صحيفة المثقف

د. عبد الله العروي: تعاسة العرب مع الحداثة

سعيد توبيراخيرا، صدر ما انتظره المثقفون والباحثون منذ زمان، وبشغف كبير في المغرب خاصة والوطن العربي عامة، أي ما يهم العمل الاختتامي لبرنامج مشروع الدكتورعبد الله العروي الفكري في اصلاح الفكر والمجتمع العربيين. انه كتاب "الفلسفة والعلم"، والذي صدر مؤخرا من دار نشر. اذ اعتبره المهتمون بفكره" الملخص التركيبي النهائي" لمشروعه التاريخاني في الوعي والفهم والافهام لأسس ومقومات الحداثة والتحديث، من اجل اخراج الشعوب العربية من حالة التأخر التاريخي واللحاق بركب الشعوب المتقدمة عقلانيا وديمقراطيا.

وقد تزامن نشر هذا "الكتاب التحفة" مع فوزه ب" جائزة الشيخ زايد للكتاب" عن جدارة في دقة المنهج البحتي والتحليلي في فهم كل من الغرب والعرب، واستحقاق في الفاعلية النظرية والعملية في اغناء الثقافة العربية المعاصرة. إذ لم يتخل المؤرخ والفيلسوف المغربي طيلة نصف قرن عن القيام بدور المثقف العربي التنويرية تكوينا، بحثا، تأليفا وابداعا، وكل داخل مدارات صرح منطق حيوي سمته الاساس الطابع الاشكالي والنقدي، بحيث جمع ما بين البحث التاريخي والتحليل السياسي والاجتماعي والتوضيح الايديلوجي.

ماذا يقصد بالحداثة او التحديث؟ اين يكمن الداء والدواء لمجتمع يريد الخروج من حالة التأخر التاريخي واستدراكه؟

للاجابة اولا عن هذه الاسئلة الراهنة، كان لابد من استحضار الواقع التاريخي والسياسي الذي تئن تحته المجتمعات العربية الاسلامية الحالية من فضائعيته مخيفة لما عاد يسمى ب"ما بعد الربيع العربي".

فإذا كانت من حيلة قد انطلت على العرب المعاصرين، فلن تكون غير السقوط كضحية أو فريسة في براثن وهم الإعلام المعولم والموجه والهدام في الآن نفسه، والذي يشكل في الحقيقة من حيث التأثير والتوجيه قوة طيعة في خدمة الدوائر الاقتصادية والسياسية العالمية المعاصرة، وريثة الاستعمار أو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؛ الشركات العابرة للقارات ولوبيات الطاقة وصناعة وتجارة السلاح، على أساس أن صراع المصالح قد أرخى بظلاله المعقدة أمنيا وعسكريا على الشرق الاوسط"سوريا والعراق" وضفة البحر الأبيض المتوسط ودوله وثقافاته من "مصر وليبيا وتونس".

ما ميز فكر البروفسور عبد الله العروى مؤخرا هو التراجع عن الحمى القومية، _ وذلك بسبب ما يحصل من اجتثات منهجي وتفكيك محموم للمجتمعات العربية الانف ذكرها_، في اتجاه القضايا التي تهم المغرب الاقصى من قضايا السياسة والديمقراطية، المسألة اللغوية، مستقبل الملكية الدستورية وهواجس الاسلام السياسي المغرب. في نفس الوقت نسجل تراجعه عن حكمه الاكثر حدة في السابق على المثقف العربي؛ من جهة تقاعسه الثقافي وعجزه السياسي في تحديث وعقلنة المجتمع العربي. وهو الموقف الذي يرده الى طبيعة قوة وخطورة الظروف العامة و العوامل الخارجية في تأثيرها على المجتمعات العربية، والمثقف العربي في القيام بدوره التاريخي، مؤكدا في نفس الوقت على اهمية دوره المعنوي في الظروف الحالية.

2 irawiإن المفهوم الذي صاحبه تاريخا وفكرا وسياسة وإبداعا، واخلص اليه بحثا وتأصيلا، لن يكون غير مفهوم الحداثة. وان لم يصرح به بشكل مباشر، حتى لايفهم انه يبحت في مفهوم ميتافيزيقي، وانما في مفهوم تاريخي من خلال مفاهيم خاصة: التأخر التاريخي/ النقد الايديلوجي/ المنهج التاريخاني. ولهذا السبب يقول العروي في الصفحة (14) من كتاب مفهوم "العقل" : (ان ما كتبت الى الان يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة، ويستطيع القارئ النبيه ان يجتهد لنفسه ويتنبأ بما سيقال في الفصول الاخيرة اذ هو امعن النظر في الاولى).

والواقع هو ان العروي انخرط بشكل مبكر في نقد اسباب الانهيار العربي، أي ان بعد هزيمة 1967، استطاع هذا المفكّر أن يصوغ أطروحة متكاملة عن واقعنا التّاريخي وآفاقه المستقبليّة، حلّل فيها الواقع العربي وامتداداته الفكريّة والسّياسية والثّقافيّة، كاشفا بذلك عن أسباب تأخّرنا وعوائق تحديثنا.

ماذا يقصد العروي بالحداثة؟ الحداثة في تحليله تقوم على مفهوم اساس وهو "النفعية" أي "المصلحة" بالمعنى الفقهي القديم، بحيث هذه المصلحة تكون هي القيمة الاولى، على اساس ان أي بحت في كل اختيار عليه ان يستحضر المصلحة العامة وليس المصلحة الفردية. وبالتالي فالدولة هي الممثلة للمصلحة العليا، وهي المفوضة مؤقتا من طرف المجتمع؛ والتي عليها ان ترعى المصلحة العامة للمجتمع. بعكس الانظمة السبقة للحداثة او التي تعارضها يكون المفهوم المهيمن عليها هو الاخلاص لمفهوم الولاء او التقليد، بحيث يرى ان التقليد قد يكون مفيدا في الحياة العائلية؛ بالنسبة للطفل والنشئ، ولكنه غير نافع بالنسبة للقائد، للزعيم أو المشير أي الشخص الذي يقود الحركة الاجتماعية، إذ المطلوب منه البحث عن طرق جديدة لتحقيق "المصلحة العامة".

الحداثة إذن ليست التنكر للتقليد، وانما وضعه في مكانة معينة، لانه يظل مستمرا في المجتمع، لكن المشكل هو ان يصبح التقليد قيمة مسيطرة على المجتمع. فالخطأ في نظره ليس في التشبث بقيمة وانما في تعميم صلاحية هذه الاخيرة "حياة العائلة"، بحيث لا تكون صالحة على مستوى تسير شؤون المال والاعمال أي الاقتصاد؛ ذلك العلم الذي يفترض الابتكار، التجديد، الرهان على شيء جديد، قد نصيب وقد نخطأ المهم؛ لنجرب : اما ان "نبقى اوفياء لما صلح في الماضي يبقى مخاطرة، ومخاطرة عكسية".

ان الحداثة ليست قيمة يجب ان نتشبث بها، هي تجربة ظهرت في التاريخ وأعطت نتائج اولا في بعض المجتمعات" انجلترا وفرنسا"، وجاءت جماعات اخرى ارتأت؛ انه_ للوصول الى مستوى من القوة والنفوذ والرفاهية الاجتماعية_ ان تقلد هذه القيمة الجديدة أي "الحداثة": (اليابان، الصين وروسيا وتركيا). فلماذا تأخر العرب عن تقليدها، بالرغم من سبقهم التاريخي الى مفهوم التجديد والنهضة قبل هذه المجتمعات في مصر والشام اواسط القرن الثامن عشر؟

الوضعية المشكلة بالنسبة للعروي: هي ان تكوينه في السوسيولوجيا السياسية واشتغاله بالتاريخ سهلت عليه ان يكون طبيبا جراحيا في كشف الأسباب الحقيقية وراء عدم فهم المثقفين والسياسيين العرب للحداثة والعالم الحديث وتكريسهم الدائم للتقليد والتبعية.

_ السبب الاول، هو أن الفكر العربي لم يستوعب اسس الفكر الثوري الاوربي، في صورته الديمقراطية في القرن الثامن والتاسع عشر(الثورة الفرنسية /الانجليزية والاميركية)، او في صورته الاشتراكية في القرن العشرين (الصين/ روسيا/ اوربا الشرقية). بحيث يرى ان اصول هذا الفكر واحدة وهي نقض اسس النظام الاجتماعي والفكري التقليدي، أي ان هذا الفكر النقدي الحديث مكنه من الامساك بالجذور والصفات التي تجعل كل نظام تقليدي قابل للاستعمار لان في نفسه "هشاشة" .

السبب الثاني: هو اقتناع العروي بان سبب التأخر والضعف المؤدي للاستعمار، وفقدان السيادة الوطنية هو: قابلية ثقافتنا التقليدية للاستعمار، أي واقع الهشاشة، الذي يمكن ملاحظته بالصفات والمظاهر من خلال الاسرة/ تنظيم الدولة/ التربية والثقافة عموما).

ولذلك يؤكد على أي مجتمع ثالثي ومنهم العرب، اراد ان يصبح عصريا، لابد له من ان يستوعب ويتقبل ويتفهم ويطبق اسس الحضارة الغربية في مظهريها الرأسمالي والاشتراكي التي يسميها علميا بالليبرالية. معناه انه في العمق يتوجه بالنقد الى ممثلي الخطاب السياسي والثقافي العربي، الذين يحملهم مسؤولية الفهم المغلوط لمنطق العالم الحديث وخصوصا التراثيين بحيث يقول (على الملاحظ ان يعترف بان الاستلاب الحقيقي هو الضياع في تلك المطلقات في اللغة ، في التاريخ القديم)، وعليه ينظر الى الدولة باعتبارها عنصر عقلنة كبير ومهم للمجتمع.

 

الاستاذ: سعيد توبير - المملكة المغربية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم