صحيفة المثقف

تفسير آية 31 من سورة المائدة في تفسيري الميزان والتفسير الكاشف

ali jabaralfatlawi2(فبعثَ اللهُ غُرابا يبحث في الأرض ليرِيهُ كيف يواري سوأة أخيه قال ياويلتي أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبحَ من النادمين).

الآية 31 من المائدة، والآيات قبلها ابتداء من الآية 27، تتحدث عن ابني آدم كما جاء في تفسير الميزان، (الآيات تنبئ عن قصة ابني آدم وتبيّن أنّ الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالما فيصبح من الخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعا ... والمراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر في القرآن أنه أبو البشر، وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان فقتل أحدهما الآخر وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل)..)(1) وهي بداية الآية 32 من سورة المائدة.

 السيد الطباطبائي لا يتفق مع المفسرين القائلين أن آدم في الآيات السابقة هو رجل من بني إسرائيل، ويؤكد أن آدم هو أبو البشر الذي جاء ذكره في القرآن، وأن قابيل وهابيل هما إبنا آدم أبو البشر، والقول أنه من بني إسرائيل كلام فاسد لثلاثة أسباب ذكرها في تفسيره، منها أنّ من خصوصيات القصة قوله تعالى (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ...) كلام الآية وهو موضوع بحثنا: (إنما يلائم حال الإنسان الأولي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الإدراك يأخذ باستعداده الجِبلي – الفطري – في ادخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدري أن الميت يمكن أن يستر جسده بموارته في الأرض، وهذه الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبو البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، وقد كانوا أهل حضارة ومدنية ..)(2)

منهج الطباطبائي التفسيري هو تفسير القرآن بالقرآن، مستعينا بظاهر الآيات في تفسيره، وهذا ما فسر به الآية 31، وهو منهج يتبعه بعض المفسرين مستفيدين من الحجة العقلية في توجيه تفسيرهم للآية حسب الظاهر، وكذلك يستفيدون من بعض الروايات التي يعدها المفسر موثقة، عدّ السيد الطباطبائي الآيات 27-32 من سورة المائدة، أنها تخص قابيل وهابيل أبني آدم أبو البشر، ولا تخص رجلين من بني إسرائيل كما يقول بعض المفسرين.

 يتوافق صاحب التفسير الكاشف مع العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسيره أن القاتل قابيل والمقتول هابيل هما ابنا آدم أبو البشر، لكن لا يتوافقان حول الروايات عنهما فصاحب التفسير الكاشف يقول: (لقد حاك القصّاص، وكثير من المفسرين الاساطير من قصة ابني آدم هذين .. ولا مصدر إلّا الاسرائيليات.)(3) يشكك صاحب التفسير الكاشف الشيخ محمد جواد مغنية، بجميع الروايات عن آدم وابنيه ويعدّها من الإسرائيليات، ويذهب في تفسير الآية والآيات التي قبلها إلى ما يستنتج من ظاهر الآيات، مستفيدا من آراء بعض المفسرين والمؤرخين، ورافضا روايات القصّاصين ويعدّها من الإسرائيليات، لكن السيد الطباطبائي يروي بعضا من هذه الروايات في تفسيره عن ابني آدم، وانتقد كلّ رواية مستقلة عن الأخرى قبولا أو رفضا كليّا أو جزئيا.

بعد أن نفّذ قابيل قتل أخيه هابيل عامدا، يقول محمد جواد مغنية مفسرا الآية حسب ظاهرها: (وبعد أن صار أخوه جثة هامدة لم يعرف كيف يواريها، فبعث الله غرابا فحفر برجليه ومنقاره حفرة فلما رآها القاتل زالت حيرته واهتدى إلى دفن أخيه من عمل الغراب .. ولكنّه عضّ يده ندامة بعد أن أدرك فداحة الخطب، كما أنه أدرك أنه دون الغراب معرفة وتصرفا.)(4)

 استوحى العلامة محمد جواد مغنية من ظاهر الآية، أن القاتل قابيل ندم ندامتين الأولى لأنه قتل أخاه هابيل، والثانية إذ لم يُوفَق لطريقة يدفن فيها أخاه إلا بعد مشاهدة الغراب، كيف يبحث ويواري؟ فشعر بالندامة لأنه دون الغراب معرفة إذ لم يهتدِ الى طريقة الغراب في الدفن. أما العلامة الطباطبائي فأنه يؤكد ندامة قابيل على عدم مواراته سوأة أخيه، ورجح ندامته على القتل، يقول: (أن قوله: (فأصبح من النادمين) إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، وربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل وليس ببعيد)(5) نستوحي من تفسير العلامة الطباطيائي، أنه يؤكد ندامة قابيل بعد رؤيته للغراب يبحث ويواري، ويرجّح ندامة قابيل الثانية ولا يؤكدها إذ يقول: (وربما أمكن أن يقال ..ندمه على أصل القتل وليس ببعيد)، واستوحي من كلام الطباطبائي أنه لا يؤكد أن قابيل ندم ندامتين، إنما يؤكد ندامة واحدة.

  العلامة محمد جواد مغنية يتوافق مع السيد محمد حسين الطباطبائي بأن القاتل قابيل والمقتول هابيل، وهما ابنا آدم صلبا، كذلك يتوافقان أن دافع القتل هو القربان الذي تقبله الله تعالى من هابيل، ولم يُتقبله من قابيل، فحسد قابيل هابيل مما دفعه لقتل أخيه، فالدافع نفسي عند السيد الطباطبائي هو دافع القتل، لكن لماذا تقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل؟ يقول البعض من المفسرين لأن قربان قابيل يختلف عن قربان هابيل، وفي تقديري هذا التفسير غير صحيح لأن الله يفعل ما يريد وفق نوايا الفاعل، فهو العالم العادل الحكيم المقدّر اللطيف في التعامل مع العباد، وأذا رجعنا إلى الأية 27 من السورة التي ترتبط مع الآيات بعدها في السياق من آية (27-32) فإنها تعطي سبب عدم تقبل القربان من قابيل، إذ ذكرت أنه لم يكن من المتقين (فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنما يتقبل الله من المتقين) جواب هابيل لأخيه قابيل الذي هدّده بالقتل، بسبب عدم تقبل القربان، إذ قال له: (إنما يُتقبّل من المتقين)، فعدم تقبل قربان هابيل لأنه لم يكن من المتقين، وليس بسبب نوع القربان الذي قدّمه مثل ما يذكر بعض المفسرين. ويوجد من المفسرين من يرفض الروايات عن ابني آدم جملة، مثل محمد جواد مغنية ويعدها من الاسرائيليات، ويلتزم بظاهر النص مستعينا بآراء بعض المفسرين والمؤرخين.

إذن تقبل الله تعالى قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، وهذا ما صرّحت به الآية 27، وبسبب هذه الحالة اندفع قابيل لقتل أخيه هابيل، أما لماذا تقبل الله سبحانه من هابيل ولم يتقبل من أخيه قابيل؟ الجواب في سياق الآيات السابقة للآية 31 أنه لم يكن من المتقين، أما الحديث أن نوع القربان له علاقة بعدم تقبله، فهو غير صحيح واتفق مع الشيخ محمد جواد مغنية أنه قد يكون من الإسرائيليات، فهو قد رفض جميع القصص عن ابني آدم وعدّها من الإسرائيليات لا يمكن تصديقها.

أثار الشيخ محمد جواد مغنية مسألة خلافية عند علماء الاخلاق منذ القديم، لها علاقة بقضية القتل في الآية، وهي هل الانسان شرير أم خيّر بالطبع ام لا؟ وأجاب: (أنّ في كل انسان استعدادا للخير والشر بفطرته، حتى خير الأخيار، وشرّ الاشرار والفرق أنّ في بعض الافراد مناعة من عقل رصين، أو دين متين يكبح نزواتهم إلى الشّر، ويندفع البعض الآخر مع شهواته لضعف في دينه، أو عقله.)(6)

فسّر العلامة الطباطبائي الآية 31 في تفسيره الميزان، وننقل تفسيره بتصرف مع المحافظة على المعنى: البحث لغة طلب الشيء في التراب، والمواراة الستر، ومنه التواري للتستر، والسوأة ما يتكرهه الانسان، والويل الهلاك، وياويلتا كلمة تقال عند الهلكة والعجز مقابل الاستطاعة. ويستدل الطباطبائي من سياق الآية أن القاتل وهو قابيل بقي متحيرا من أمره لا يعرف كيف يتصرف مع الجثة؟ حتى بعث الله الغراب، ومن ظاهر الآية يستدل العلامة الطباطبائي أن بعث الغراب وبحثه لم يكن متقاربا في الوقت مع عملية القتل ويستدل على ذلك من قوله تعالى: (قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) ويستفيد الطباطبائي من سياق الآية أن الغراب كان قد دفن شيئا في الارض بعد البحث فيكون هدف الغراب حينئذ إراءة كيفية المواراة لا كيفية البحث.(7) هذا ما استنتجه العلامة الطباطبائي من سياق الآية.

 واتفق مع العلامة الطباطبائي في استنتاجه، لأنّ الغراب كان هادفا في فعله ومسخّر ربّانيا لتوصيل رسالة هي تعليم قابيل كيفية الدفن، وهنا تحضر عملية التسخير الإلهي للغراب الذي لا يعي شيئا، إنما يقوم بفعله غرائزيا أو فطريا، وكذا جميع المخلوقات الفاقدة للعقل، بتوجيه ربّاني نجهل ماهيته ونحن نعرف أن الله يبعث الانبياء والرسل، لكن كيف يبعث الله الغراب أو غيره من المخلوقات غير الإنسية؟ فالعلم عند الله ولم أجد من العلماء من  بحث بعث الطيور والمخلوقات غير الأنسية.

ذكر السيد الطباطبائي في تفسيره عدة روايات تحدثت عن قتل قابيل أخاه هابيل وعندما ذكرها في التفسير لا يعني أنه قَبِل بها، فهو أيضا يشكك في بعض الروايات، لكنه حسّن الرواية التي ذكرت في تفسير العياشي مروية عن الإمام الصادق (ع)، إذ وصفها الطباطبائي: انها من أحسن الروايات الواردة في القصة والرواية هي: (لما قرّب ابنا آدم القربان فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال: (تقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل دخله من ذلك حسد شديد، وبغى على هابيل ولم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحيا من آدم فوثب عليه وقتله..)(8) لكنه ذكر رواية أخرى عن تفسير القمي، مروية عن علي بن الحسين(ع)، من أحداثها أن قابيل لا يدري كيف يقتل اخاه هابيل؟ بعد أن صمم على قتله، حتى جاءه ابليس فعلمه كيف يقتله؟ فلما قتله لا يدري ما يصنع به، فجاء غرابان اقتتلا فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر الغراب القاتل حفرة بمخالبه ودفن صاحبه، فتعلم منه قابيل، فصارت سنّة دفت الموتي. يقول الطباطبائي: (الرواية لا تخلو من تشويش.. وهذه روايات جلّها أو كلّها ضعيفة، وهي لا توافق الاعتبار الصحيح ولا الكتاب يوافقها فهي بين موضوعة بيّنة الوضع، وبين محرّفة أو مما غلط فيه الرواة من جهة النقل بالمعنى)(9)

يصف السيد محمد حسين الطباطبائي الآية 31 من المائدة بقوله: (آية واحدة في القرآن لا نظير لها من نوعها، وهي تمثل حال الانسان في الانتفاع بالحس، وأنه يحصّل خواص الأشياء من ناحية الحس، ثم يتوسل بالتفكر فيها إلى اغراضه ومقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلمي، إن علوم الانسان ومعارفه تنتهي إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر والعلم الفطري.)(10)

يقول السيد الطباطبائي: (وبالجملة فالله سبحانه هو الذي علّم الانسان خواص الأشياء التي تناله حواسه نوعا من النيل، علّمه إياها من طريق الحواس، ثمّ سخّر له ما في الأرض جميعا، قال تعالى: (وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا)الجاثية:13)(11)

واستوحي من مجموع ما اطلعت على تفسير الآية، أن الآية 31 من المائدة، تؤشر إلى أن أول عملية دفن للإنسان هي دفن هابيل المقتول من قبل القاتل قابيل، لهذا بقي قابيل حائرا ماذا يفعل بجثة أخيه، حتى قيّض الله تعالى الغراب ليتعلم منه قابيل سنّة الدفن، التي جرت في الخلق أجمعين من بعده، وهذه هي الحكمة والرحمة الربّانية للانسان وسننه في خلقه، التي تشمل المطيع والعاصي كي يتعلما من سننه تعالى التي تجري بمعيار العدالة الإلهية على جميع المخلوقات.

 وعن سنّة الدفن وندامة قابيل نستعرض بالمختصر أقوال بعض المفسرين، يقول الطبري في تفسيره: فاحبّ الله تعريفه – اي لقابيل – السنّة في موتى خلقه فقيّض له الغرابين، وأستوحي من الموقف أن الله تعالى لايترك عبده، بل رحمته تسع الجميع المطيع والعاصي، ويقول القرطبي في تفسيره: وظاهر الآية ان هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جُهِلت سنّة المواراة.. فصار فعل الغراب في المواراة سنّة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثمّ الجيرة، ثمّ سائر المسلمين.

وجدت التفاتة جميلة عند الشيخ محمد متولي الشعراوي بخصوص قوله تعالى: (ياويلتي أعجزت أن اكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فاصبح من النادمين) يقول الشعراوي في تفسير خواطر:  علينا أن نفرق بين (نَدِم) و (نَدَم) وضرب مثلا: هناك شخص يشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعاما لأسرته، وعندما عاد لبيته وجد أسرته في انتظار الطعام، ندم لأنه شرب الخمر، فهل ندم لأنه عصى الله بشربه الخمر؟ أم ندم لأنه صرف النقود في شرب الخمر فلم يستطع شراء الطعام، كذلك كان ندم قابيل، فهو لم يندم لأنه قتل أخاه وعصى ربّه بهذه الجريمة، بل ندم على خيبته لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب. وفي هذا المحور اختلف الشيخ محمد متولي الشعراوي مع المفسرين القائلين أن قابيل ندم ندامتين، ندم على قتله هابيل، وندم لأن الغراب أفطن منه بعد أن استوحى من الغراب عملية مواراة الميت.

 أخيرا أرى أن كل الآراء محترمة، وفهم القرآن متجدد مع الزمن لذا تتجدد الأفهام وتتنوع بمرور الوقت، وبما يُكتشف من علوم ولا نعني آيات العبادات، بل الآيات التي تتحدث عن آيات الله في الكون والانسان، لكن هناك من العقول من ترفض التعامل مع العلم وتطوره، إذ يوجد من أدعياء الدين ذوي العقول المتحجرة من يرفض التطور العلمي الذي يكشف سنن الله تعالى للانسان، بمقدار ما يستوعب من علوم جديدة وآليات كشف متنوعة، علما أنه لا تزال توجد بعض الشخصيات التي تدعي الدين ويسمون أنفسهم علماء، يكفّرون من يقول بكروية الأرض مثلا، إذ يدعون أنها مسطحة، أو غير ذلك من الحقائق العلمية الثابتة. جعلنا الله وإياكم من السائرين على نهج القرآن، بالعقل المفتوح الذي يستوعب حقائق الله وسننه في الكون كي تزيد إيماننا به سبحانه الخالق العظيم، وتقرّبنا أكثر إلى سبيل الله القويم.

 

علي جابر الفتلاوي

................

(1): الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص225، السيد محمد حسين الطباطبائي.

(2): م.ن، ج5، ص225- 226.

(3): التفسير الكاشف، م3، ص45، محمد جواد مغنية.

(4): م.ن، ص46.

(5): الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص232، السيد محمد حسين الطباطبائي.

(6): التفسير الكاشف،م3، ص46، محمد جواد مغنية.

 (7): الميزان في تفسير القرآن،ج5،ص232،231،السيد محمد حسين الطباطبائي.

(8): م.ن،ص241.

(9): م.ن، ص242.

(10): م.ن،ص231و232.

(11): م.ن، ص234.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم