صحيفة المثقف

الذين صلبوا يسوع الناصري...هل يستحقون العقاب أم الجائزة؟!

jafar alhakeemحوارات في اللاهوت المسيحي (29)

يقوم الإيمان المسيحي على مجموعة متداخلة ومترابطة من الاعتقادات التي تكوّن في مجموعها التصور العام الذي يقدمه هذا الإيمان لطبيعة الحياة والخلق ومسيرة الانسانية وعلاقة الانسان بالخالق.

ومن أهم هذه الاعتقادات هي عقيدة الفداء والصلب وتجسّد الإله بشكل الانسان، وما يرتبط بها من افكار اخرى مثل الخطيئة الاولى الموروثة والخلاص.

وتقدم لنا الميثالوجيا المسيحية، تعديل واضافة على قصة الخلق التي وردت في نصوص سفر (التكوين) من كتاب اليهود المقدس، حيث تلخص الاضافة المسيحية لهذه القصة، التصور الاجمالي لهذه العقيدة حول الخلق ومصير الانسانية !

وحسب قصة سفر(التكوين) ...قام ( آدم وحواء) بكسر تعليمات الرب، واقترفا الخطيئة الأولى حين اكلا من الشجرة المحرمة ، وهنا تبدأ الاضافة المسيحية لتأويل القصة، حيث تمّ اعتبار هذه الخطيئة هي بمثابة (خطيئة غير محدودة!) لانها وقعت بحق اله (غير محدود!)

وتمّ اعتبار أثر هذا الفعل الخاطئ بمثابة موروث جيني سينتقل الى جميع أفراد الذرية التي تنحدر من نسل آدم وحواء !!

وهذا طبعا، ينسف كل قوانين الوراثة وعلم الجينات !.... فالافعال هي بالنتيجة قرار شخصي ولا تستلزم انتقالها وراثيا من الأبوين للابن، فمثلا، الأب الذي يرتكب جريمة السرقة او التزوير، سوف لن يورث فعل هذه الجريمة الى ابنائه ، ولن يكون الابناء مزورين بالوراثة!

وحسب الميثالوجيا المسيحية، وبعد ارتكاب ابوينا لفعل الخطيئة الاولى( الغير محدودة) اصبح الرب الخالق في ورطة!!

لان الرب بطبيعته، يحب البشر ويريد ان يرحمهم ويسعدهم، لكن، بنفس الوقت، تقتضي عدالته المطلقة، معاقبة البشر على الفعل الخاطئ الذي ارتكبه الأبوان في الجنة، والذي انتقل اثمه ومسؤوليته الى جميع افراد الإنسانية في كل زمان ومكان !

وأمام هذا الموقف الحرج، حيث تصادمت محبة الرب مع عدالته، لم يكن أمام الرب الا وضع خطة للخروج من المأزق!

فكان، لابد من ان يقرر الرب بأن يقوم هو بافتداء خطايا البشر بنفسه، ولذلك وجب عليه ان يتجسد على شكل انسان، ويأتي بملئ الزمان، ليقوم بتقديم دمه المقدس الطاهر، على مذبح الفداء والكفارة لخطيئة الانسان، فيحصل بذلك، البشر على الخلاص والغفران !!

ان تنفيذ هذه الخطة الالهية المحكمة، تتطلب وجود أدوات ووسائل تضمن نجاح تطبيقها على أرض الواقع في عالم البشر، ومن بين الأدوات التي يستلزمها سيناريو الخطة، هم البشر الذين سيقومون بتنفيذ تفاصيل ذلك السيناريو، ومن أهم الوسائل لتنفيذه ، هو أن يكون أولئك البشر، غير مدركين بحقيقة الخطة، ولا يعرفون ان ما يقومون به هو تقديم الرب خالقهم وخالق الاكوان الى مذبح الموت، لانهم لو عرفوا تلك الحقيقة الصادمة، لما تجرأوا وأقدموا على فعل هكذا جريمة مزلزلة، الا اذا كانوا مجانين وبلا عقول، وفي هذه الحالة لن يكون عليهم اي حساب ولا مسؤولية!!.....

لأنه ليس على المجنون من حرج!!

النصوص الدينية المسيحية، تؤكد دائما ان شخص يسوع المسيح، قد تم التبشير به ضمن نبوءات كثيرة وردت في متون العهد القديم، ويقينا، ان الغرض من هذه النبؤات المتكررة، هو لكي يعرفه قومه اليهود ويؤمنون به ، حين يأتي إليهم….

ومن أهم تلك النبؤات والعلامات (حسب الرواية المسيحية) التي سينفرد بها يسوع الناصري، وتكون دليلا دامغا على انه هو المسيح المنتظر، هي علامة ولادته العذرية، حيث سيكون الإنسان الوحيد الذي يولد من دون تدخل بشري، والنصوص التي يدعي المسيحيون انها تشير لهذه العلامة الفريدة شهيرة ، وقد ناقشناها في مقالات سابقة.

وهنا يجب ان نتوقف عند نقطة مهمة ومثيرة للتساؤل إلى درجة التعجب ، نظرا لتناقضها وعدم اتساقها مع المنطق !

فالقصة الإنجيلية التي قدمت لنا سيرة حياة يسوع الناصري، أكدت ان قوم يسوع لم يكونوا يعلمون بموضوع ولادته العذرية!

لان خطة الرب اقتضت ان تضع (يوسف النجار) في طريق (مريم) ليكون خطيبها أثناء فترة حملها بيسوع، وبذلك كان الجميع يعتقد ان يسوع الناصري هو الابن الطبيعي ليوسف النجار من زوجته مريم

(وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ:أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟) لوقا4

وبنفس الوقت، لم نجد يسوع الناصري يصحح لهم هذه المعلومة، ويخبرهم انه مولود بطريقة عذرية اعجازية، بل تركهم على اعتقادهم الخاطئ، وبذلك فات عليهم ادراك تحقق اعظم نبؤة ، واهم علامة من علامات مسيحهم المنتظر!!

وبقي (سر) الولادة العذرية محصورا في نطاق الاسرة فقط، ولم يعرفه احد الا بعد مرور عشرات السنين على صلب يسوع حين أخبر عن ذلك السر الأشخاص الذين كتبوا إنجيل لوقا وإنجيل متى(فقط) ولكن بعد ان ( وقعت الفأس بالرأس!!!)

ومن جهة أخرى، وبالوقت الذي نجد ان يسوع الناصري، لم يصرح ابدا بشكل مباشر و واضح للناس، انه هو الإله الذي تجسد وجاء الى هذه الدنيا ، ولم يطلب من الناس بشكل صريح ان يعترفوا له بالألوهية او ان يعبدوه، ولم يدع ذلك ابدا

في الوقت ذاته، نجد يسوع الناصري، احيانا، يصر ويحرص بشكل غريب، على اضلال السامعين له من غير تلاميذه،

و تتويههم، لكي لا يعرفوا حقيقته، فيؤمنوا به، وبذلك يكونوا مستوجبين للغفران !!!

( وأما الذين هم من خارج ، فبالأمثال يكون لهم كل شيء.لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتغفر لهم خطاياهم) مرقص 4

من هذا كله، نستنتج ان القوم الذين عاصروا يسوع الناصري، ولم يؤمنوا به ، وقاموا بمحاكمته وتقديمه الى الصلب، لم يكونوا عارفين بتفاصيل الخطة الالهية الرصينة، وانما كانوا مجرد أدوات قد استخدمها الرب من اجل تنفيذ السيناريو الذي وضعه على مسرح الواقع، وقد قاموا بالفعل بأداء تلك الادوار التي اوكلت اليهم، بعد ان تم خداعهم واستدراجهم من قبل الرب ، ليكونوا مشاركين ( من غير علم ولا اختيار) في تطبيق خطته التي حسمها وقرر تنفيذها بشكل متقن !!

(بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا،

الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ!!!) كورنثوس الأولى 2

ان نجاح خطة الرب، و اتمام مهمته الفدائية، بعد اكمال عملية صلب يسوع الناصري، قد ضمن الخلاص والنجاة لمليارات البشر من الذين آمنوا بهذه القصة ( العقيدة حسب الايمان المسيحي)

والسؤال الذي يطرح نفسه الان، حول الناس الذين تسببوا بشكل مباشر او غير مباشر في صلب يسوع الناصري، ونجاح خطته الإلهية، وخلاص مليارات البشر، الا يستحق هؤلاء المكافأة على مشاركتهم في نجاح الخطة وإنقاذ البشرية؟!

وقد يأتي الجواب على الشكل التالي، وهو ان هؤلاء القوم، قد ارتكبوا جريمة بشعة، وهي تقديم انسان بريئ الى الموت، و يستحقون العقوبة على هذه الفعلة حتى وان كانوا جاهلين بحقيقة الوهية يسوع الناصري

وهذا الجواب مهم، وجدير بالاعتبار، ولكنه بنفس الوقت، يتعارض مع نصوص الكتاب المقدس!

حيث اننا نجد في العهد الجديد، ان انجيل لوقا ينفرد بذكر معلومة مهمة جدا في اطار سرد تفاصيل قصة الصلب ، رغم ان السيد (لوقا) لم يكن من ضمن شهود العيان الذين حضروا أحداث تلك القصة !

فقد ذكر انجيل لوقا في الإصحاح 23 ان يسوع الناصري في طريقه الى الصلب، قال وهو يخاطب الرب:

(يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ)

وهنا يجب ان يستوقفنا هذا الدعاء الصادر من الرب المتجسد الى النسخة السماوية من الإله ( الآب) والذي يتضمن طلب الغفران للذين ساهموا بتقديم يسوع الناصري الى مذبح الموت ، مع الاخذ بالاعتبار ان يسوع الناصري حينما تقدم بهذا الطلب ، كان بالتأكيد جادا وحريصا على شمولهم بالمغفرة، ولم يقل كلمات دعائه لغرض المجاملة او الدعاية!

لان يسوع الناصري كان على يقين بأنه حين يدعو ويطلب من الرب، فإن طلبه سوف يتم قبوله وتحقيقه

(وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي) يوحنا 11

وبناءا على ما ذكره إنجيل (لوقا) فإن القوم الذين قاموا بضرب وتعذيب واهانة يسوع الناصري ومن ثم صلبه، قد غفر لهم حسب طلب الإله المتأنسن (يسوع) من الإله السماوي ( الاب) ، مع ملاحظة ان طلب المغفرة قد جاء حتى من دون ان يؤمن هؤلاء القوم بيسوع و لا بألوهيته ، بل أثناء تماديهم وإصرارهم على فعلتهم !

وقد يجيب البعض، ان هذا امر طبيعي ، لان يسوع هو الرب الذي يحب البشر ، ويغفر حتى للمسيئين إليه

وهذا كلام رائع وجميل ويدعو للتفائل ، لكنه مع الاسف يصطدم مع حقائق اخرى ذكرها العهد الجديد، تجعل المغفرة والخلاص احتكار (حصري) للمؤمنين الذين تتطابق عقيدتهم مع المسيحيين فقط !

فالعقيدة المسيحية تضع الإيمان بيسوع المسيح، وقبول عمله الكفاري على الصليب شرطا لنيل الخلاص وبه يتبرر الإنسان

(آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ) اعمال الرسل 16

وبدون الايمان ، لن يحصل الانسان على الخلاص والمغفرة، وسيكون مصيره الابدي هو العذاب في بحيرة النار والكبريت مع المجرمين والزناة والقتلة، حتى لو قضى حياته كلها بفعل الخير والمحبة والأعمال الصالحة ...فلن تنفعه !!!!

(وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي) سفر الرؤيا 21

من كل ما تقدم، لابد ان يقف المرء حائرا أمام هذا التناقض والاضطراب، بين النصوص والعقائد المشتقة منها، فالرب حسب الميثالوجيا المسيحية، حبوب وحنون وغفور للذين عاصروه، ولم يؤمنوا به ، بل كذبوه واهانوه وصلبوه، لكنه بنفس الوقت صارم و حاسم تجاه مليارات البشر (من غير المسيحيين) الذين لم يؤمنوا بقصته، وربما لم يسمعوا بها اصلا، او وصلتهم بعد مئات والاف السنين ، ولم يصدقوها او تعاملوا معها على اساس انها ليست سوى خبر تاريخي، لا يمكن التحقق من مصداقية جميع تفاصيله !

ان هكذا ميزان للعدالة الإلهية، لا بد وان يكون مصابا بالعطل او الاعوجاج المتحيز، وليس أمام العقل السليم سوى رفضه

وعدم القبول به….او السير خلف قاعدة...اغلق عقلك.... لتؤمن….فتنجو !!!

 

د. جعفر الحكيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم