أن أهيء قضيتك ..(11)

    

وإذا كان الإحساس بالمهانة شاق على المواطن وهو في وطنه، فإن هذا الإحساس يصبح مأساة، تتضاعف مرارتها لدى المهاجر في البلاد الأوروبية. فهناك يكتشف أن حُلمه لم يكن إلا سرابا يتبخر مع الحقد والعنصرية ابتداء من الحدود. ولكي تحصل السلطة على مشروعيتها، والاتفاق العام حولها بصفته شرطا ضروريا لتحقيق التوازن العام في المجتمع - رغم ما يحتدم فيه من تناقضات وصراعات -  فإنها تلجأ إلى وسيلة الإيديولوجيا، لأن كل دولة_ كما يقول عبد الله العروي _ "لاتملك أدلوجة تضمن درجة مناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها، لا محالة مهزومة".  (12)

وفي ظل الأوضاع المتردية للدول العربية التي تغيب فيها الديموقراطية، وتهدر فيها الحقوق الأساسية للمواطن، وتسود فيها القوانين الاستثنائية الباطشة، وينعدم فيها الحوار الاجتماعي، ولا تُحترم فيها التعددية الفكرية والسياسية؛ في ظل هذه الأوضاع التي ترزح تحت ضغط الأزمات المتفاقمة المتحكمة، أصبحت هذه النظم تحتاج إلى إخضاع الجانب الثقافي، للجانب السياسي والإديولوجي. ولذلك فهي تعمل جادّة على تدجين المثقفين، سواء أكانوا داخل السلطة أم خارجها.

2- استمالة المثقف

ومن مظاهر استمالة السلطة للمثقف، إصرار الخليفة المستنصر بالله في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) على منادمة الجاحظ له في مجالس طربه ولهوه، وإلزامه بالكتابة عن حيل اللصوص والمحتالين والمكدين والحمقى والمغفلين وقصصهم، من أجل التسلية بها. كما يُرغمه على المساهمة في الحفاظ على الأمن والأمان، وعلى أموال الخزينة.

ويرى الكثير من الباحثين في مسألة علاقة المثقف بالسلطة (13)، أن احتكار الدولة للسلطة يعمل على تهميش المثقفين. وكل إجراء يصدر من المثقف المستقل عن السلطة لفهم الواقع، أو  لكشف ممارسات النظام القائم وإديولوجيته، يؤول على أساس إثارة الفتنة، أو دعوة إلى تهديد التوازنات الأساسية القائمة. ومن هنا نشأت ظاهرة جذب السلطة للمثقف واستمالته، من أجل إلزامه بما تحدده له من دوائر للإنتاج الفكري والثقافي والفني، بما يخدم إديولوجية السلطة القائمة ومصالحها، وإضفاء الشرعية على الممارسات السياسية السائدة.

الجاحظ:           أرى أني قائل غير الحقيقة ..  

الهيثم:                لكن الخليفة المستنصر بالله يطلب

                              منك أن تحمي الرعية والخزينة..

                              وتنظف قاع المدينة من اللصوص..

                              والمستهترين.. والمستخفين بأمن الدولة..

الجاحظ:        الرعية أكبر من سيف الجلاد ( صمت)

                             أحس أني شاهد قد ارتشى.. وأن قلمي يرسم غير ذات الحقيقة..

                             كتابتي يا هيثم إبرة من ذهب..

                              تخيط أفواه المظلومين والجائعين باسم الحكمة..(14)

  

ويكتب الجاحظ تحت طلب الخليفة، النوادر  والمستملحات والحكايات المسلية، عن المشردين والحمقى والمجانين مما يرفه عن الخليفة، ويعينه في دعم الخطاب الثقافي والسياسي والتاريخي الرسمي.

الخليفة:            كتابك المنتظر يا جاحظ.. سوف يغير أحوال الرعية..

                              سأباهي به كتاب العجم.. وأستعين به في فتوحاتي..

                               واسترجاع ولاياتي المستلبة.. لا تنس يا جاحظ أن تجعله

                               ممزوجا بالملح... (15).

ويرى د.مروان فارس أن "العلاقة بين المثقف والسلطة هي علاقة اعتراضية باستمرار. فهناك نزاع تاريخي بين المثقفين والسلطات التي ينضوون تحت لوائها"، (16) ويتكون النزاع بين المثقف والسلطة عندما يستيقظ الوعي الذاتي، أو الموضوعي، المنظم أو التلقائي لدى المثقف، ويدرك أنه موضع استغلال من جانب السلطة التي يمثلها، وأنه يوجد في المستويات الدنيا من السلم الاجتماعي رغم ما يقدمه من إنتاج فكري وثقافي وفني. وحين تصل حالة الوعي لدى المثقف الذي يقف بجانب السلطة إلى الشعور بالغربة، وانفصام الوعي بسبب التناقض الذي يجد نفسه فيه بين إنتاجه الثقافي وبين ممارسته، وبين التوظيف الإديولوجي لثقافته ومعارفه، يُعلن العودة إلى الذات والتخلص من الماضي.

يمثل الجاحظ هذا النوع من المثقفين في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) كما يمثله ابن الرومي في مسرحية (ابن الرومي في مدن الصفيح). ففي المسرحية الأولى يستيقظ وعي الجاحظ حين يتحرر من قصر الخليفة، ويطوف البلاد بحثا عن قصص اللصوص وحكايات المشردين. حينئذ يكتشف الواقع كما يعيشه الناس؛ ويشهد الجور في المحاكمات. وينصت إلى مآسي الناس، ومعاناتهم مع رموز السلطة ووسائلـها التي تصـل إلى الجميع، وفي كل مكان.

الجاحظ:            انْقُل عنّي للناس أنّي قد ضللت الطريق..

الهيثـم:                 أنت في نهايته يا شيخي.. ويجب أن تقول كلمتك..

الجاحظ:            الخروج عن هذه الطريق نجاة يا هيثم.. دعني أكذّب نفسي..

                                 وأصحّح المسار والمدار. من شابهني فقد كتب على الماء..

                                  وأهدى للناس شواهد قبور واغتال الحقيقة..(17)

وعندما يراجع الجاحظ ما كتبه في ضوء ما اكتشفه في الواقع، يستيقظ فيه وعيه الاجتماعي ويشعر بالاغتراب، فيتبرأ ممّا قدّم للنّاس من كُتُب زائفة كان يكتبها تحت الطلب. لقد اكتشف أنه كان بعيدا عن الحقيقة، وعن معاناة الناس، وعذاباتهم ومحنهم. فهو مع الظلم، والفقر، والمرض.

لكن تغيير الظروف والخروج من قبضة السلطة ليس بالأمر السهل. فالجاحظ حين يصل إلى الحقيقة، ويعلن القطيعة مع ماضيه وكتاباته، تعتبره السلطة خارجا عن القانون، ومجرما خطيرا تطارده العدالة بتهمة التحريض، والشغب، والتطّرف، وتهريب الحشيش... وفي الحدود يطلق عليه الحرّاس الرّصاص ظنا منهم أنه يحاول الهرب فيردونه قتيلا.

3- الوعي المأسوي في الجاحظ

من بين الأشياء التي تخلق الإحساس والوعي المأساوي، حضور الشخصية في الفعل الدرامي، أي عندما تستطيع أن تختار  وتمارس حريتها. وكذلك تناقضها مع الواقع والمجتمع الذي ترفضه وتتصادم معه... وإن ما يميز الطابع التراجيدي في مسرح الهواة، أنه ليس قدريا، ولا فلسفيا، ولا أسطوريا ميتافيزيقيا كما هو الأمر في التراجيديا اليونانية ولا التراجيديا الغربية المعاصرة. فالإحساس التراجيدي في هذا المسرح يتولد من اصطدام الإنسان بالقيم الحضارية، التي سعى بكل طاقاته إلى إنتاجها، ومن قلقه الوجودي إزاء مصيره الذي كلما حاول الإمساك به، بَدا لَهُ مجهولا غامضا؛ ومن الحياة العصرية المبنية على الآلية الميكانيكية التي لم تمنح الإنسان السعادة التي كان ينشدها من وراء التقدم المادي والحضاري.                 

4- المأسوية البريختية والهواة، والشخصية التاريخة

ففي المأساوية البريختية الحياة تبتلع الحيوية والوسيلة تهزم الغاية، التي تسعى إليها وتفسدها بدلا من أن تحققها أو تنميها... ويلخصها [مستر بيتشوم] في (أوبرا بثلاث قروش) حين يقول: "من ذا الذي لا يريد أن يكون طيبا ورحيما.. ولكن الظروف لا تريد ذلك! .(18 )

ويستدعي المسكيني الصغير في المسرحية، كلا من الجاحظ، والخليفة المستنصر بالله، والهيثم، والحاجب، والجلاد ...  فالشخصيات التراثية ليست كائنات تنتمي إلى الماضي الذي انتهت وظيفته، وإنما هي مواقف، وقيّم، ورموز، وإيحاءات مستمرة في الواقع والتاريخ.

وعلى خلاف ابن الرومي، فإن خطاب الجاحظ في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) يعبر عن رفضه لمنظومة القيم التي كبلته فترة من الزمن، كان فيها أسيرَ  وعيٍ مسالم، تابع لهيمنة نظام الخليفة. لكن إحساسه بألم الآخرين أيقظ فيه الوعي التراجيدي، ودفعه الندم إلى تخطي النظام الذي وقع فريسته في السابق، ليعلن تخليه عن ماضيه، وتبرئته من فكره وكتبه التي كانت تموه الحقيقة، وتقدم المآسي والفواجع صورا للسخرية والضحك... ومن أجل أن يتّطهر، ويبدأ الحياة من جديد، يعلن الجاحظ القطيعة مع ماضيه.

الجاحظ:           (مترددا) لا أستطيع يا هيثم أن أشرب الهزيمة مرتين..

                     لماذا تشجعني على الهروب (صمت) عدالة المستنصر بالله

                                 تطلبني... أنا الذي أعطيتها المفتاح والقيود، وباركت 

                                 أحكامها في نصب المشانق للصوص "المافيا"..(صمت)

                                 من يحررني من ذنبي (صمت) ها أنا الآن قد أدركت أخيرا

                                  من يكون فينا السماد والبذرة... (19) 

لقد أدرك الجاحظ أنه كان وسيلة السلطة وضحيتها. فبعد مرحلة الإحساس بالآخرين، بدأت عنده مرحلة الحيرة، والخوف، والتردد. وهي أحاسيس تميز الوعي التراجيدي، وتمهد السبيل لتجاوز القول إلى الفعل للوصول إلى التخطي. لقد نبهّه الواقع والحقيقة إلى خطورة المهمة التي مارسها، والوظيفة التي كلف بها... فعمت كتاباته روح الدعابة، وملاحقة النكت والمستملحات حتى زكت الظلم، فتفاقمت المعاناة التي ولدت العصيان، والتمرد، والثورة.

الجاحظ:         آه الآن يا هيثم .. أدركت لماذا كفر الزنج بالسلطان

                              في البصرة.. ولماذا ثار القرامطة، ولماذا ضاعت الأندلس

                              وبيعت ولاية فلسطين..

الهيثـم:                هذا يثير حفيظة الخليفة المستنصر بالله.. وأنت ضيفه ونديمه

                               الليلة..

الجاحظ:          ليت كتبي.. وكل الجمل المسجوعة تحولت إلى    

                               سيوف ونبال في نحور اللصوص، والأعداء حتى    

                               أعتق الناس من شبح النخاسين.. (20).

     

إن الرحلة التي قام بها الجاحظ داخل نفسه وفي محيطه، مكنته من كشف النّقاب عن حقيقة الواقع، والأشخاص المتّهمين باللصوصية والصعلكة، والخروج عن النظام. فقد جعلته هذه الرحلة يعيد قراءة التاريخ ليقف على الأسباب الحقيقية لانتفاضة الفقراء والمهمشين والمبعدين (الزنج، والقرامطة..)؛ وعلى السقوط، والتردي العربي والإسلامي. لقد وعى أن القهر  هو الذي أضعف الإنسان العربي، وعطّل قدراته حتى أصبح مثقلا بالهزائم والنكسات؛ فأهدر طاقاته دون أن يمنحه فرصة المشاركة في بناء نفسه، ومجتمعه، وحضارته.

ويصل الجاحظ إلى الإحساس التراجيدي بتجاوز حالة اليأس، إلى ضرورة الفعل. حينئذ بدأ يكشف الأستار  عن عالم الأقنعة، والزيف، والنخاسة الذي كان يزكيه بكتاباته وصمته. وأول بداية هذا الإحساس اعترافه بضلال الطريق، وبرفضه الهروب من سلطة الخليفة. ويمثل الهيثم صوت الجاحظ الداخلي وأنّاه. وفي قمة اليأس، تولد التفكير في الفعل. وعلى عكس الشاب الذي دفعه اليأس إلى التفكير في الانتحار، يرفض الجاحظ الخلاص الفردي والهروب من مواجهة الظلم. ولذلك كانت نهايته شبيهة بنهاية الشخصيات التراجيدية، التي تقف متحدية مصيرها، غير مبالية بقوة الخصم، وسلطته. وهكذا يفضل الموت على الاستسلام والانسحاب.

الهيثم:                  لنبتعد يا شيخي.. من حقنا أن نحتفظ بأنفسنا

                                 أحياء.. نتنفس هذا الهواء... (صمت)  نحن نلقي

                                 أنفسنا عزلا في فخهم..           

الجاحظ:           أنت لست أعزلا ...

الهيثـم:                    لنختف يا شيخي ..

الجاحظ:              أنت سلاح نفسك.. انفجر متى شئت. (21)

لقد حاول مسرح الهواة، من خلال النموذج الذي وقفنا عنده، تجاوز البناء الكلاسيكي، ولاسيما في بناء الشخصية الدرامية. فهم يصورون مواقف تراجيدية، لكنهم يريدونها أن تكون خاضعة لمراقبة المتلقي وفحصه، حتّى لا يقع فريسة الإيهام والاندماج. لذلك، كانوا يعمدون كثيرا إلى تكسير الحدث، والتلويح بأن المأزق التراجيدي ليس مغلقا تماما، وإنما هناك مخرج ما، وأن الرؤية التراجيدية ليست قدرا نهائيا لا مفر منه.  

لقد كان المسرح عندهم وسيلة للصراع يتحدد به الموقع الاجتماعي، والموقف السياسي. كما كان يضع الهدف التنويري قبل كل الوظائف الأخرى، وذلك بتعامله مع القضايا الشائكة والمستعصية. وقد تعرض بسبب جرأته إلى مضايقات كثيرة، لكنه كان يصمد في وجهها إيمانا من ممارسيه برسالة المسرح في التغيير. وقد استطاع هذا المسرح أن يعرض صور المآسي والمعاناة التي عانتها الفئات المثقفة، والعاملة على يد قوات السلطة، والقوات الاستعمارية الامبريالية العالمية. 

ففي مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) يموت الجاحظ برصاص حارس الحدود بعد أن رفض الهرب، رغم توسلات الهيثم، ومحاولة إبعاده عن الحدود. ويشكل الموت في هذه الحالة حافزا، طالما واجهته الشخصية في صورة مخاطر تعترضها خلال أفعالها وأقوالها. كما يشكل عقبة أساسية حينما تقف الشخصية، وتنقطع إمكانية مواصلة الجهود وتحقيق القيم الجديدة. كما نجد وجها آخر للموت، وهو الموت الناتج عن الإهمال، وعدم تدخل الطبيب في الوقت المناسب. فأخ الشاب (الجاحظ وتابعه الهيثم) يموت بين أيدي الطبيب لأن المستشفى عجز عن توفير الدواء البسيط للمريض.

ويستمر تطلع الإنسان العربي إلى الحرية والاستقلال والسيادة؛ وهو الذي عانى قسوة الاستعمار. وقد شعر بأن ثقته بنفسه وبقدراته تتعرض يوميا للاهتزاز والخلخلة، وهو يتأرجح بين الإخفاق واليأس والمقاومة حتى أصبح اليأس "داؤنا العربي المفزع، وكل شيء في محيطنا العربي الممزق يشارك في تعميق النزعة اليائسة، ومواجهة هذه الحال لا تكون بإشاعة الأمل الزائف، وإنما بتعميق المعرفة والثقة بالنفس والإيمان بالغد".(22)

وفي هذه المسرحية، يرغم الشخص1 على الصمت، والتكيف مع السجن والاغتراب، لأنه نطق بالحقيقة، والحكمة، وعشق الوطن وحب الأرض. فهو يجرم حتى يتوب، ويعلن أنه كان في الطريق الخطإ.

شخص1:        (شاردا) ما تزال الكلمة تخونني...(صمت) نبوءتي

                              وعشقي أكبر من الحروف.. (صمت) لساني تخشب..

                               كان علي أن أفعل شيئا... أخطو.. أتقدم..

                              أتعلم من بأس الفأس وهو يفصل جذر الحنظل... (23) 

5- صور المعاناة في المدينة 

 تأخذ صور المعاناة التي تتعرض لها الشخصيات في مسرح الهواة، أشكالا وأوضاعا متعددة. وهي تتفاوت في القسوة والعنف: من تعذيب ونفي وسجن وتلفيق التهم، والتسبب في عاهات وتدمير للإرادة.. وغير ذلك من أساليب القهر، وتعطيل فاعلية الجسم والنفس وإرادة الحياة.

يلخص المسكيني الصغير، وضع المدينة التي حل بها الجاحظ بأنه وضع درامي، فالمدينة محكومة من طرف عصابات المافيا والمهربين والمحتالين الكبار. 

الجاحظ:           ...فالظلم كل الظلم أن تسرق الرعية، ويظلم الحر في

                                  وضح النهار باسم العباد والثقة والعدالة...(24)   

* السجن والمحاكمة

ومن ألوان التعذيب نجد معاناة السجن. وهي تجربة تتحملها الشخصيات التي تتهم في الغالب بالخروج على النظام العام. ففي مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم ) نلتقي بسجين سياسي، عاشق للأرض إلى حد التضحية. يجد نفسه في السجن بتهمة اللصوصية. إلا أنه يدرك المؤامرة ويقرر المضي في الطريق لإصلاح الأخطاء، والوصول إلى غايته. 

    

شخص1:              (شاردا) كانت يداي في القيد كحزمة من السنابل

                                   بين يدي فلاح موشومة...(صمت) ألم أقل لك إنه

                                   شقاء لذيذ.. ذلك الذي يدفعك إلى أن تحتضن

                                   تراب الأرض، وتشّم فيه دمك المسفوح عطرا ليس

                                   كباقي العطور. (25)

 ويعد موضوع العدل من أهم المواضيع التي استأثرت باهتمام المسرحيين الهواة. فالعدالة ترتبط بالحرية ارتباطا كبيرا.. وكلاهما سارا في خط تطوري واحد، مع احتياجات الإنسان العربي إليهما. وتفسر كثرة المحاكمات في هذا المسرح بدوافع إثارة الاهتمام والتنبيه إلى المحاكمات الكثيرة التي تمّت في السبعينات والثمانينات على إثر الأحداث السياسية والاجتماعية التي عرفها المغرب. إلا أن المحاكمات التي تتعرض لها الشخصيات هي في الغالب صورية. ويكون الحكم جاهزا حتى قبل الإدانة، ممّا يعني تبعية القضاء للسلطة الحاكمة.

ويحاكم الشخص 1 في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) بتهمة احتراف السرقة، والاستخفاف بالأمن. لكن المتهم يقرّ أن جريمته هي حبّ الأرض. فيتدخل القاضي لإسكاته. ويحضر الشهود ليؤكدوا تهمة كتابة أشياء ممنوعة في الأماكن العمومية. ثم يحكم القاضي على الشخص 1 بقطع يده اليمنى.

وفي نفس المسرحية، يحاكم أحد العمال بتهمة قتل رب المعمل. وعندما يقدم المحامي الشاب الحجج والدلائل التي تدين رب المعمل، تتهمه المحكمة بالمروق والسلوك المشين والإساءة للعدالة، فتحكم عليه بالسجن والفصل من سلك المحاماة.

كما نجد في آخر المسرحية محاكمة أخرى وهمية، تقام على مشارف الحدود؛ يقوم فيها الحارس بدور القاضي، ويقف فيها المحامي الشاب مدافعا عن الجاحظ، محاولا تبرئة ساحته. وتأخذ المرافعة بعدا أشمل، هو الدفاع عن الحقيقة والفكر الحرّ، والقلم النزيه، والكشف عن المجرمين الحقيقيين. لكن المرافعة كانت صيحة في خلاء، فتنحاز العدالة مرة أخرى وتساهم في اغتيال الصوت والكلمة والعقل، ممثلين في شخصية الجاحظ.

6- الصراع ورؤية العالم

يؤكد د كمال عيد أن الدرامية في أي مسرحية "لا تتحقق إلا بوجود مصارع أمامها يحمل إحدى كتفي الصراع. وهو بسلوكه العنيد هذا يبعث بالحياة إلى الدراما." (26) فالشخصية الدرامية تتحمل عبء الصراع من خلال سلوكها، وخطتها، وإصرارها على موقف معين. ومبدئيا فالتعارض يختلف عن الصراع الذي تتمثل وظيفته في تجميع الشخصيات، وتوحيد التعبير عن علاقة شخصية ما بالشخصيات الأخرى. أي أن تطور العلاقات بين الشخصيات يتم حول علاقة تعارض، وعنه ينشأ الصراع.

ونجد في مسرح الهواة مستويين اثنين من الصراع:

*مستوى الصراع الخارجي وهو ذو أبعاد اجتماعية وسياسية.

*مستوى الصراع الذاتي (الداخلي) وهو ذو أبعاد نفسية.

+ الصراع في (الجاحظ وتابعه الهيثم)

 والصراع الذي يخوضه شخص1، والشاب، في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) هو من نمط الصراع الذي خاضه كل من سرحان.. فالطرف الثاني من الصراع يبقى دائما هو السلطة، أو الدولة بمؤسساتها السياسية والقضائية والثقافية. فالصراع بين هؤلاء الأفراد وبين هذه المؤسسات يبرز على المستوى الأديولوجي. فرغم أن هؤلاء لا يمثلون طبقة، أو مجموعة، أو هيئة، إلا أنهم يتوحدون في رؤيتهم للعالم. فالعالم بالنسبة لهم معطى أفسدته سلطة المال، والقوة، ومصالح الأقوياء. وقد فقدوا كل أمل في إصلاح الواقع، لكنهم وقفوا عاجزين عن امتلاك الوسيلة لتغييره.

وفي المسرحية الثانية، يعيش الجاحظ وضعا قريبا من وضع ابن الرومي. فالجاحظ الذي عاش زمنا في كنف الخليفة، وألف كتبا كثيرة حسب الطلب، يفاجأ بحقيقة الواقع عندما يعايش الناس. ومن هنا تبدأ معاناته الداخلية. وعندما يعي المأزق الذي وضع فيه، يتبرأ من كل ما كتب. ويقبل على الموت رغبة في التطهير والخلاص.

 7ـ الفضاء الآمن (الشخصي)

وهو الفضاء الذي تمارس فيه الشخصيات سلطتها بحرية. ويكون بالنسبة لها مكانا مألوفا. ويكون للمكان هنا بعد نفسي إلى جانب الوظيفة الفنية، والبعد الاجتماعي، والتاريخي، والعقدي. وهذه الأبعاد ترتبط أساسا بالمكان ولا تكاد تفارقه.

ويشعر الجاحظ في دراما (الجاحظ وتابعه الهيثم) بالغربة، وعدم الانتماء نحو المدينة، التي يحلّ بها ضيفا على الخليفة المستنصر بالله. فبعدما يتسقط أخبارها، ويعرف أسرارها وخباياها تتغير نظرته إليها، ويبدأ في بناء مفهوم جديد لعلاقة الحاكم بالسجناء والمهمشين والمبعدين. فعن طريق معايشته للواقع أدرك المفارقة التراجيدية بين ظاهر المدينة الناصع وباطنها المتعفن.

الجاحظ:           (ثائرا) لا.. لا يا هيثم.. نحن المجرمون في حق هذا

                                الرجل..(صمت) من يمسك محراثه ومنجله.. ويحصد زرعه..؟

                               (صمت) هذه مدينة فاجرة ومستنقع كبير... (27)

ويدرك الجاحظ العلاقة بين المدينة العربية، وبين المدن والعواصم الغربية، تلك العلاقة المبنية على التبعية الاقتصادية والسياسية. فهو يرفض الفرار إلى إحدى تلك المدن، لأنه يعلم أن لا فرق بينهما في رؤيتهما للشخصية، المناهضة للتسلط والتبعية.

الهيثـم:                لنهاجر إلى بلاد العجم.. أمريكا يا سيدي واسعة

                               قد تؤيد بعض أفكارنا..

الجاحظ:         ها أنت تختار جزارك وحدك.. والنخاس الذي

                               يبيعك ألف مرة.         

الهيثـم:            فرنسا يا سيدي صديقـة..

الجاحظ:          كل هؤلاء يا بني يملكون في الخفاء والجهر خراج هذه

                               الأمة. (28)

 وهذه الرؤية التي يحملها الجاحظ عن المدينة (الدولة)، يحملها أيضا الشاب الذي يدفعه الشعور بالظلم إلى التعبير عن قهر السلطة، وامتدادها في المؤسسات العمومية: التربوية، والقضائية، والاجتماعية.

الشاب:             يهمهم أن نتجرع النسيان في المدرسة، والشارع

                              والمقهى.. أن نشربه ممزوجا بالخوف والحصار.. (29)

ويتحول مكتب التشغيل في مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم) إلى مستودع للأموات والمعطوبين. فهو يصدر القوة العاملة النشيطة، ويستوردها أجسادا مشلولة عن الفعل والحركة. إن ما يهم المكتب أساسا هو العملة الصعبة. وبهذا ينتفي البعد الإنساني داخل سوق الشغل.

الأعرج:                 ..أهم شرط أن تساهم في إنعاش العملة الصعبة.. وأن

                          يكون لك ملف خاص هناك في الخارج..(30)

تقوم العلاقة في سوق الشغل على تصدير اليد العاملة إلى الخارج، واستغلالها في الأشغال الشاقة واستنزاف قوتها العضلية. ويتجلى ذلك من خلال الشروط التي يفرضها هذا المكتب على المرشحين للهجرة دون اعتبار الشروط الإنسانية. بل إن ما يحكم هذه العلاقة هو احتقار اليد العاملة المنحدرة من الدول العربية والإفريقية.

 الشاب:          مادمت أتكلم.. فالوقت طويل.. طويل.. طويل..

                           كطريق لا تنتهي، صدقني أيها النادل العزيز.. لو أن

                           هناك سلما يتجه نحو كوكب مجهول لتسلقته

                            وحدي.. نعم وحدي.. (31)

ويمتد الإحساس بالهروب من الواقع المتأزم حتى الأطفال. فهم أيضا يتطلعون إلى الفضاءات الآمنة، ويسعون إلى إيجاد العمل والكرامة، لا سيّما أولئك الذين تحمّلوا مسؤولية الأسرة وهم في سنّ الدراسة.

التلميذ1:            انقطعت عن الدراسة منذ ثلاث سنوات...أريد أن

                                  أذهب إلى البلاد التي تقع  وراء البحار.(32)

وهكذا تمتد الرؤية الهروبية إلى جميع فئات المجتمع، رجالا وأطفالا ونساء. فالطفل1 يغادر المدرسة من أجل البحث عن عمل يعول به أسرته. وهو الآخر يلتمس العمل والكرامة في ما وراء البحر.

ومن خلال بحثنا في الفضاء الدرامي، توصلنا إلى استنتاج مفاده، أن الفضاء في هذه المسرحيات يكاد ينحصر في ثلاثة أنوا ع هي: الأفضية الآمنة، كالبيت  والحي، وهي قليلة ونادرة. وأفضية عدوانية، وتكون تحت وصاية السلطة وإشرافها. وأفضية محايدة، وهي بعيدة عن تحكم السلطة ممّا يجعلها مأمونة. ولكن هذه الأفضية تكون في الغالب رمزية أو خيالية. ويستحيل الوصول إليها في الواقع.

8- الهواة والمجهود الذاتي

ويرى د.حسن المنيعي أن "ما يثير الانتباه في إنتاجاتهم، هو الرغبة في الوصول إلى قمة الإتقان، وتعطشهم للدراسة والمعرفة إلى حد تجاوز مشاغلهم اليومية وإهمالها، كأساتذة ومعلمين وموظفين وعاملين".(33). وفي غياب المؤسسات الفنية التي تقوم بدور التكوين والتأطير. فقد اعتمد الهواة على مجهوداتهم الشخصية في التكوين الذاتي، وقدّموا عروضا ملتحمة مع الخصوصية الفكرية والثقافية والوجدانية للإنسان المغربي، وقد استخدموا الحكاية الشعبية، وفنون الرقص الشعبي والتراث الغنائي وتقنيات التقطيع و(الكولاج)... إلى أن صارت أعمالهم عروضا مسرحية فنية تنطوي على عوالم متعددة. 

ويقوم الجاحظ بهذا الدور في بداية مسرحية (الجاحظ وتابعه الهيثم). وهو يشبه الراوي في الأدب الشعبي. فهو يسجل الأحداث، ويرويها للجمهور بطريقة غير مباشرة.

الجاحظ:             وأنا في رحلتي الميمونة زائرا.. وباحثا منقبا..  في الكتب..

                                  كاشفا الغطاء عن العجيب والغريب.. ونازلا بالمناسبة..

                                 ضيفا عزيزا مكرما عند الخليفة المستنصر بالله... (34)

يروي الجاحظ -الراوي- الوقائع والأخبار الغريبة والعجيبة التي سمعها عن تابعه الهيثم، عن البلاد التي توجد في أقصى الغرب. فهو يسجل كل غريب وشاذ حتى تكون المادة المنقولة مثيرة للانتباه، مستحقة المتابعة لتحقيق المتعة، والفائدة.

وعندما يتوقف الراوي، يبدأ التشخيص، فينتقل الفعل الدرامي من مستوى الحكاية، إلى مستوى الفعل. فالجاحظ يقوم بثلاث وظائف، فهو يدوّن ما يسمعه ثم يرويه للقراء، ويشهد تشخيص كل ذالك حين يبدأ التمثيل.

يجسد الراوي صوت التاريخ الحقيقي: تاريخ الضعفاء الذي لم يكتب بعد. وهو على نقيض تاريخ الأقوياء الذين يكتب وفق ما يرغبون، لا وفق ما حدث بالفعل. وينوب الراوي أحيانا عن الجمهور ويصبح صوته المسموع. فيساءل الشخصيات للكشف عن الحقائق المستورة أو المزيفة أو المخفية عن الجمهور. فهو الصوت الكاشف للحقيقة، والفكر الناقد، والوعي المتحمس للتصحيح والإصلاح والتغيير.

9- الجوقة في الجاحظ وتابعه الهيثم

والجوقة من موقعها الاستراتيجي فوق الخشبة، تستطيع أن ترى أكثر مما يراه الممثلون المشتركون في الحدث الدرامي والمتفرجون في القاعة. لذلك فهي تعلق على الأحداث بهدف تعميق أثرها. وتمهّد للأحداث اللاّحقة بهدف تسهيل استيعابها. فهي بهذه الوظيفة تمثّل همزة الوصل بين مختلف أطراف الحدث الدرامي الإيهامي، وبين ما يجري على المسرح وبين الممثلين والجمهور.

وتقوم (المجموعة) بتعميق الفعل الدرامي، وذلك بتشخيصها لأوضاع الشخصيات، ونقل الفعل التخيلي إلى واقع الجمهور، منتقلة من الخشبة إلى القاعة. وهي بذلك تلغي الحاجز الوهمي، وتكسر الجدار الرابع، الذي يفصل الخشبة عن الجمهور. فهي تكسر الإيهام المسرحي ليصبح الجمهور طرفا مشاركا في اللعبة المسرحية، لأنه معنيّ ومسؤول عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تعرضها المسرحية.

يقوم هذا النوع من الخطاب في حوار المجموعة وفي تشخيصها. ويعبر عن تفكير الفئات الشعبية، وعن ورؤيتها للعلاقات الاجتماعية والسياسية، وعن موقفها من الصراع الدائر بين المستغِل والمستَغل. وتُشخصّ المجموعة هذه القيّم بعرضها لمشاهد استغلال الأطفال في أشغال شاقة، وفي ممارسة التجارة في السوق السوداء. وفي هذا المستوى يتطابق الخطاب المشهدي المنظور مع الخطاب اللغوي الملفوظ.

التلميذ الأول:             والدي قد توفي... أخاف أن أنقطع عن الدراسة

                                           لأجد عملا أعول به أسرتي الفقيرة..

المجموعـة:                    اتسيري...اتسيري.. (داخل القاعة) اتسيري..

                                           (إلى الجمهور) اتسيريوا.. (35)

وتعمد مسرحية (الجاحظ..) إلى إبراز الملامح التاريخية بتصوير الأحداث والشخصيات، وكأنها ظواهر تاريخية عابرة. فالأحداث والشخصيات (المألوفة) تفقد وضوحها وبداهتها وألفتها، وتتحول إلى عناصر تثير الفضول والاستغراب والدهشة، من خلال الجاحظ من القرن الثالث الهجري إلى القرن العشرين. فاللجوء إلى تغريب الحاضر المغربي والعربي، يمنحنا فرصة فهم التاريخ والحاضر معا وفق المنظور الجدلي الموضوعي.

ومن مظاهر تغريب الخطاب الدرامي، تحدث الشخصية عن نفسها بصيغة المخاطب. فالجاحظ يناجي نفسه وكأنها شخصية منفصلة عنه. 

الجاحظ:               ها أنا أجرّم في وضح النهار..(شاردا) آه.. يا جاحظ..

                          لم ينفعك السجع والنثر المرسول.(36)

استعمل الكاتب ضمير المخاطب في المواقف التي يناجي فيها الجاحظ نفسه، أوفي محاسبة ذاته في مواقفها القديمة. وهي بداية على يقظة الوعي لديه. وهذا الموقف الجديد سيبعث تساؤلات لدى المتلقي، تؤدي به إلى اتخاذ موقف محدّد من الجاحظ.

خاتمة

لقد أدرك الهواة ضعف اللغة الدرامية في المسرح الاحترافي، والمسرح التجاري، ومسرح التأسيس. ومن أجل تجاوز ذلك، لجأوا إلى لغة تمزج بين الواقعية والشعرية، مع الحرص على جمالية العرض وطريقة أداء الشخصيات؛ ممّا يلزم المتلقي على الإقبال على هذا المسرح. وقد وفق الكثير من الهواة في التقاط لغة الناس العاديين وتوظيفها في لغة درامية متميزة بشعريتها وجماليتها، معتبرين اللغة عنصرا جوهريا ذات وظيفة حيوية في المسرح. فهي ليست أمرا ثانويا أو مجرد تعبير ثقافي.

لقد استطاعت هذه المسرحية التي توقفت عندها، أن تؤسس شعريتها المتميزة، ولغتها الدرامية الخاصة وفق رؤية خاصة للعالم، ومن منظور جديد، يعتبر المسرح مؤسسة ثقافية، وحضارية أساسية لبناء الإنسان العربي المقهور، ووسيلة للتعبير عن روحه المنطلقة التواقة إلى التحرر من كل المعوقات، والقيود السياسية والاجتماعية والثقافية.. ومنبرا حرّا للثقافة الحيّة التي تخاطب الطبقات الشعبية، وترتقي بفكرها ووعيها، وتهيئتها لحياة أفضل.

 

د. معمر بختاوي

..................

المصادر والمراجع.

1 - عن فاطمة يوسف: المسرح والسلطة في مصر، من 1952-1970، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1994، ص 26.

2- .حسن المنيعي: هنا المسرح العربي هنا بعض تجلياته، منشورات السفير، ط1، 1990، ص     .76.77  

3- المرجع السابق، ص 76.

4- د.أحمد عتمان: قناع البريختية والشيوعية، مرجع سابق، ص 101.

5-  د.عبد الرحمن بن زيدان: خطاب التجريب في المسرح العربي، مرجع سابق، ص155.

6- عز الدين بونيت: الشخصية في المسرح المغربي بنيات وتجليات، منشورات كلية الآداب جامعة ابن زهر، أكادير، ط 1، 1992، ص 174.

7- حسن المنيعي، المسرح المغربي) من التأسيس إلى صناعة الفرجة)، مرجع سابق، ص25 .

8 -  يرى باتريس بافيس في معجمه، Dictionnaire du théatre , Edition social , Paris , p4   أن العنوان عبارة عن إشارة مسرحية تؤثر معرفته الضرورية على قراءة العمل المسرحي.

9- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مسرحية مرقونة، ص7.

10 - المرجع السابق، ص17.

11- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 21.

12 - عبد الله العروي، نقلا عن المرجع السابق، ص 400. 

13- ينظر كتاب: المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، ندوة من تنظيم معهد الإنماء العربي، ص101، 293 . 392.

14- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 4.

15- المرجع السابق، ص7.

16- د.مروان فارس، ضمن كتاب: المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع، مؤلف جماعي، المجلس القومي للثقافة العربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1985، ص 45.

17- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 17.

18- د.أحمد عتمان: قناع البريختية والشيوعية، مرجع سابق، ص 94.

19- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 18.

20 - المرجع السابق، ص 6.

21- الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 19.

22 - د.عبد العزيز المقالح: ضمن المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 14.

23- المسكيني الصغير: والجاحظ تابعه الهيثم، مرجع سابق، ص 1.

24 - مرجع سابق، ص2.

24- مرجع سابق، ص1.

26 - مرجع سابق، ص1.

27- مرجع سابق، ص4 . 

28- المرجع السابق، ص19 .

29-  مرجع سابق، ص3.

30-  مرجع سابق، ص13.

31- مرجع سابق، ص3.

32- - أحمد العراقي : الشمس في بلاد الضباب، مرجع سابق، ص45 .

33- الرش مصدر، جمعه رشاش وهو المطر القليل. ويطلق على الضرب الموجع. ورشت الطعنة: اتسعت فتفرق الدم (المنجد في اللغة والأعلام، دار الشروق، بيروت، ط27،ص 261.)

34- المسكيني الصغير: الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص2.

35- أحمد العراقي: الشمس في بلاد الضباب، مرجع سابق، ص44، 45.

36- المسكيني الصغير : الجاحظ وتابعه الهيثم، مرجع سابق، ص5.

       

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم