صحيفة المثقف

خاب ظني .. وصدق فالح عبد الجبار

jamal alatabiكنا ننتظر عودة الأصدقاء والأحبّة الذين غادرونا ما يقرب ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن، هرباً من سلطة الدكتاتورية والإستبداد، والنجاة من الموت والحروب، نترقب مقدمهم الى الوطن بعد نيسان 2003، وإن لم تنقطع صلاتنا بالعديد منهم، عبر متابعاتنا لنشاطهم الثقافي أو السياسي، وما يصلنا من كتابات البعض بـ (القطّارة) .

في الساعات الأولى من ضحى يوم حزيراني، بدأت فيه الأرض تسخن مبكراً، أسرعتُ الخطى بلهفة شديدة، كي ألتقي الصديقين فالح عبد الجبار وفاطمة المحسن، العائدين تواً من غربتهما، إلتقيت فالح في صالة إستقبال الفندق، حاولت ان أختبر ذاكرته منذ لحظات اللقاء الأولى، بعد أن تغيرت (خلقِنا) وأخذ الشيب منا مأخذاً، وتهدلت بطوننا، وحفر الزمن تجاعيد عميقة في وجوهنا، لم يستغرق الإختبار بضع لحظات، فتعانقنا بصمت وقوة .

في زاوية بعيدة من الصالة، تحدث لي فالح عن مشروعه الفكري الثقافي، وقدّم عرضاً مكثفاً لآليات تنفيذه في عراق مابعد الدكتاتورية، لم يكن المشروع حلماً في مخيلته، إنما كان حقيقة في عميق فكره النير، وعقله المنظم، بدأ خطواته الأولى بزيارات عدد من الكليات والمعاهد، وإلتقى بأساتذتها وطلبتها، وتعرّف على بعض منظمات المجتمع المدني التي تشكلت تواً، تنقصها الخبرة والتجربة، والتقى بوقت قياسي، العديد من المثقفين والأدباء والإعلاميين، ونظّم ورش عمل لمستويات مجتمعية عديدة .

لم نلتق خلال فترة إنشغال فالح بالإعداد والتحضير إلا ما أمكن من لقاءات سريعة كانت تتم بالصدفة على الأغلب، لكنني أتواصل معه عبر ما تنشره الصحافة من متابعات لسعيه الإستثنائي، وحماسه غير المنقطع لتوفير مستلزمات العمل وفرص نجاحه، لم تمض بضعة أسابيع على هذا الحراك، حتى التقينا ثانية، وفي اللحظة الأولى من اللقاء إستطعت ان ألمح بوضوح إختفاء ذلك البريق في عيني فالح، وذبول التوهج في وجهه، الحقيبة التي يعلقها على كتفه تحولت الى ثقل ينوء بحمله، وهو يسحب ساقيه ببطىء ليرتمي على كرسي قريب مستريحاً من عناء شديد – ما الامر يا فالح؟ هل من علة تشكو منها؟ سألته بإلحاح .

- نعم أجاب، العلّة ليست في جسدي، أنا لا أشكو من شيء في صحتي، إنما العلّة في العراق .

ماذا تقول ياصديقي ؟

- أقول لك انني قررت العودة الى حيث المكان الذي جئت منه . لقد أيقنت ان مشروعي لم يحن زمانه بعد !!

- يمعوّد كول غيرها

- مثل ما أكلك

- هكذا وبسرعة يا أبا خالد؟ ما زلت في بداية الطريق .بعدنا على أولها .

- كنا نحلم، وننتظرهذا الزمن، هل أفهم من كلامك اننا سندخل في نفق مظلم جديد؟ أجبني بوضوح أرجوك، ألا تكفي سنوات العذاب والموت تلك؟ هل هو قدرنا التعيس أن نحيا الرعب دائماً؟

- جمال، أقول لك بثقة مطلقة، ان ثمة إشكالية وطنية كبيرة يمر بها البلد، تتمثل بالقوى السياسية، بقايا الدكتاتورية، إنهيار القيم، خراب المجتمع والنفوس، ستضع الجميع أمام إمتحان وجودي هائل، إن الديمقراطية المقبلة في إشتراطاتها المعروفة، يصعب عليها ان تنتظم في ظروف العراق الحالية، لا أبالغ في إحساسي بالخيبة والإحباط، فأقول: وحتى الزمن المقبل، فإن المجتمع العراقي غير مؤهل لقبول معايير العقلانية والإعتدال، كذلك القوى السياسية غير مؤهلة لممارسة الفعل الديمقراطي الإجتماعي .لأسباب عديدة معلومة، أولها، النظام القائم على المحاصصة، وغياب الدولة وإنهيار بنيتها التحتية . ان هذا الحال سيستمرلبضع سنوات .

- قل لي يافالح، كم سيأخذ من أعمارنا هذا المصير؟

أجاب بهدوء وإسترخاء المطمئن بالنجاة من هذا الموت المقبل .

قال: ربما نحتاج الى عشر سنوات قادمة على أقل تقدير .

- احجي الصحيح فالح ! لقد أدخلتني في (جهنمك) المقبلة .

- ستكشف لك الأيام صحة ما أقول، أنا مغادر، في أمان الله .

حاولت أن أبتعد بتفكيري عن توقعات فالح، بإزاحة الإرتباك الذي خضّ أعماقي، وأن أتمكن من طرد تلك الصور المفزعة في ذاكرتنا، لم يكن أمامي سوى البحث عن المبررات التي أقنع بها ذاتي القلقة، والهروب بعيداً عن مواجهة الحقائق والإحتمالات الخطيرة . فمن يسعفني بهذه المواجهة سوى تلك الظنون الخاسرة .

- فالح يحلم بمناخ مثالي للعمل، ليجد المسوّغ في العودة للمكان المترع بالجمال، ومن المؤكد انه يفكر بشكل جدي أن لا يكون طعماً سهلا للحرائق مرة أخرى، ويتطلع لبغداد خالية من الحواجز والكتل الكونكريتية، تقطّع أوصالها وتحيلها الى مدينة بلا طعم أو حياة، يحلم أن يتجول في السعدون صوب مقهى المعقدين وأبي نواس، لينطلق نحو بردايس او كاردينيا، وهو يتساءل : هل سألتقي طهمازي وحسين عجّة ورياض قاسم ومنعم العظيم، وليد جمعة، جليل، زهير، عواد؟ و ..و.. أم انه سيدور لوحده في الأزقة ؟ والأزقة تدور به؟

ها هي عشر مضت، وبعدها خمس، وكنت على أمل ان (تخيب) توقعات فالح، لكن خاب ظني أنا، وصدق فالح لأنه إختار الموت !

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم