صحيفة المثقف

تحولات الشخصية العراقية في الانتخابات البرلمانية

qasim husansalihكشفت سنوات ما بعد التغيير (2003) صفات جديدة عن الشخصية العراقية بعضها ما كان موجودا فيها بنفس الحّدة (التعصب مثلا)، وبعضها كان يعدّ عيبا اجتماعيا وصار ظاهرة شائعة (الفساد مثلا) جسدتها مواقف العراقيين من اهم حدث ميداني قدمت لنا نتائجه تشخيصا لخصائص الشخصية العراقية لا تقدمها بحوث ميدانية، لكون الحدث يتعلق بأهم أربع قضايا في الوجود الانساني: الانسان وحياته كفرد، ومسؤولياته : الأسرية، والاجتماعية، والوطنية.

كان اخطر هذه الظواهر هو اذكاء التعصب الذي كان موجودا في مجتمعنا لكن اعراضه ما كانت حادة لغاية عام (2005) الذي انفجر بعنوان جديد هو صراع الهويات الذي دفعنا ثمنه عشرات الاف الضحايا بين (2006 و.2008)، وصل مائة قتيل في اليوم في تموز(2007) .. ان كنتم تتذكرون.

وكان العامل السيكولوجي الذي تحكم في انتخابات (2010) هو (الأحتماء) بطائفة او عشيرة او قومية تحميه.فتوزع الشيعة على قوائم والسنّة على قوائم والكرد على قوائم. واستطاعت الطائفية ان تعزز اشراطا او اقترانا نفسيا وعقليا واجتماعيا بين بقاء السلطة بيد الشيعة من جهة، وسعي السنّة لاستعادتها من جهة أخرى، وبين حياة الذل والقهر والخوف من الأفناء لدى الطرفين. وكان هذا هو الصنف الشائع من الشخصية العراقية، فيما كان الصنف الأضعف منها متمثلا بقلّة تمتعت بالنضج السياسي والفكري والاجتماعي من مثقفين ومتنورين توحدوا بهوية الانتماء للوطن ازاء كثرة غالبة توزعت على هويات فرعية:طائفية وعشائرية وقومية ودينية، واخرين منحوا انفسهم تبريرات بمقاطعة الانتخابات من قبيل (الاحتجاج) و(ان العراقيين لا يستحقون) .. فضلا عن اصابة كثيرين منهم بالاحباط وتضخم الأنا.

وفي(2010) جسّد العراقيون في الخارج صنفا جديدا من الشخصية العراقية.اذ افادت الارقام في حينها بان عدد الذين شاركوا في الانتخابات لم يبلغ 170 الفا .. واذا استثنينا مليونا منهم لصعوبات حالت دون مشاركتم فانه يبقى بحدود ثلاثة ملايين عراقي في دول العالم لم يصوتوا .. ما يعني انهم طلقوا الوطن بالثلاث!

وفي مقالة موثقة بجريدة المدى ومواقع عراقية نشرت قبيل انتخابات (2014)، اشرنا بالنص (ان الذي يحسم نتائج الانتخابات هو حجم مشاركة اللامنتمين، لأنهم يمثلون النسبة الأكبر، والخشية انهم عازفون) .. وصدق توقعنا بعزوف ثمانية ملايين عراقي عن المشاركة فيها! .. كنّا وصفناهم في المقالة ذاتها بأنهم (موزعون بين اليائسين من اصلاح الحال والمترددين والمعلقينها على الظرف الامني يوم الانتخابات) .. مع ان ان المرجعية ورجال الدين من الطائفتين عدّت من لا يشارك في الانتخابات (آثما) و(خائنا) للوطن، وان المشاركة (واجب ديني ووطني) .. ومع ذلك قعدوا في بيوتهم، ومنحوا اصواتهم عمليا للطائفيين وكان نتيجتها سبعة ملايين عراقي صاروا تحت خط الفقر مع انهم يعيشون في اغنى وطن بالعالم، فيما صار الفاسدون من الحكام من اغنى أثرياء العالم مع انهم ما كانوا حينها يملكون ثمن تذكرة الطائرة تعيدهم الى الوطن.

والتساؤل هنا :هل ان الشخصية العراقية ما تزال ثابتة على موقفها من انتخابات 2018، كما هو حالها في انتخابات 2014؟

الجواب العلمي يقول(كلا) مستندا الى قوانين التطور الاجتماعي والوعي الانتخابي وحصول احداث ما كانت متوقعة متمثلة بانفراد مشهد انتخابات بتعدد القوائم الانتخابية (88 قائمة)

وتفكك قوى كانت مؤتلفة ابرزها انفراط عقد حزب الدعوة الذي تولى السلطة منذ العام (2005)، وانشقاق تيار الحكمة عن المجلس الاعلى وظهور تحالف جديد باسم (الفتح)، وتحالف يحدث للمرة الأولى في تاريخ العراق السياسي بين الحزب الشيوعي العراقي والتيار الصدري .. واستياء جماهيري من انفراد احزاب الأسلام السياسي بالسلطة والثروة.

ومن أهم التحولات في انتخابات (2018) .. تراجع العامل الطائفي من صراع كان بين شيعة وسنّة الى :صراع شيعي شيعي، وسنّي سنّي، وكردي كردي ايضا، لحساب قانونين يحكمانها هما (المنفعة والتبادل). فلقد عمدت أحزاب الاسلام السياسي في السلطة الى استمالة شيوخ عشائر ومنحهم امتيازات وتوظيف ابنائهم وصاروا مدينين لقادتها بالفضل بشكل نستطيع فيه القول ان قاعدتهم الجماهيرية ستبقى عالية بين سكان النواحي والأقضية والارياف فيما سينخفض رصيدهم في مراكز المدن.

والقانون الثاني هو قانون التبادل القائم على الأخذ والعطاء، وهو قانون قامت عليه البشرية من قديم الزمان حيث ان وجود شبكة من المبادلة والالتزام بين الناس يمنح الانسان شعورا بالأمان والثقة في انه يستطيع ان يعطي وهو مطمئن انه سيأخذ في المقابل .وتجسّد هذا بقيام مرشحين باعطاء الناخب شيئا ماديا مقابل ان يمنحه صوته. وشاع عبر وسائل التواصل الاجتماعي قيام احزاب سياسية بشراء آلاف البطاقات الانتخابية بثمن ترواح بين (100 الى 200) دولار، وقيام مرشحين بدفع مبالغ تصل الى خمسمئة دولار للناخب الواحد، فيما قام أخرون بتعبيد بعض الطرق الترابية في مناطق ترشحهم، بـ «السبيس»، في عملية سخر منها الناس بوصفهم لها بملحمة (السبيس) .. وكل هذا يقوم على وعد برد الجميل بالتصويت لصالحهم.

وهناك نمط ثابت من الشخصية العراقية ترى وجوب طاعة الاشخاص ذوي المناصب او السلطات الاعلى منهم والانصياع الى اوامرهم او توجيهاتهم باعتبار انهم مؤهلون لقيادة الناس وأنهم يعتمدون المثل القائل (شين اللي تعرفه احسن من خير اللي ما تعرفه).

بالمقابل، هنالك استياء واسع ضد حكومات أحزاب الاسلام والمحاصصة السياسية، في مراكز مدن المحافظات تحديدا، وقيام تظاهرات تدعو الى انتخاب وجوه جديدة تمتاز بالكفاءة والنزاهة، وتسقيط جماهيري عبر اهازيج وسخريات لاذعة من سياسيين وصفوا بأنهم فاسدين او فاشلين.

وعلى وفق توقعاتنا فان نتائج انتخابات (2018) ستكون مختلفة عن سابقاتها، واهمها ان القوائم التي وصفت بالكبيرة والماسكة الان بالسلطة لن تحقق أيا منها اغلبية مطلقة (النصف زائد واحد) وان البرلمان القادم سيشهد دخول وجوه جديدة تزيح وجوها اثبتت فشلها ..

غير ان هذا سيكون مشروطا بامرين: نجاح القوى الوطنية المدنية والتقدمية في استخدام استراتيجيات الاقناع في حملاتهم الدعائية بشكل علمي مستفيدة من التحولات في الشخصية العراقية، وكثافة المشاركين في التصويت من اللامنتمين من داخل العراق وخارجه التي نتوقع ان تكون نسبتها اعلى مقارنة بسابقاتها .. مضيفين لها عاملا ثالثا هو نشاط جمهور الفيسبوك في حث الناس على المشاركة في الانتخابات بشكل فاعل، وادراكهم ان جمهور الفيسبوك اوسع من جمهور الفضائيات واقوى تاثيرا .. ولكم في ذلك شاهد ودليل انه اطاح بحكومة اخوان المسلمين في مصر بأقل من سنة!

 

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

امين عام تجمع عقول الثقافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم