صحيفة المثقف

تكاثر وتفريخ الأحزاب بفترة ما قبل الإنتخابات

hashem aboudalmosawiتعاني صناعتنا المحلية في وقتنا الراهن من محنة لا مثيل لها، حيث وصل مجتمعنا إلى الحالة التي صار يستورد فيها كل شيءٍ من الخارج، من أصغر الأشياء وأدقها، إلى أضخم المنتوجات وأكبرها.

الشيء الوحيد الذي يُنتجه مجتمعنا بأعداد هائلة، هو الأحزاب التي تتوالد وتنشطر وتتكاثر كالأرانب يوماً بعد يوم.. ويُمكن تحديد فترة ما قبل الانتخابات بأنها هي فترة التكاثر والتفريخ، مثلما حدث قبل أربع سنوات، عندما بلغت القوائم والتنظيمات بالمئات، ولكنها تبخّرت ودخل بعضها في دورة سبات، ربما حتى الدورة القادمة بعد أربع سنوات أيضاً.. أحزاب لا تملك برامج ولا نظاماً داخلياً ولا أيديولوجية واضحة.. وإنما الهدف من كل ذلك هو الوصول إلى مجلس النواب، وبعد ذلك يحلها حلاّل.

ربما ستفاجئنا بعض الدول ممن لم تدخلها الديمقراطية من أبوابها الواسعة مثلما ننعم بها الآن، بالطلب إلينا، لكي نصدّر إليها بعضاً من هذه البضاعة التي باتت كاسدةً لدينا، لكثرتها، ولعدم الإقبال عليها من مواطني دولتنا في واقعنا المُفعم بالضبابية غائبة المعالم.

نعم إنّ الديمقراطية الحقة، في أدق تحليل لها، لا تعنى سوى السيطرة الكاملة لشعب الدولة قاطبة على صناعة القرار وإجراءات تنفيذه، هذه السيطرة التي لا تتحقق في صورتها العملية إلا باستعمال وسائل مختلفة ومن خلال أساليب متنوعة، فردية وجماعية، من الشعب وبالشعب وللشعب.

ولعل من أهم هذه الوسائل والأساليب الجماعية للمشاركة السياسية التقليدية، هي الأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة على اختلاف صورها وأهدافها، ومن أهم الوسائل الفردية للمشاركة السياسية هي الانتخاب والاستفتاء الموضوعي والشخصي.

ولا غرو في أن التنظيمات والتكتلات الجماعية قد اكتسبت أهميتها وزادت خطورتها، بوصفها هيأت لمشاركة الأفراد الجماعية في الشؤون العامة، على الأخص عندما تمظهرت في الظاهرة الحزبية وتحوّلت إلى أحزاب سياسية، بما يسّرته هذه الأحزاب للأفراد العاديين، من عامة الشعب، من وسائل مؤثرة وآليات فعالة، تمكّنهم من توظيف إمكانياتهم الفردية الصغيرة، وتعبئة جهودهم المتواضعة، في قوة سياسية موحّدة ذات فاعلية وتأثير خطير على الدولة وهيآتها الحاكمة.

وتجسّدت هذه التنظيمات الجماعية التي تستهدف تحقيق مشاركة مهمة وفعالة في الشأن العام للدولة، وعلى الأخص في الظاهرة الحزبية، فقد لعبت الأحزاب دوراً خطيراً في التعبئة للحملات الانتخابية، وفي اختيار من يفوز بنتيجتها، والتحكم في إدارة قواعد اللعبة السياسية بما يحقق مصلحتها ويزكّي قدراتها ومراكز المنتمين إليها والأعضاء فيها.

وهكذا كان للأحزاب السياسية الدور البارز في نقل الديمقراطية غير المباشرة (التقليدية) من نمط المشاركة السياسية ذات الصبغة الفردية البحتة، التي كانت تتسم بها بسبب اقتصارها على تطبيق نظام المشاركة الانتخابية والاستفتائية، إلى الأخذ بنظام المشاركة ذات الصبغة الجماعية، بفعل دفعها بمجموعات الأعضاء فيها للمشاركة المنظمة، تحقيقاً لبرامجها المعدة سلفاً ولمصلحة أعضائها ومن ترغب وصولهم إلى مراكز السلطة.

فإذا كانت المشاركة الجماعية غير المباشرة في الشؤون العامة، التي تحققت في ظل الديمقراطية النيابية، اعتماداً على الأحزاب السياسية، تُشكّل نقلة تقدمية في تاريخ الشعوب ومرحلة تطور جديدة لآليات الدولة الحديثة، باتجاه إقامة أنظمة حكم أكثر ديمقراطية، مما كانت عليه الأنظمة الملكية الفردية المطلقة، أنظمة القياصرة الأباطرة، وكذلك الأنظمة التي لا تتيح أمام الأفراد سوى وسيلة واحدة هي الانتخاب أو الاستفتاء، التي فقدت قدرتها على إقناع الشعوب بجدية نتائجها وفعاليتها، لاقتصارها على مجرد إتاحة الفرصة للمواطنين في مشاركة طارئة، لا تتجاوز قيامهم بإلقاء أصواتهم في صناديق الاقتراع الانتخابية، لا ليحكموا أو يقرروا وإنما لاختيار من يحكم ويقرر بالنيابة عنهم، ويعودوا بمجرد الانتهاء من ذلك إلى حالة خضوعهم وتبعيتهم الأولى، وتكرار العملية نفسها مع كل انتخاب جديد، مما دفع المفكر الفذ (روسو) للسخرية اللاذعة من الانتخاب في كتابه ذائع الصيت (العقد الاجتماعي) بقوله "إن الشعب الإنجليزي يغشّ نفسه باعتقاده أنّه حر، لأنّه ليس كذلك في الحقيقة إلا أثناء عملية انتخابه لأعضاء البرلمان، وحالما تنقضي مدة الانتخاب، يفقد هذه الحرية، ويعود مرة أخرى إلى قيوده الحديدية، ويُصبح لا شيء على الإطلاق".

إذا كان شأن الظاهرة الحزبية باعتبارها ضرورة أوجبتها ظروف تطور الحياة الديمقراطية، وما ترتّب عليها من نتائج إيجابية في نقل المشاركة السياسية، من صيغتها الفردية الانتخابية إلى مرحلة أخرى أضفت إلى ذلك صيغة جماعية لمشاركة أكثر فاعلية وتأثيراً، وقدرة على التقرير والتغيير. فماذا عن الجانب السلبي للظاهرة الحزبية، الذي جعلها تتجاوز مرحلة الضرورة إلى الضرر، ومن حالة الصبر على مرارة الدواء لعلاج الداء، إلا أن احتمال مرارة الدواء لم تحل دون تحوّله هو نفسه إلى داء، يستوجب لعلاجه الخلاص منه هو نفسه، امتثالاً لقول الشاعر الكبير أبي نواس "وداوني بالتي كانت هي الداء".

فإذا كانت الظاهرة الحزبية دائرة بين الضرورة والضرر، الضرورة مبرراً لوجودها في الحياة السياسية لتحقيق نمط من المشاركة الجماعية، يتجاوز قيود المشاركة وحدودها الفردية الانتخابية والاستفتائية ويجعل مشاركة الأفراد في الشأن العام أكثر قوة وفاعلية منذ أكثر من نيف ومائة سنة ماضية، فإنّه لم يعد ثمة مبرراً لهذه الضرورة مع تطور الحياة السياسية ودرجة الوعي وثقافة الحرية والديمقراطية المنتشرة، بفعل التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات في جميع المجتمعات الراهنة.

لذلك فإذا كانت الضرورة بوصفها قاعدة عامة يجب أن تقدر بقدرها، فإنها قد تجاوزت هذا القدر دون شك، ما يجعل وجودها يفقد مبرره، وتكون هي بالتالي بمثابة المصادرة على المطلوب، وهو دفع أضرارها التي ازدادت انتشاراً وخطورةً، إيماناً بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار).

وفي ضوء الاضطرابات والبؤس الذي يعيشه مجتمعنا حالياً.. ربما يندفع الناس إلى التفكير إلى التماس السلامة والاستقرار في سلطان فردٍ مطلق. ويتقدم عاجلاً أو آجلاً زعيم أحد الأحزاب المسيطرة ويستغل هذا الوضع لتنصيب نفسه حاكماً مطلقاً، على أنقاض الحريات العامة، فإن أضرار الروح الحزبية الحالية في وطننا تكفي لأن تجعلنا نفكّر بأن مصلحة الشعب أن يُخمد الروح الحزبية، ويردعها على الأقل، حتى تتطور مفاهيم جديدة في المجتمع تتلائم مع مفهوم الديمقراطية، وقد شاهدنا بهذه السنوات العجاف التي مرّت علينا، كيف أن الأحزاب أصبحت تُلهي وتُحيّر مجالس الديمقراطية، وتُضعف الحكومة، وتُزعزع المجتمع، بما تُشيع فيه من حسدٍ وبغضاء ومخاوف مصطفة.. وتُذكي نار العداوة بين الأحزاب من حينٍ لآخر، روح الشغب والعصيان، وتفتح الأبواب للنفوذ الأجنبي والفساد الذي تُعبّد طريقه الأهواء الحزبية.. وهكذا بدأت ترتهن سياسة الدولة الشعب لسياسات وإرادات دولٍ أخرى.

 

د. هاشم عبود الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم