صحيفة المثقف

التعليل الحضاري للتاريخ عند أرلوند توينبي

khadat jleed2إن الفيلسوف لا ينطلق من فراغ في تحليله للواقع ولموضوعاته المعرفية، ولكنه ينطلق من الإشكاليات التاريخية والحضارية التي يتمثلها بوعيه النقدي، كما ينطلق أيضا من أزمات عصره التي تؤطر رؤيته إلى الوجود والعالم والتاريخ.

ولعل هذا ما ينطبق على الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي أرلوند توينبي (1898-1975) الذي يعتبر من أهم المؤرخين في العصر الحديث والمعاصر نظرا لتميزه عن أقرانه بالمنهجية العلمية وتحليه بالروح الموضوعية في تناوله لإشكالياته الفكرية وإحاطته وإلمامه بموضوعاته. فقد توفرت لديه من المادة المعرفية ما لم تتوفر لغيره من المؤرخين السابقين عليه وحتى الذين أتوا من بعده حيث جمع في مؤلفاته بين التاريخ كمادة علمية والتاريخ كمادة حضارية والتاريخ كمادة فلسفية إنه في الوقت ذاته: مؤرخ الأحداث ومؤرخ الحضارات وفيلسوف التاريخ.

ولعل ما يتميز به توينبي عن اشبنغلر هو نزعته المتفائلة التي بقي محتفظا بها في رؤيته للمستقبل رغم قتامة الواقع الذي عاش فيه من خلال معاصرته لحربين مدمرتين متلاحقتين، هذه الحرب التي رغم فظاعتها وبربريتها لم توقعه ضحية اليأس والتشاؤم، إن أزمة العصر الذي عاش فيه توينبي بالإضافة إلى روحه الموسوعية وإتقانه للغة اليونانية واللاتينية هي التي جعلته يكب على دراسة إحدى وعشرين حضارة بإتقان وتمعن يستخلص بعدها مصير الحضارة الغربية بصفة خاصة ومصير الإنسان بصفة عامة.

ومن هذا المنطلق، فما موضوع الدراسة التاريخية عند توينبي؟ وما هو المنهج الذي يقترحه في دراسة التاريخ؟

وقبل الإجابة على هذه الأسئلة التي يجيب عليها توينبي بمشروع نظري وتاريخي ضخم، لابد أن نوضح أن توينبي ينتقد منذ البداية المؤرخين الغربيين في تحقيبهم للتاريخ إلى قديم ووسيط وحديث انطلاقا من المركزية الغربية وسيادة الحضارة الغربية، فالمؤرخون الغربيون ينطلقون من مسلمة وحدة التاريخ الإنساني ليثبتوا بعد ذلك أن المجتمعات السابقة غير الأوربية هي مجرد بدايات وتمهيد للوصول إلى التاريخ الغربي الذي هو سقف التاريخ ونهايته في نفس الوقت حسب نظرهم .

لقد تخلص توينبي من هذه العوائق ومن هذه الأوهام التي شكلتها الحضارة الغربية عن نفسها وعن غيرها، وهذا من خلال تبنيه للمنهج المقارن الذي كشف من خلاله عيوب الحضارة الغربية وعطاء وثراء الحضارات والشعوب غير الغربية .

إن توينبي في بداية تأسيس مشروعه وانطلاقا من هذه الرؤية العلمية يلتزم بالمنهج النقدي المقارن "فيخطّئ أولا مبدأ التوحيد الحضاري الذي ينفي تعدد الحضارات ويقول بوجود حضارة واحدة هي الحضارة الغربية هذا المبدأ في رأيه هو نتيجة وهمية لشعور بعض المؤرخين بعظم ما أدركته الحضارة الغربية من السيادة العالمية في الحقلين الإقتصادي والسياسي مما حملهم على ذلك التعميم الخاطئ.

إن الحضارة الغربية حسب توينبي ليست إلا واحدة من الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ، لذلك لا يجب أن نضعها فوق الحضارات أو أن تعامل معاملة استثنائية وهكذا وبعد أن أوضحنا موقف توينبي النقدي من مبدأ التوحيد الحضاري الذي يعتمده الغرب في رؤيته للشعوب والحضارات الأخرى، جدير بنا أن نعود إلى السؤال الذي طرحناه منذ البداية: ما هو موضوع الدراسة التاريخية عند توينبي؟

يرى توينبي "أن المجتمعات الأعظم اتساعا في الزمان والمكان من الدول القومية أو دول المدن المستقلة أو أية جماعات سياسية أخرى هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخية المجتمعات لا الدول هي الوحدات الإجتماعية التي يجب أن يعنى بها دارسو التاريخ".

وذلك أن المجتمعات في نظر توينبي قد تستوعب دولا وأمما أخرى مثل المجتمع الإسلامي الذي استوعب في نطاق حضارته الشعوب الفارسية والتركية .

إن توينبي هنا يوسع من دائرة الرؤية التاريخية فيجعل من المجتمعات الكبيرة التي أنتجت حضارات كبيرة هي موضوع التاريخ ودائرة اهتمامه وهذا ما جعل توينبي يقوم بدراسة هذه الحضارات المعنية (إحدى وعشرين حضارة) ومن خلال مشروعه الضخم (دراسة التاريخ).

إن الدراسة النقدية العميقة التي اعتمدها توينبي في مشروعه الفكري وتحليله لهذه الحضارات، إذ كل هذه العوامل جعلته يكتشف قواسم مشتركة فيما بين هذه الحضارات فيما يخص عوامل قيامها وسقوطها فوجد أنها تمر بأربعة مراحل = (النشوء، النمو، السقوط، الانحلال) ولكن كيف تتشكل الحضارات في نظر توينبي وما هو القانون أو المبدأ الذي يحكم ظهورها في التاريخ؟ وبصورة أدق ما هي نظرية توينبي في الحضارة ؟

يرى توينبي أن التحدي هو الذي يخرج الحضارة من العدم إلى الوجود ويعني هذا المبدأ "أن البيئة تتحدى الإنسان باستمرار والمقصود بالبيئة البعد الطبيعي والجغرافي، التحدي يفترض أو يستلزم الإستجابة، لكن الإجابة نفسها تفترض وجود مستوى عقلي عند الإنسان لتقديم أجوبة راقية يتخطى بها أو يرد بها على تحدي البيئة.

لقد وجد توينبي أن تحدي الظروف الطبيعية للإنسان عبر التاريخ هو الذي ولد ردود الفعل التي استطاع بواسطتها أن يواجه هذه التحديات، وهكذا ظهرت الحضارات في التاريخ فالحضارة الفرعونية هي حضارة النيل وحضارة العراق القديم هي حضارة ما بين النهرين والحضارة العربية الإسلامية هي حضارة الصحراء وهكذا دواليك فالبيئة الجغرافية تلعب دورا كبيرا في تفجير الإمكانيات الذاتية للإنسان، ولكن حتى تكون هناك استجابة ناجحة على هذه التحديات لابد أن يكون الإنسان في مستوى مواجهتها من حيث النمو الفكري والعقلي والإرادة، أما التحديات السهلة فلا يمكن أن تساعد على التحضر "فالظروف الصعبة لا السهلة هي التي تستحث الإنسان على التحضر بل إن رقة العيش حائل دون قيام الحضارة إذ الشدائد وحدها التي تستثير الهمم.

إن الإستجابة في نظر توينبي لابد أن تكون في مستوى التحدي حتى يظهر هناك فعل حضاري والإستجابة في حد ذاتها تتطلب استعدادا وقدرات خاصة من طرف الذين يردون على هذا التحدي وهذا له علاقة بالإنسان الذي يتطلب منه إرادة استثنائية لقهر هذه الظروف الصعبة "فالتحدي لا يعني شيئا ولا يعطي شيئا ولا يثمر شيئا بالنسبة إلى العقول الكسولة والإرادات الضعيفة والنفوس الذليلة ولكنه يعطي الكثير بالنسبة إلى العلماء والرجال العظماء والقادة في التاريخ ورجال الإختراع والإكتشاف.

إن الظروف الصعبة في نظر توينبي إذا لم تجد من يقدم بشأنها الحلول والمواقف الحازمة فإنها سوف تقضي على المجتمع تدريجيا حتى يتحلل في نهاية الأمر، ولكن من يقوم بتحدي الظروف الصعبة ومن يقوم بالرد على هذه التحديات في نظره؟

يرى توينبي" أن من يرد على التحدي هم مجموعة قليلة من الناس إنها الخاصة لا العامة العباقرة والرجال العظام والمخترعون والمكتشفون والمبدعون هم الذين يردون عمليا على جميع أنواع تحديات البيئة والطبيعة، إنهم يخترعون الآلات ويصنعون التقنيات ويقودون الشعوب ويوجدون الأنظمة الجديدة".

ويبدو هنا توينبي متأثرا بهيجل فيما يخص دور الأبطال في التاريخ ولا عجب في ذلك فقد أثرت فلسفة هيجل على كل الفلسفات التي جاءت بعدها، إن الأبطال إذن أو الخاصة هم أدوات التاريخ الذين يدفعون حركته دائما إلى الأمام "إن بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) لم يمنع كريستوف كولمبس من اكتشاف قارة أميركا والصحاري والجبال والمسافات لم تمنع الإسكندر الكبير من نشر الثقافة اليونانية في شمال أفريقيا وعلى شواطئ المتوسط والشرق الأدنى وبلاد ما بين النهرين وحتى الهند.

أما العجز عن التحدي في نظر توينبي (غياب الخاصة والأبطال) الذين يقومون بالرد على التحدي فإن غيابهم سوف يؤدي في نظره إلى بداية تدهور وانحلال الحضارة، إن توينبي يفرق بوضوح "بين عمليات النمو وعمليات التفكك، فالنمو يكون مميزا بتحد يقود إلى رد موقف وهكذا دواليك بانتظار الإنهيار أما التفكك فيكون متميزا بتحد يستجر ردا غير ناجح فيستثير محاولة أخرى تؤدي إلى إخفاق جديد وهكذا دواليك بانتظار الإنهيار"(85).

وهكذا فإن العجز عن الدور الحضاري لحضارة أخرى والإذعان لسيطرة الظروف الصعبة من طرف الإنسان الذي بات عاجزا على مواجهتها، غير أن موت الحضارة وانحلالها في نظر توينبي له جانب إيجابي بالإضافة إلى هذا الجانب السلبي (انحلال الحضارة) لأن موت الحضارة هو إعلان بداية فجر جديد لحضارة جديدة تدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام وهذا هو نفسه رأي هيجل الذي يرى أن التاريخ مسرح للحضارات المتعاقبة ورأي ابن خلدون الذي يقول بالتداول التاريخي للدول .

وبعد أن يستعرض توينبي نظريته في الحضارة فإنه يدعو في أواخر بحثه إلى العودة إلى الأديان لإنقاذ الحضارة من القلق ومن النزعة المادية زيادة على ذلك فإن الدين يستطيع أن يحل الكثير من المشاكل التي لا يحلها العلم أو التقنية ولا عجب في ذلك فإن توينبي "يرد الحضارات إلى الأديان وذلك أن الإمبراطوريات ليست هي مقياس الحضارة على العكس إنها تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة، إذ تلجأ الأقلية المسيطرة إلى التوسع حين تفقد مقولات الإبداع وهي لا تحمل إلا سلاما مؤقتا ولا تقدم حلولا جذرية لمشكلات مجتمعاتها.

وفي نهاية الأمر ورغم ضخامة مشروع توينبي في دراسته للتاريخ إلا أنه ظل متمسكا بالروح العلمية خاصة مبدأ النسبية فهو يعترف أن نظرته إلى التاريخ هي جزء يسير ولا يمكن أن تقدم الحقيقة الكاملة والمطلقة، وفي ذلك تواضع قلما نجده عند غيره من المفكرين الغربيين يقول توينبي "إنما نظرتي إلى التاريخ ليست هي نفسها سوى جزء يسير منه وذلك لأن العمل الذي يؤديه الباحث في حياته إنما يقوم على إضافة ولو من الماء إلى نهر المعرفة العظيم المتزايد، ذلك النهر الذي يرفده مالا عدله من الأدلاء المماثلة .

إن هذه الروح العلمية والنقدية عند توينبي والمتجردة من النزعة الغربية المتعالية وإنصافه للحضارات الأخرى جعلته من أكبر المؤرخين والمفكرين الذين حضيوا بالتقدير والإحترام في العصر الحديث والمعاصر.

 

الدكتور قادة جليد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم