صحيفة المثقف

في زنزانة السؤال للشاعر فلاح الشابندر.. إرتداد لأصداء شاعر يعيش أبدية الألم.. قراءة تأملية

1267 falahهذه القصائد التي أريد لها أن تكون شاهدا على عصر ينوء بحمل ثقيل من الأحزان والآلام شكلت إرتداد لأصداء شاعر عاشها ويعيشها الآن، وإذا

كانت القصائد تشبه صور الناس الأخرى التي نعترف بها بأنفسنا فإن كتابة الشابندر لها تصطدم بنا في أكثر الحشايا ضعفا وشراسة ووحشية . وقراءة متأنية لها تعطيك صورا عديدة لمشاهد باتت تتكرر أمامه ليس في بلده فقط بل في عالم يسوده الخوف والعنف في كل دقيقة وساعة مثل مشهد رعب في السينما، فنصوصه تشكل سلسلة غريبة من الصور على الرغم من أن مؤلفها حاول مقاومتها بنصوص أخرى تنتمي لعاطفة متأججة في نفسه مقاومة لتلك التعريفات التي ذكرناها وبذات النبرة عن طريق صورها وكلماتها التي تشكل إرتداد أصداء لها، كما أن تلك النصوص غالبا ما تستكشف الظاهر المجاور لشيء لا يبدو ضئيل لأهميته الفاعلة كما يوحي نصه التالي بذلك :

ومن عسر الأجوبة

جبلا أصعد

- كسّار حجر لعله –

الفأس اخطأت الرسم،

واجترح الأسف (1)

كم تبدو أبيات هذه القصيدة شبيهة بنا ونحن نعيش تضاريسها المألوفة أذى، مآسي، فقدان وألم، هذا ما ذهب إليه الشاعر الأمريكي ريتشارد ويلبور الراحل عن دنيانا عام 2017 حينما كتب يقول :

" إذا كنت سعيدا فستظل صفحتك أيها الشاعر فارغة، يجب أن يكون هناك بعض الاحتكاك للكلمات للقبض على النار وإلا فستكون القصيدة اشبه برماد خامد لا حرارة فيها "، وكأن كل ما كتبه الشابندر في مجموعته الشعرية هذه محض ارتداد لصوت واحد هو الألم :

الليلة عاودني الوجع

مصاب بقصيدة، توسلتُ القصيدة ..

هل أطلقت سراحي ؟ (2)

الشابندر يستحضر هنا سرد كامل في وجيزة شعرية يشير بها نحو هذا العالم الموبوء فهو

يحاول أن تخترق حروفه أفق أرواحنا المبتلاة بشتى انواع القهر والفقدان فيها الكثير من دقة الشد التي تذكرنا بأعمال إميلي ديكنسون :

إلى الحرب :

مع التحيات

ماتت

زهرة البراري ! (3)

وأنا أقلب ديوانه أحس بزفرة قوية تكاد تشق صدره لهول ما تحمله من ألم، تلمست ذلك في قصيدته " زهرة المفتتح " المقاطع الأخيرة منها ، وهي إحدى نثرياته الشعرية الرمزية التي عجت بها صفحاته العديدات والتي لم يتمكن النظم الايقاعي من حكم نصوصه عليها كما هو حال الشعر، فيها من قوة الهجاء ما يناسب شدة وصلابة تلك الزفرة :

يفتتحُ البرقُ ..

يفتتحُ مرآته .

ليلا، يتبعثرُ الرعدُ،

على رأس دبوس ..

مغموراً وصاعقاً في قش متيبس . (4)

ومع أنه – أي الشاعر – استخدم ما تناسب من كلمات ذات إيحاءات متعددة تتفق مع سياقات النص الشعري النثري وتفرع رمزيته، فإنه زاد من حيويته وجماله كما نلاحظ ذلك في بقية نصوص مجموعته " في زنزانة السؤال " :

على هذا القدر من القرب دفىء .

وعلى قدر من البعد، رماد .

والحطب، جوف الثلج

لكن قلبي، يتجرأ على مضمون آخر للفقد،

بعد أن كان لا يجرؤ على ذلك إلا سراً .

(هي وأغطية الحنين) . لي هذا وصفا لائقا للفقد؟ على نحو يساء فهمه، صورة تطرأ بشكل غير متوقع :

للفقد ملحُ دم الصبار،

فاه الصبر :

شتاء النازحين،

يا عراق ... (5)

أو في " مرح الفاقة " أو في " محتفل بك الندم " التي نقرأ منها :

قد تراودكَ بعض سويعات ..

آخر العمر، ندم يحتفل معك

مع أني فرقت أكوم القش الستين،

التقينا !

لو تكونين غير أنتِ . (6)

الشاعر هنا لديه القدرة على خلق صورة شعرية قلقة أخاذة أطرتها رمزيته العالية بفضل خياله الممتد بعيدا الخالي من النهايات التي يتركها لمتلقيه والذي يعتبره شريكا فعالا مع ما يكتبه من نصوص، فهو في " ما يرتكبه الخريف " يعاود خلق تلك الصورة، لكن بأسلوب آخر يحيلنا إلى عنوانه " في زنزانة السؤال " حيث يقول :

في العدم القادم

للحدائق الخلفية ضائعة الوفاء،

أبحث

عن

فزاعة

بالاستعارة ..

هذا ما يرتكبه الخريف . (7)

ومع أننا نتلمس صرامة واضحة في حروف نصوصه فإنها تحمل كذلك سخرية لاذعة وكئيبة لما يعيشه الشاعر من أوضاع يشهد فيها ضياع كل ما كان يتمناه في الحياة، وطن مهدد أن يصبح مجرد اسم كان له تاريخ، وأيام يعيشها بلا طعم، تيه في كل شيء كما في " نص فاشل " :

اعتقل الوقت ..

الوقت، والطريق .

ملتقانا التيه !

غُنِّينا ,

وبُسطت مهاوي غوايتها

تسألني .. السقف ! (8)

أو في " مسرات " في جزءه الثالث :

لا نعرف . قدر المأساة المخبوءة ضرّاعة للخلاص .

وهو فرار حر.

إنكفأت العصفورة تبكي أجنحتها :

أخوتي العصافير، سحقتني سماوات الأرض،

وأجنحتي مجاذيف راعشة في بحر أحراش عوابر

سبيل .. عصافير الله :

فينا،

منا،

حولنا،

وكل يحيلنا غرباء ... نطرق بابا، ألفاظ الطرق على الباب صاحت :

- من ؟

- عابر سبيل سيدتي

- أفي هذه الساعة ؟ (9)

قد تكون قصائد هذه المجموعة تلمح لعبثية السياسة، العاطفة ، والعلاقات الكاذبة، فهي في النهاية تبحث في المشاكل الاجتماعية والثقافية والأخلاقية إنها دعوة لصحوة جماعية، ومع أن الشعر قد لا يمتلك القدرة على إحياء الموتى، لكنه يستنهض الأحياء منهم كما نقرأ في " زنزانة السؤال " :

الكرة : جدل الأقدام

الحبل : جدل الرقص

السؤال : جدل نفسه

منذ الأزل، في زنزانة السؤال، لا يملكون اعترافا ولا خطابا، ووجوههم : ابتهال .. ظلك، وبقية سرك الأتعس، والأنقى كالشمع الطعين بمياه العتمة .

الصيحة .. الصيحة يرتد صداها راجفا :

إلى النزلاء .. في زنزانة السؤال ...

يتأرجح باستفهامها .. أنت : " لاه بلا لهو " ... لاه بلا لهو ...

لكنه اندحار ؟! ( 10)

 

فلاح الشابندر

في زنزانة السؤال

مجموعة شعرية

دار سطور للنشر والتوزيع بغداد / المتنبي 2018

 

كتابة: أحمد فاضل

......................

حاشية /

1 – زهرة المفتتح صفحة 7

2 – نفس المصدر السابق

3 – نفس المصدر السابق صفحة 8

4 – نفس المصدر السابق

5 – ملح دم الصبار صفحة 12

6 – محتفل بك الندم صفحة 15

7 – ما يرتكبه الخريف صفحة 16

8 – نص فاشل صفحة / 11

9 – مسرات صفحة 39، 40

10 – زنزانة السؤال صفحة 25

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم