صحيفة المثقف

التسابق الأنتخابي في زمن الجذام الأخلاقي

qasim husansalihالجذام مرض جلدي معد، تسببه بكتريا تتكاثر ببطء شديد وينتقل بالعدوى ليصيب الجميع:ذكور ، اناث، كبار، صغار .. وله فترة حضانة تستمر خمس سنوات.ولأن أعراض ما حصل لأخلاق العراقيين بعد (2003) تشبه اعراض الجذام فأنني استعرته لننحت منه مصطلحا جديدا في علم النفس العربي بأسم (الجذام الأخلاقي) .. منطلقين من حقيقة ان أخلاق العراقيين كانت قبل (2003) افضل من حالها الآن (2018) .. فما هي (البكتريا .. السياسية، الاجتماعية، السيكولوجية .. ) التي كانت السبب؟. وما هي طرائق العدوى التي انتقل بها الجذام الأخلاقي ليصيب الغالبية المطلقة من العراقيين؟ وما الذي ينبغي على المفكرين والمثقفين أن يفعلوه لمكافحة هذا الجذام؟

ان افدح كوارثنا هو ما حصل (للضمير العراقي) من جذام أخلاقي في السنوات الثمان والثلاثين الأخيرة. ولنتفق اولا على تحديد مفهوم (الضمير) فهنالك من يصفه بـ(القاضي) الذي يحاسبنا على اخطائنا، ومن يصفه بـ(الحارس) او (الرادع) الذي يردعنا حين نهمّ القيام بفعل غير اخلاقي، او (الرقيب) على السلوك قبل وعند وبعد الشروع بأي عمل، فيما يصفه آخرون بان الضمير هو الصدق والايمان.ونحن نحكم على الاشخاص بقولنا (عنده ضمير) ان كان ذا اخلاق، و(ما عنده ضمير، او ضميره ميت) ان كان عديم الأخلاق .. ما يعني ان كل واحد منّا هو منظومة من القيم الأخلاقية، وأن الضمير هو (رئيس) هذه المنظومة .. وان هذا الرئيس هو القوة الفاعلة الذي يحدد أهداف الفرد ونوعية تصرفاته مع الآخرين حاكما كان او محكوما، فما الذي حصل لضمير الحاكم والمحكوم في عراق ما بعد (2003)؟

في سبعينيات القرن الماضي،  كان الضمير الأخلاقي العراقي افضل وأنظف بكثير مما هو عليه الآن.وفي ثمانينياته بدأت بكتريا هذا الجذام تنمو فيه.ذلك أن ألد أعداء الضمير هي الحروب، والكارثة انها تجسدت في العراق بأفجع أحداثها عبر ثمان وثلاثين سنة، فنشطت بكتريا الجذام لتحدث تخلخلا في المنظومات القيمية للأفراد وتضعف الضمير عند كثيرين وتهرؤه عند آخرين وتدخله في غيبوبة عند اغلبية.

وما اوصل لهذا الحال من (الجذام الأخلاقي) ننحت له مصطلحا جديدا آخر هو (سيكولجيا التوليد). ونعني بها، أن سلوك أفراد أو جماعات لا يتحول الى ظاهرة اجتماعية الا بعد سلسلة من (الولادات).

كان الحدث قد بدأ سياسيا بنوعية الذين استلموا السلطة.ففي كتابه (سنتي في العراق) وصف بريمر) أعضاء مجلس الحكم بأنهم يفكرون بمصالحهم الشخصية ولا يفكرون بمصالح الوطن.

وكانت (ولادة) مجلس الحكم قد انجبت أخوة أعداء كل واحد منهم طامع بثروة أبيه (الوطن)، فعاشوا حالة(غزوة بدو) أنهم اعتبروا العراق غنيمة لهم وأن عليهم ان يتقاسموه .. فتقاسموه!، وبهذه القسمة تحولت السلطة من وظيفتها الرئيسة المتمثلة بأدارة شؤون الناس الى وسيلة لجمع الثروة.ومن هذه الحاضنة السياسية جاء الوليد الاقتصادي بتحديد راتب وامتيازات لعضو البرلمان لا يتمتع بها اي عضو برلمان في العالم.وبمجيء الدورة البرلمانية الأولى،  وتمتع اعضائها بالرفاهية، فأنها انجبت الوليد الأخطر والأقبح أخلاقيا ودينيا.ذلك ان النائب أدى اليمين بان اقسم أمام البرلمان والشعب بانه سيحافظ على ثروة البلاد،  فتحول الى أكبر سارق بتاريخ برلمانات العالم .. وافتضح أمرهم بوصف الناس لهم بأنه (كلهم حرامية) .. وبتكرارها فأنهم ما عادوا يخجلون من الفضيحة .. ولأنهم خسروا سمعتهم الأخلاقية، فانهم تفننوا وتعفرتوا في الحصول على المزيد من الثروة، كافراد فيما فتحت خزائن احزاب الأسلام السياسي ابوابها لنهب الثروة .. بطريقة يسألونها هل امتلئت تقول هل من مزيد!.

وبسكوت الحكومة الحالية وعدم مصداقية وعود رئيسها بمحاسبة الفاسدين،  وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة .. افتقد الناس انموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره: (اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل .. فأنا لست بأحسن منه، واذا كان حراما .. فلأضرب ضربتي .. ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي .. والله غفور رحيم!) .. فشاع الجذام الأخلاقي بين المتسابقين على الفوز بكرسي البرلمان،  والمتملقين لهم والمصلحيين ،  وبين من أذله الجوع وأوجعه الحرمان، ومن لديه الاستعداد لبيع ضميره بالمجان.

وما حصل ان المجتمع العراقي صار مختبرا لما يصيب ألاخلاق من تدهور في اوقات الازمات .ونضيف هنا لما كنا قدمناه من (نظريات عراقية) في علم النفس والاجتماع السياسي وعلم نفس الشخصية ، (نظرية) جديدة هي أن (الجذام الأخلاقي) يشبه مرض الجذام الجسمي في ان كليهما ينموان ببطء ، غير ان حضانته في حالة الجذام المرضي تستغرق سبع سنوات لتنتشر وسنتين الى ثلاث للسيطرة عليه، فيما يثبت واقع المجتمع العراقي ان الجذام الأخلاقي يستغرق خمس عشرة سنة ليشيع بين الناس،  وانه يحتاج الى أربع سنوات (دورة انتخابية) لأيقاف انتشاره ، فيما يحتاج الى دورتين انتخابيتين (ثمان سنوات) للسيطرة عليه.

وستثبت صحة نظريتنا هذه ان عام (2018) سيكون بداية التحرك الثقافي لايقاف انتشار الجذام الاخلاقي وسيأتي ببرلمان ينخفض فيه عدد الفاسدين الموبوئين بهذا الجذام، فيما سيشهد برلمان (2022) بداية السيطرة عليه بقلّة عدد المتسابقين للفوز به، شرط القضاء على انشط بكتريا في هذا الجذام،  بتخفيض راتب عضو البرلمان والغاء امتيازاته المادية .. وتلك مهمة المثقفين المبشرين بأن العراق سيكون جنة لمحبيه النظيفين من الجذام الاخلاقي.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم