صحيفة المثقف

رقي الخاطر في (نوبات شعرية..)

salam khadomfarajانطباعات عن المجموعة الشعرية للباحث المفكر صالح الطائي..

يقول الناقد ابن طباطبا (من صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه ..) كان هذا انطباعي الأول وانا اطالع مستمتعا قصائد مجموعة شعرية استثنائية لباحث ومفكر إسلامي وانساني هو الصديق الدكتور صالح الطائي ... لقد عرفته منكبا على البحث والتمحيص في خزائن كتب التراث العربي يغربلها ويختار الجميل منها ويفند الرديء ويكشف بالأدلة العقلية والنقلية بطلان تلك الرواية او عدم دقتها او صحتها.. وقد سعدت حقا باكتشافي ان الباحث الصديق قد لجأ الى خميلة الشعر ملاذا وانحاز للجمال انحيازا هاربا من ثقل روايات التأريخ وعبء دفاتر الفلسفة واسئلتها وصراع الأفكار والرؤى.. فالشعر ومذ كان واحة الأرواح النقية الجميلة.. وجدت في قصائد الطائي انه يمخض المعنى ويحرص عليه حرصه على المبنى .. لكن المعنى عنده يسبق دائما المبنى فهو مشغول بإيصال رؤيته ونضح وجدانه لمن يحب وقد قال ذلك في إهداءه الجميل إلى التي هذبت هذيانه فجعلته شاعرا (زوجه) والى الذين أغروه بالتشبث بحب الحياة (أولاده..) والى الذي هذب جنونه وجعله ثائرا (العراق )..

ان قصيدة مثل (من حقي ان احلم بوطن ).. تؤشر لعمق اللوعة على وطن جميل يوشك ان تناهبه المؤامرات والفتن الطائفية .. فهو يحلم (بوطن كجميع الأوطان../ يحترم الانسان/ وتتعايش فيه جميع الأديان/ ويتقاسم فرحته اهلونا/ وجميع الجيران/ لا يأكل لحم الانسان / الانسان).. وفي قصيدته (لست بعيدا..) يبني صورة مقاربة لهول الشعور بالغربة (ليس أصعب / ولا أقسى من ان تشعر بالغربة وأنت في الوطن/ لست بعيدا/ فعلى بعد شهقة مني/ يقع الوطن مضرجا بفساد الحكام..). انطباعي هنا ان الطائي يصر على وحدة البناء والمعنى فلا يخوض في تجارب الغموض الحداثي فوحدة الموضوع من اهم مميزات شعره.. والوضوح الصارم من ابرز أدواته فلا غلو ولا تفريط بموسيقى الكلمات..

وفي مرارة الإحباط من بعض نتائج التجربة الديمقراطية يقدم لنا نصا غاية في الشجن واللوعة (إصبع بنفسجي)..

(في السبابة لون بنفسجة / أقصص رؤياك ولن تندم/ فمنا مملوء بالدم / لا تهتم !!/ لعمر ولى/ حلوه مرٌ علقم !!!)

ان الاستعارة الجميلة المتقاطعة مع وصية يعقوب عليه السلام (يابني لا تقصص رؤياك) تستمزج الحلم الجميل بإمكانية رقي شعبنا مالكا لأمر نفسه واصلا الى الذرى التي وصل اليها يوسف النبي.. ولكن ولفداحة الخسران يستبطن الشاعر سخرية مريرة واستهانة بما جرى ويجري فيقول إقصص رؤياك. فماعاد الامر يهمني.. وتلك سخرية مرة مما تؤول اليه النتائج..

ومن القصائد الجميلة التي تزخر بالفتنة والشجن والتي أعدت تلاوتها اكثر من مرة (إلى العزيز الراحل..) بدأها بتقديم جميل يقول فيه (بالرغم من كوني قد بلغت السادسة والستين. وبالرغم من إنه قد مات وأنا جد وعندي أحفاد.. لكني ما زلت أشعر بوطأة اليتم وأفتقده ..). هو يتحدث عن أبيه الراحل ...

[(ذكرتني بك نجمة شديدة التوهج بارزة من بين كل النجوم / ذات مساء جعلني البرد ارتجف بشدة / إحتجت إلى حضنك/ لأشعر بالدفء/).. ]هذا الإسراف في التداعي الحر للكلمات قد لايرضي الناقد المعاصر لقصيدة النثر التي تؤثر التكثيف على الاسهاب.. ويقترح على الشاعر ان يكتفي بالقول (ذكرتني بك نجمة !).. والاستغناء عن شبه الجملة (ذات مساء ..).. لكن مع الطائي كان الاسهاب في حديثه مع الراحل العزيز يعادل دعاء ً ومناجاة يحتاجها الشاعر والمتلقي الموجوع بمثل هكذا فقد بعيدا عن النظرية النقدية المعاصرة.. إن معادلة القرين والدلالة تجعل من المعادل الموضوعي لمفردة الفقيد الراحل (النجمة ..) تمتلك خاصية البعد المفرط في بعده فالفقيد بالنسبة للشاعر بعيد كبعد تلك النجمة التي ذكّرته .. وهو متوهج في حضوره في الوجدان كتوهج النجمة.. وهو بارز من بين كل من يعرفهم في هذه الدنيا.. ومن اجل ذلك يكون الإسراف في تداعي الكلمات والوصول بها الى تخوم المعرفة بمكانة الفقيد في قلب الشاعر يكون مبررا.. بل محببا ومطلوبا..

وبعد / ان المجموعة تضم اكثر من خمسين قصيدة .. تتوزع على أغراض متعددة منها الوجداني والسياسي والاجتماعي والفكري . وتتوزع على أنماط شعرية مختلفة ينتمي اكثرها لما يمكن ان نسميه بقصائد الشعر الحر وقصائد النثر.. وكلها ترفل بروح الشعر ومخاض الفكر النير والوطنية الحقة.. فتحية للمفكر الطائي الذي زاره ملاك الشعر فلم يبخل علينا بما انتجته تلك الزيارة..

 

سلام كاظم فرج..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم