صحيفة المثقف

المثقف بين ولائين

يعاني المثقف في ظل الدكتاتورية تجاذبا بين ولائين، ولاؤه للوطن وولاؤه للسلطة، واذ ان المثقف العضوي حسب غرامشي صاحب مشروع يعكس ارتباطه بابناء امته ويعمل على التغيير لصالحهم مما يوجب ان يكون ولاؤه لمواطنيه، فان الخيار يصير قاسيا حينما يكون الدكتاتور شموليا، يختزل الوطن والمواطنين بشخصه . واذ يطول الامد، فان المثقف يُصاب بمركب الولاء للسلطة، وهو ما يجعل الوطن فاقدا لنخبته المستنيرة في حالة زوال الدكتاتور، فالمثقف، آنئذ، يبدو كمن فقد الارضية التي يتكيء عليها، وفي حال تشظي سلطة الدكتاتور الى عدد كبير من السلطات الفردية (افرادا، احزابا، كيانات، مجاميع مختلفة سواء قبائل او عشائر) فان المثقف السلطوي سيجد نفسه مدفوعا للبحث عن هذه الشظايا يمنحها الولاء، ولعل هذا في اساس ذلك التشظي بالولاءات بعدد السلطات المتشظية التي لا يرى المثقف مندوحة من الارتماء في احضانها، بل ولعله يرتمي باحضان سلطة كان يوما من اشد مناوئيها تبعا لمناوئة الدكتاتور لها.

ان عالمنا العربي الذي ابتلي بالدكتاتوريات الشمولية المعمرة يبدو سييء حظ من ناحية مستقبله، فاذا كان ثمة امل، في اطار الدكتاتوريات التي يمكن تسميتها معتدلة تجاوزا، وهي تلك التي تسمح بهامش للوطن يتحرك فيه المثقف مما يمكن ان يجعل العودة للوطن والانتماء له اقل صعوبة، فان تلك التي تماهي بين الدكتاتور والوطن ترتكب جريمة في حقه لما بعد رحيلها .

ولعل اشد ما عاناه ويعانيه بلدان عالمنا العربي تلك الهيمنة الاعلامية التي لا تجد الا الدكتاتور وانجازاته موضوعا للترنم والترديد مما يخلق من الشعب اوركسترا تختزل العالم به ، فالعقل الجمعي لا يجد في وسيلة الاعلام الا تمجيدا لسلطة وبعدا عن هموم الشعب، يسانده رعب يرسخ في ذاته تغييرا في الاولويات لاترى في معاناته الا تضحية يجب تقديمها فداءا للدكتاتور، وهكذا تتعاضد النخبة بمختلف اطيافها، اديبا، شاعرا، روائيا، ناقدا، كاتبا، مع الاعلام في الدفع بالوطن الى الهامش، ولا يجد هذا الهامش نفسه بعد ان تلبسه الدكتاتور وزمرته الا محلا للازدراء والنقمة من سواد الشعب التي انطلت عليه (لجهله وعدم وعيه) تلك المماهاة.

والذي لاشك فيه ان الدكتاتورية قادرة على ان تصنع مثقفيها من خلال الدفع الى الواجهة بثلة من المصفقين والمطبلين، يقابله تهميش ومحاصرة بل وملاحقة من لم يكن على تلك الشاكلة مما يعزز في العقل الجمعي صورة الثقافة بصفتها امتهان الولاء السلطوي وهو ما يساهم بتغييب الوطن، مما يجعل الاعلام والمثقف يحملون المسؤولية كاملة عن اي شروخ تصيب الوطن بعد الدكتاتورية، وعليه فان هناك حاجة ماسة لاعادة تاهيل هذا المثقف للمساعدة على تغيير مركب الولاء في نفسه، والا فلن يحصل الوطن منه الا الدفع باتجاه ما يسميه الزمن الجميل، وهو ليس جميلا الا لذاته المشربة بولائها السلطوي والتي شعرت بالاهتزاز بعد زوال موضوع الولاء، وبقي الحنين اليه.

ان دور المثقف السلطوي يبدو كارثيا بما زرع حين تتناسل صورة الولاء في الاجيال التي حرف انتمائها مما يخلق قطعانا من المصفقين والمطبلين لاشخاص بديلا عن الوطن، بل ربما يُصار الى التضحية بالوطن لصالح اولئك الاشخاص .

ان مثل هذه الظاهرة تبدو جلية في بلداننا العربية التي زال منها دكتاتورييها فباتت الجماهير تبحث عن دكتاتور تختزل الوطن فيه .

 

د. محمد حسين النجم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم