صحيفة المثقف

اثر بوذا في شعر الخيام

ahmad alkinaniثمة مقارنات عقدت بين اللزوميات والرباعيات منشؤها المشتركات الفكرية بين شاعر العرب المعريَ وشاعر الفرس الخيَام ونظرتهما الى الوجود والكون بمدى بعيد ابعدهما كثيرا عن الضرورات الدينية التي ينتميان اليها او هكذا فهم من التراث الادبي المنقول عنهما، ولعل نظرة التشائم للحياة والاعراض عنها اشد الاعراض وبالتالي انكار البدائل في العالم الاخر، هي السمة البارزة لتلك المقارنات .

فلسفة التشائم هذه وقف عندها مليَا وناقش علاَتها طه حسين في سفريه المخصصًين لابي العلاء، والنتيجة التي خلص لها بانها نابعة من العقلانية التي كان يتحلى بها في تقييمه لما يدور حوله، " وما اكثر ما تأثر ابو العلاء بما كان يقرأ من الديانات فمالت نفسه الى الايمان بالبعث، وما اكثر ما تأثر ابو العلاء بما يقرأ من كتب بعض الفلاسفة فمال الى التصديق بخلود النفس، ولكن ما كان اكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوا او يضعفه اضعافا شديدا " .

لكن الخيام في فلسفته التشائمية لم يجد كطه حسين منصفا موضوعيا في مناقشة أسباب ذلك التشائم، والناقد للخيًام جرده عن اكثر رباعياته، كونها تنطق كفرا لا يليق بشخصية الخيام، رغم انه يدعو الى اغتنام اللحظة الحالية والتمتع بها لأنها المملوكة بالفعل، فالماضي ماض وغد بظهر الغيب، وكما انشدت أم كلثوم بعذوبة ذاك البيت الذي رسمه بأتقان احمد رامي من الرباعيات :

غد بظـــهر الغـــيب والــــيوم لــى   وكم يخيب الظـن فى المقــــبل

ولســــــت بالغافـــل حـــــتى أرى     جمال دنـــــــياى ولا أجتـــــلى

فأمتلاك يومك واغتنام لحظاته هو الحل الامثل لهذه الدنيا المليئة بالبؤس والشقاء ولو ادرك القادمون اليها ما عانيناه لما أتوا :

فلاک که جز غم نفزایند دگر

ننهند بجا تا نربایند دگر

ناآمدگان اگر بدانند که ما

از دهر چه میکشیم نایند دگر

وقد اجاد الصافي النجفي في صياغة بعض ابيات الرباعيات وبذات المضمون المتقدم :

إن لم يكن حظ الفتى في دهره ..

إلا الردى ومرارة العيش الردي ..

سعد الذي لم يحيَ فيه لحظة ..

حقا و أسعد منه من لم يولد ..

من هنا يدعو الخيًام الى اغتنام فرصة اللحظة الانية والتمتع بها، فالماضي زائل وفان والمستقبل مستتر وراء ظهر الغيب لا يربح فيه رهان، والباقي هو الحال ولا شئ سواه، الوجود لا وجود له والحياة في الرباعيات لا بداية لها ولانهاية وانها تكرار واجترار .

وُجُودُ ذَا الْكَوْنِ مِنْ بَحْرِ الْخَفَاءِ بَدَا

وَسِرُّهُ لَمْ يَبِنْ يَوْماً لَدَى الأُمَمِ

كُلُّ امْرِئٍ قَالَ وَهْماً عَنْ حَقِيقَتِهِ

وَالْحَقُّ مَا فَاهَ فِيهِ وَاحِدٌ بِفَمِ

تَسَاقَطْنَا كَطَيْرٍ فِي شِبَاكٍ

تُعَانِي مِنْ أَذَى الدَّهْرِ اهْتِضَامَا

وَنَخْبِطُ فِي فَضَاءٍ لَيْسَ يَبْدُوْ لَهُ

حَدٌّ وَلَمْ نَبْلُغْ مَرَامَا

هذه النظرة الى الوجود الإنساني وانك تتقمص قميص الحياة ثم تخلعه رغم انفك قد سبق الخيام اليها أبو العلاء واخرون ولحقه في ذيل التاريخ إيليا أبو ماضي واخرين، وهي فكرة شائعة ولدت مع ميلاد الأديان وانشقت معها الناس بين مجبرة ومفوضة، وليس الخيام ببعيد عن تلك الأجواء، وهو الرياضي والفيلسوف والفلكي وعاش شطرا من حياته في بغداد وهي تعج بالافكار العقائدية والكلامية آنذاك، ومن الطبيعي ان تنعكس تلك الأفكار بين جنبات ما سطره في الرباعيات على الأقل مما هو متيقن الثبوت من تلك الرباعيات ؛ اذ الجدل ما زال مستعرا حول اثبات ان ما جاء في الرباعيات هو من شعر الخيام او من غيره،خصوصا انها عرفت بعد وفاته بثلاثة قرون ونصف، ولم يفكّر أحد ممن عاصره في جمعها .. ولعلها الخشية ولعنة التأريخ، وهذا الامر معقول جدا اذا ما لاحظنا الرباعيات -ونحن المعاصرون - قد اختفت من المكتبات إيران وهي موطن الخيام بعد الثورة الإسلامية، ولم تعد الا بعد وصول الرئيس محمد خاتمي إلى الحكم، لان الخيام بأعين منتقديه ما هو الا جاحد منكر للضرورات من الدين فهو القائل :

لَمْ تَقُلْ لِي مَا قُلْتَ إِلاَّ لِحِقْدٍ

زَاعِماً أَنَّنِي بِلاَ إِسْلاَمِ

أَنَا أَقْرَرْتُ بِالَّذِي قُلْتَ لَكِنْ

أَنْتَ أَهْلٌ لِمِثْلِ هَذَا الْكَلاَمِ ؟

لِيَ نَقْداً سَاقٍ وَعُوْدٌ وَرَوْضٌ

وَلَكَ الْوَعْدُ فِي غَدٍ بِالنَّعِيمِ

دَعْ حَدِيثَ الْجِنَانِ وَالنَّارِ

مَنْ جَاءَ مِنَ الْخُلْدِ أَوْ مَضَى لِلْجَحيم

والحالة العقلانية عند ابي العلاء والتي أشار اليها طه حسين بأنها تميل نحو الميل الديني فتمحوه محوا ... اراها على اشدها عند الخيام وهو المشهور بالرياضي والفلكي اكثر من شهرته كشاعر، ومن الواضحات ان صاحب العقلية الحسابية التي تزن الأمور بالقسطاس المستقيم لا يجد غير العقل جوابا شافيا لمعضلات لا شئ في الدين سوى بسط اليدين للغيب ولا حلَ سواه .

اي آن كه نتيجه چهار و هفتي

وز هفت و چهار دايم اندر تفتي

مي خور كه هزار بار بيشت گفتم

باز آمدنت نيست ؛ چو رفتي، رفتي

فالچهار هي الأربعة، والهفتي هي السبعة، والمقصود العناصر الأربعة من الماء والتراب والنار والريح، والسبعة هي الافلاك...، والإنسان و مصيره هو محصلة لتلك العناصر والأفلاك ... يقول الخيَام اشرب الخمر وقد قلت لك ذلك الف مرة لا مجال لعودتك فأذا ذهبت فانت ذاهب ذاهب ...

سِرُّ الْحَيَاةِ لَوْ أَنَّهُ يَبْدُوْ لَنَا لَبَدَا لَنَا سِرُّ الْمَمَاتِ الْمُبْهَمُ

لَمْ تَعْلَمَنَّ وَأَنْتَ حَيٌّ سِرَّهَا فَغَداً إِذَا مُتَّ مَاذَا تَعْلَمُ ؟

حَلَّقْتُ بِالْفِكْرِ مِنْ فَوْقِ السَّمَا لأَرَى الْ جِنَانَ وَالنَّارَ وَالأَلْوَاحَ وَالْقَلَمَا

فَصَاحَ دَاعِي الْحِجَى فِيكَ الْجِنَانُ زَهَتْ وَالنَّارُ شَبَّتْ وَفِيكَ الْلَّوْحُ قَدْ رُقِمَا

إِنَّ الَّذيْنَ تَرَحَّلُوا مِنْ قَبْلِنَا نَزَلُوا بِأَجْدَاثِ الْغُرُورِ وَنَامُوا

إِشْرَبْ وَخُذْ هَذِي الْحَقِيقَةَ مِنْ فَمِي كُلُّ الَّذِي قَالُوا لَنَا أَوْهَامُ.

هذا هو الخيًام وهذه هي فلسفته في الحياة

لكني سمعت هامسا يقول ان وصايا بوذا هي من جعلت الخيام يركن اليها ويخلع لباس التقوى، وهذا انعطاف كبير في سير المقارنات والدراسات في شعر الخيام، ولم اقصد دعوى التناسخ المنسوبة تكلَفا للرباعيات وهي منه براء، وانما هي مقولة خافتة سمعتها من الفيلسوف الإيراني داريوش شايگان والذي فقدناه خلال الأيام الماضية اثر جلطة دماغية ارقدته في المشفى لايام قلائل ليرحل عنا بهدوء كما كان في حياته هادئا يمش على الأرض هونا لا يثير غبارا، وهذا الفيلسوف المتصوف يعي مايقول لانه متبحر ايَ تبحر في اديان الهند ومولع اشد الولع بالخيام، ويراه الأفضل بين شعراء ايران بمن فيهم مولوي وسعدي . اذن عليَ ان اتتبع هذه المقولة رغم ذكرها في مقابلة خاصة ولم تدوَن في مقالة او كتاب لكنه ذكرها بأحكام وأورد عليها بعض الشواهد ؛ ومن تلكم الشواهد وجود البوذية كديانه في خراسان حيث يقيم الخيام ...ولعله تأثر بتلك الديانه او انعكست كمفاهيم تطفئ ظماءه الآهث وراء إجابات شافية للاستفهامات الكبيرة المحاطة به، فظهرت على شكل وصايا بقوالب شعرية ساحرة، تدعو الى التحرر من قيود التزامات لا لازم لها ولا مبرر، لان الحياة كما يراها عمر الخيام نكد وهم وغم، انها موت متكرر وحياة متكررة وان بدت ثابتة كالشمعة لكنها احتراق متكرر و وهج متكرر وان ظهرت شعلة ثابتة، ولا مخرج الا بالتحلل منها ...

وبصياغة اخرى يمكن وصف حالة شقاء الانسان وبؤسه بأنه كائن ملئ بالامنيات والرغبات اللامتناهية وهنا يكمن سر الشقاء، ومتى ما تغلَب على تلك الرغبات وقيودها فقد تحرر من معاناته وهو سر السعادة، وهذه هي جوهرة وصايا البوذا .

لكن الحياة في الرباعيات كما وصفناها من قبل وكما فهمها الآخرون نهر جار يطفو على سطحه زبد الهموم والغموم،الا ان من سبر الرباعيات وغاص في اعماقها تجلت له الضفة الأخرى من نهر الحياة، فالخيام يدعو الى اقتناص فرصة الحياة والتلذذ بها قبل فوات الأوان وفي الوقت ذاته هو تحذير من فقدان اللحظة الذهنية،وعدم الركون الى التفكير والتأمل :

إِنَّ الأُولَى أَضْحَوا أَسَارَى عَقْلِهِمْ

ذَهَبُوا بِحَسْرَةِ فَاقِدٍ مُتَنَدِّمِ

إِشْرَبْ وَعُدْ كَالأَغْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ

صَارُوا زَبِيباً فِي أَوَانِ الْحِصْرِمِ

فهناك نظرتان للحياة عند الخيام وتفسيران لهما، تفسير ساذج نابع من العقلية الملائية الخطابية التي تتمسك بمفهوم الانحلالية لترتب عليه احكام الكفر و الزندقة والخروج عن الدين، وهو الامر الذي حجب الرباعيات لقرون مديدة، ليس هذا فقط وانما الرباعيات -كما يصفها ذاك الخطيب – بمجونها وخلاعتها هي من صنع الإنكليز نسبت الى عالم مسلم لتخرجه عن اسلامه ولابد من محوها من الوجود ليرجع الصفاء والنقاء للخيام كعالم من علماء المسلمين .

وفي كلامه درجة كبيرة من الصحة في الصناعة الإنكليزية للرباعيات ولولا الانكليز لكانت الرباعيات في طي النسيان، اذ الترجمات عن الفارسية ظهرت بالإنكليزية أولا ومن ثم اينعت وانتشرت وذاع صيتها، وترجمة احمد رامي من الفارسية الى العربية ظهرت متاخرة كثيرا،لكن الفضل كله يرجع اليه وحده في نقل الرباعيات الى العربية من لغتها الأصلية حيث سخًر شطرا من حياته في السوربون للرباعيات وحدها بعد إتقانه الفارسية هناك .

والانكليز هم من جلبوا الزهور من قبر الخيام في نيشابور وغرسوها في وسط لندن، وكانت مكتبة أكسفورد تحوي المخطوطات النفيسة للرباعيات في الوقت الذي كان يحرَم وضعها على رفوف مكتبات ايران والى امد قريب،وهو امر مؤسف حقا !

وعقيدتي ان الفيلسوف حين ينسج متبنياته الفكرية في قوالب شعرية او روائية لا يباح لنا الحكم عليها ضمن قواعد شرعية وضوابط دينية لانها ببساطة خارجة عن تلك الضوابط، غير محدودة بها ولا منتمية لها، بل هما لغتان متباينتان لا جامع بينها، فكيف بلغة الخيال التي لاتقدر الحروف على تبيانها أحيانا ان تحدَها لغة المشرع .

سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر

نادى من الغيب غفاة البشر

هبوا املأوا كأس المنى

قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر

أفقْ وهاتِ الكاسَ أنعِّم بِها

واكشفْ خَبايا النفسِ مِن حُجبها

واروِ أوصالي بِها قبلَما

يُصاغ دنُّ الخمرِ مِن تُرْبِها

هاتِ اسقِنيها أيُّهذا الندَيمْ

أخضِبْ مِن الوَجهِ اصفرارَ الهُمومْ

وإنْ أمتْ فاجعل غَسولِي الطِّلى

وقُدَّ نَعشي مِن فروعِ الكُرومْ

أينَ النديمُ السَّمحُ أينً الصبوحْ

فقدْ أمضَّ الهَمُّ قَلبِي الجَريحْ

ثلاثةٌ هُنَّ أحبُّ المُنى:

كاسٌ، وأنغامٌ، ووجهٌ صبيحْ

فحين اضع في كفة قول اديب واصفا الخمر في شعر الخيام بأنها " مشروع روحي فلسفي لصناعة الجسور بين الوجود والعدم " واضع في الكفة الأخرى قول الخطيب نافيا للرباعيات وأنها " من صنع الإنكليز لنشر الرذيلة ونسبتها الى احد المسلمين " اجد من الظلم ان نزن ادب الخيام او المعري بميزان الخطباء والوعاظ ممن لاحظ لهم في ادب او دين ...

وفي المقابل هناك تفسير ناضج يرى الجانب المشرق في تحذير الخيام من الدنيا والدعوة الى اغتنام فرصة اللحظة الآنية والعيش فيها، وهذا سر لايفهمه من ينظر الى طرف انفه، كيف وقد عكف المدربون الروحانيون اليوم لافهام الناس وتعليمهم على ممارسة قطع التفكير بالماضي والمستقبل والتركيز على اللحظة الانية والتمتع بها، لان العقل لا ينفك من التفكير بالماضي والمستقبل ومتناسيا الحاضر الاني، فأنت الجالس الان اما ان تفكر بشي مضى او بشي آت كالالتزام بموعد ما،وكلا التفكيرين يفسدا عليك اللحظة الانية ويمنعا من التمتع بها .

فبدا التركيز على رياضات خاصة وطقوس معينة تساعد على اغتنام الحظة الانية والتمتع بها، حتى لو تطلب الامر الاستعانة بطقوس عبادية تنتمي الى بوذا والى غيره لتحقيق ذاك الهدف . فأن كان الأثر البوذي بهذا المعنى فالرباعيات تفوح عطرا بوذيا بلا ادنى ريبة .

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم