صحيفة المثقف

حول الموسيقى والرقص والتشكيل

jamaladin harifiالذي يفكر في منع الرقص والموسيقى، هو كمن يفكر في أن يعدم كل حركة وإحساس ويجعل الناس صما وخرسا. أي هو كمن يفكر في قتل الإنسان. فلا معنى للإنسان بلا صوت ولا حركة. وكذلك من يفكر في منع التشكيل، فهو كمن يدبر لأن يجعل الناس عميا غير مبصرين، ومبتوري الأطراف، لا أصابع تطوي ورقا ولا أيدي تطرق حديدا ــــ أحياء بلا حركة ـــ . بل وموتى هم أولئك الذين لا يرقصون ولا يرسمون ولا يصورون ولا يترنمون أو يغردون وسط هذا الكون الذي هو روعة في التشكيل وآية في التنغيم، وهو فوق ذلك رقصٌ كله فتنة وسحر تتشابك فيه أيدي الأرض بأجنحة السماء.

وما الإنسان إن لم يكن صوتا وحركة وأثرا؟ وأي وسيلة أخرى لديه للتعبير عن انفعاله وعن تفاعله وعن فعله في العالم غير الصوت والحركة والأثر الذي يتركه خلفه؟

وإذا كان هذا المخلوق الهش يتلقى الوجود ويستقبله بالسمع والبصر والشم واللمس، فيشعر ويحس ويفكر ويعقل ويخاف ويفزع ويحزن ويفرح، فإن ردة فعله واستجابته لهذا الوجود لا تتحقق إلا بالصوت والحركة، ولعل حركته الأولى، التي عبرت عن فهمه أو خوفه أو رغبته أو حاجته، قد كانت رقصا، أو بالأحرى، انتهت إلى أن تكون رقصا، ففي الرقص لخص وعيه وإحساسه وشعوره وفكره، وفي الرقص لَخَّصَ القطف والصيد والحرث والزرع والحصاد، وفي الرقص لخص المحبة والبغض، والفرح والغيظ والقبول والنفور وآلام الشوق وأوجاع السأم، والولاء والعداء لقوى الطبيعة أو قوى الغيب والمجهول، وبالرقص توسل إليها أو تحرز واحتمى من جبروتها. ولا عجب أن تكون شعائر وطقوس البدائيين وغير البدائيين من الشعوب البائدة أو الرائدة رقصا. لأن الرقص جوهر الحركة ومنتهاها، بل هو النظام الجمالي الأمثل لحركة الجسد. إذ كل الحركات قابلة لأن تصير رقصا، يكفي أن نعثر على " الوتيرة والتردد والسرعة والتناسق والإيقاع" الخاص بكل حالة وجدانية، والمعبرِ عنها بصدق، سواء كانت ألما وغمّا " مأتما" أو مسرة وفرحا " عرسا " أو خشية وخضوعا " طقسا". ولا رقص بدون صوت، لا رقص بدون موسيقى، الأجساد المتخشبة وحدها لا تهزها الموسيقى ولا تطربها ولا تُرَقِّصها، لأنها أجساد ماتت فيها الحياة، وما أكثر الموتى بين الأحياء. ما أكثر الموتى الذين لا ترتعش أجسادهم لنبض الحياة، الصوت هو النبض، والموسيقى هي الدماء التي تسري في الجسد فتسويه أو تطويه وتثنيه أو تعطفه وتديره أو تحيره وتجذبه أو تندبه راسمة بذلك كل الأحوال بالحركات، راسمة الآلام والأوجاع والأفراح والمسرات، والخوف والرجاء والحزن والانبساط... مفجرة ذلك الينبوع الطافح بالنشوة والمبتهج بالتدفق جاريا وساريا مع الدم في العروق. إنه الكون الداخلي للإنسان، إنه الكون العجيب الرهيب المحايث والموازي لكل الأكوان التي تناديه بأصواتها الخاصة وترقص حوله على إيقاعها الخاص.

قد كان الصوت الأول للإنسان همهمة مبهمة وغمغمة ثم زئيرا عند الغضب وصهيلا عند الجموح وهديلا للتودد لأنثاه ولتوددها إليه. قبل أن يخترع اللغة ونظام الكلام، وقبل أن يخترع الكتابة بزمان.

الحركة كانت فعل "الإنسان/ الجسد" فالإنسان يسكن جسده قبل أن يسكن العالم. الإنسان جسد في الأول والأخير. والصوت كان تعبيره الوحيد عن كل أطواره وأحواله. كان صرخته في وجه الوجود غير المألوف وإعلانه عن أناه. الصوت صرخة الروح، وما ألطفه حين يرق ويشف ويتناغم وينسجم حتى يصير موسيقى، لذلك فالموسيقى تؤثر في الأرواح مباشرة، إن الصوت لسان الروح، والموسيقى خطابها الأول. إعلانها الأول عن وجودها، وعن رقتها وهشاشتها.

لم تكن للإنسان لغة تحكي أو كتابة تُدَوِّن. فكان يهدل ويصهل ويزأر ويصفق ويصفر ويرقص مقلدا خرير ماء أو هزيم رعد أو تغريدة طير، مقلدا كل حيوان و كل ظاهرة تلتقطها أذنه ويطرب أو يرتعب لها قلبه . مستعملا أوتار حنجرته كآلة، معتمدا على صوته الخام، محتفظا في ذاكرته بالصدى وبالرنات والترددات التي ستتحول إلى موسيقى حين ستقوده الحركة إلى تجريب الأدوات، فيخترع الآلات، و يجرب القرع والنفخ والضرب والنقر، ويواصل الرقص على إيقاع مختلف، يواصل الرقص على إيقاع الداخل والخارج، لأنه يصدر الصوت ويستقبله، ولأنه يبدع موسيقاه الخاصة ويستقبل موسيقى الآخرين. وليس من شيء أقدر على التعبير عن أحوال الإنسان أكثر من الرقص والموسيقى لأنهما معا يصدران عن أحشائه، يصدران عن الداخل، يصدران من القلب والكبد. هما الأصل، أما اللغة والكلام فطارئان، وكذلك الكتابة طارئة، وأسمى ما تصبو إليه الكتابة هو أن تقترب من الرقص ومن الموسيقى وحين ذلك تصبح شعرا. فيكون الشعر أقرب شيء إلى الموسيقى والرقص، إنه يستفيد من أوزان الموسيقى وتناغمها، كما يستفيد من حركات الرقص وإيقاعه.

وإذا كانت الموسيقى والرقص قد نشئا للتعبير عن الإحساس من التزاوج العجيب بين الحركة والصوت والسمع، فإن فنا آخر سينشأ للتعبير عن الإحساس نفسه من تزاوج الحركة والبصر، إنه التشكيل، رسما ونحتا وتصويرا وهلم جرا حتى المعمار. وكما أنصت الإنسان لحفيف الأوراق وصفير الريح وخرير الماء أو طرق الحديد ليبدع موسيقى فكذلك رأى الألوان والأشكال والضياء والظلال والعتمات فأبدع الرسوم والتصاوير والمنحوتات مستجيبا في ذلك للحاجة إلى حفر الأثر هناك وهنا حيثما قادته خطواته أوساقته مقاديره إلى ارتياد مجاهيل أكوانه الداخلية أو مجاهيل الأكوان الدائرة به والتي ليست في الأخير غير ألوان وأشكال وصور. إن الكون حقا موسيقى ورقص وتشكيل، وإن الإنسان في الحقيقة فنان بالفطرة، وإن الفن لأحق بالاعتبار والعناية أكثر من كل أشكال التعبير اللاحقة عليه لأنه أول أشكال التعبير عند الإنسان وأنبلها وأصدقها.

الصوت إذن والحركة والأثر" أي" الرقص والموسيقى والتشكيل أقدم من اللغة وأصدق من الكتابة، ناهيك عن أن اللغة تخون وأن الكتابة تكذب، وذلك ما لن تفعله الموسيقى ولن يستطيعه الرقص والتشكيل. فالإنسان الذي يعي ويشعر ويسمع ويبصر سيرقص دائما ويرسم وينحت ويشدو ويحفر ويصور ويطرب للرسم وللرقص وللموسيقى ما دام به نبض حياة.

الرقص والموسيقى والتشكيل، حركة وصوت وأثر. فعل الإنسان في الوجود وتفاعله معه ونداءه وأثره الباقي بعده. سحر لا يكذب وفتنة لا تخيب.

أما الكتابة فتكذب. وأما اللغة فخائنة.

 

جمال الدين حريفي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم